»هناك أدركت مدي كذب »الإخوان» واستغلالهم الدين لجمع الأموال بدعوي الإغاثة الإنسانية.. وعرفت أن ما تسوقه لنا وكالات الأنباء من أخبار معظمه موجه» البداية قبل زيارتي الأولي إلي سرايفو كانت كل معلوماتي عن البوسنة والهرسك هي أرض حرب سفك فيها دماء المسلمين!.. تغيرت هذه النظرة 180 درجة مع زيارتي لها نهاية عام 1994.. فالبوسنة رغم جوها شديد البرودة فهي بدون مبالغة من أجمل بقاع الأرض.. ففيها الطبيعة الساحرة والجبال الشاهقة والغابات ومنابع المياه والشلالات والبحيرات وكل ذلك يكسوه اللون الأخضر.. أما مبانيها فحدث ولا حرج تجمع ما بين العمارة الإسلامية من مساجد ومكتبات ومدارس وكباري أقيمت أثناء الاحتلال العثماني والطراز الأوروبي الذي تم بناؤه في الحكم النمساوي.. وشعبها يتكون من ثلاث عرقيات الأغلبية من البوشناق المسلمين ويشكلون 48٪ من السكان والصرب 37.1٪ والكروات14.3٪ بالإضافة إلي أعراق أخري. استغرقت زيارتي الأولي 8 أيام قضيت خمسة منها في سراييفو.. فبعد ساعات قليلة هبطت الطائرة المصرية في مطار »زغرب» الكرواتي تحمل مجموعة من الصحفيين والإعلاميين.. وضعنا حقائبنا في الفندق الذي سنقضي فيه ليلتنا قبل الطيران إلي سراييفو في اليوم التالي وخرجنا للقاء الفريق برتراند دي لابيريل قائد قوات الأممالمتحدة في يوغسلافيا السابقة.. وبعد عبارات الترحيب وتقديم قناع للرأس وكاب من الفرو لحمايتنا من البرد القارس والثلوج شرح لنا الفريق برتراند الموقف في »البوسنة والهرسك» وتوقيع اتفاق لوقف إطلاق النار بين الأطراف المتصارعة فيما عدا منطقة »جيب بيهاتسن» لوجود أطراف أخري في الصراع مؤكدا ان شعب وسلطات البوسنة يقرأون تاريخهم جيدا منذ عدة قرون لمعرفة من المسئول عن الوضع الحالي ويتأثرون نفسيا به ويتبادلون الاتهامات ولو أنهم استخدموا معرفتهم للإعداد للمستقبل لم يكن الصراع قد بدأ. وقبل أن أسأل ابتسم الفريق برتراند لي قائلا تريد ان تسألني عن رسل السلام المصريين في سراييفو.. وأقول لك أنا منبهر بكفاءتهم فلديهم مهام كثيرة من فتح نقاط الملاحظة والتفتيش وتسليم المساعدات الإنسانية والعمل علي عودة الحياة الطبيعية للمدينة بأسرع وقت.. وينفذون كل مهامهم بصورة متكاملة.. ومكافأتهم يرونها في عيون وابتسامة الأطفال الذين يساعدونهم... وأقول لكم قبل أن أترككم لتتناولوا طعام الإفطار إنه لاحلول عسكرية لأي صراع هنا أو في أي مكان فالحل دائما في الجلوس علي مائدة التفاوض وإعطاء مساحة كافية للدبلوماسيين لمناقشة مستقبلهم والتوصل لحل سلمي نهائي. شوربة الكرنب كان كل ما أعرفه عن »الكرنب» قبل ذهابي إلي »زغرب» هو حلة المحشي التي تصنعها لنا أمي رحمة الله عليها.. فمع انتهاء لقاء قائد قوات الأممالمتحدة في يوغسلافيا السابقة بدأ الظلام يلف المكان معلنا ان موعد »إفطار رمضان» قد حان.. ذهبنا إلي »ميس» القيادة لتناول الطعام الذي يتواكب مع وجبة العشاء في أوروبا من السادسة حتي الثامتة مساء.. وقبل أن أقدم »الصينية» إلي الطباخ وجدت مرافقي من رسل السلام المصريين يبعدني عن كل الأصناف الشهية من اللحوم والسلطات لأن بها لحم او شحم »خنزير» وأوصاني بشوربة لونها غريب والأرز الأبيض وأجنحة الفراخ مع كوب عصير برتقال واكتشفت أنها »شوربة كرنب» ذات مذاق رائع.. تركنا القيادة وتجولنا في العاصمة الكرواتية نشاهد المحلات التي علي وشك الإغلاق واستوقفتني فتاة بزي مدرسة تطلب مني »5 كرونه» لشراء سندوتش برجر.. وعندما اعتذرت لعدم وجود عملة كرواتية معي ذهبت إلي ثان وثالث.. وزال تعجبي عندما عرفت ان هذا الأمر شئ عادي من طلاب المدارس وليس تسولا.. وبعد أن أنهينا جولتنا ذهبنا إلي السوبر ماركت الوحيد الذي يعمل حتي الثانية عشرة مساء في مترو الأنفاق أمام المحطة الرئيسية للقطارات في زغرب لنشتري الزبادي والجبن والعيش لوجبة السحور. بحثت عن »أزرار» التكييف في حجرتي بالفندق فلم أجده.. وعندما سألت خدمة الغرف عرفت أن التدفئة في كل المدينة مركزية من محطات تدفئة منتشرة بالأحياء مرتبطة بأنابيب موصولة بكل الشقق بالمباني السكنية مثل الكهرباء والمياه والغاز.. ونظرت في ساعتي ووجدتنا بعيدين جدا عن موعد السحور فقررت أن أستطلع الشوارع حولنا وفوجئت بأن البارات خاوية من الزبائن وليس كما نشاهده في الأفلام الاجنبية.. فالأسر في منازلها تستعد ليوم عمل جديد.. وفي السابعة صباحا شاهدت طابور الصباح بالمدرسة المجاورة للفندق. فالدراسة والعمل هما حياة الناس في أوروبا تشاهدهم في زحام المترو بالثامنة صباحا وأثناء راحة الغداء من الثانية عشرة وحتي الثانية بعد الظهر ولا تجد في الشوارع طوال اليوم إلا قلة قليلة من كبار السن يشترون الصحف أو يستمتعون بدفء الشمس أو يدفعون عربة أطفال أمامهم.. فالكل يأخذ قسطا وفيرا من النوم والراحة ليبدأوا العمل في اليوم التالي بنشاط وابتسامة. رسل السلام عندما نقلتنا طائرة من زغرب إلي سراييفو عرفت مهارة الطيارين المصريين.. كان شعوري داخل الطائرة الروسية العسكرية أنني لبن في قربة يتم خضه لاستخراج القشطة.. وصلنا إلي مطار سراييفو القابع بين الجبال.. ووجدنا مدرعتين مصريتين من طراز الفهد في انتظارنا.. أخذنا نستطلع الأمر من الفتحة العلوية من المدرعة.. الجو هنا شديد البرودة ودرجة الحرارة لاتتعدي 5 درجات مع سطوع الشمس.. الشوارع خاوية إلا من أعداد قليلة لا تذكر.. والمباني البديعة تظهر عليها طلقات الرصاص والسيارات المحترقة تم رصها فوق بعضها لحماية السكان من نيران القناصة.. وأسمع صوت صفير حولنا وينادي علينا الضابط المرافق بالنزول داخل المدرعة ومشاهدة الطريق من »المغازل» الصغيرة علي الجانبين فالقناصة أطلقوا رصاصات علينا.. ويرحب بنا قائد كتيبة رسل السلام المصريين والذي تولي بعد ذلك بسنوات قيادة المنطقة الشمالية العسكرية ويخبرنا أننا مدعوون علي مائدة إفطار يحضرها عدد من الأهالي والمسئولين.. وأستأذن في جولة حول مقر الكتيبة وأشاهد السعادة والحب بين قواتنا من أفراد وضباط وسكان منطقة »البستريك» وهم يحصلون علي وجبة ساخنة ومساعدات إنسانية.. وألتقي مع فتاة فائقة الجمال وأعرف أن اسمها أمل من أب سوري وأم بوسنية وأنها حاصلة علي الثانوي تمريض وعملت ممرضة أثناء الحرب وشاهدت الدماء البريئة التي تسال.. وقالت: والدي مات في الحرب.. ومنزلنا تهدم من القصف وانتقلنا إلي شقة أخري.. المصريون يساعدون الأطفال الذين فقدوا أسرهم بالطعام والملابس.. وتقودني قدماي إلي كوبري مجاور لمقر الكتيبة المصرية بمنطقة البستريك تمر من أسفله مياه هادئة نقية في نهر ميليسكا ويخبرني مرافقي أن هذا الكوبري كان سببا في اندلاع الحرب العالمية الأولي والتي راح ضحيتها أكثر من 38 مليون جندي عندما قام الناشط الصربي »جافريلو برنسب» في 28 يونيو 1914 بعد توترات سياسية باغتيال ولي عهد العرش النمساوي الأرشيدوق فرانز فرديناند علي الكوبري فغزت النمسا صربيا لتتدخل روسيا وباقي القوي الأوروبية في حرب استمرت حتي 11 نوفمبر 1918 بين الحلفاء ودول المركز. الضحكة مصرية نعود إلي مقر كتيبة السلام في أحد أبنية الجيش اليوغسلافي السابق لتناول طعام الإفطار وأشعر أنني بين أسرتي المصرية..فسيمفونية حب يعزفها أبطالنا أشادت بها الأممالمتحدة..فابتسامتهم دائمة في وجه المدنيين ضحايا الصراع علي السلطة.. كل شئ هنا مصري حتي الضحكة مصرية.. وفانوس رمضان يضيء المدخل.. وقرآن وأذان المغرب تسمعه وعرفت أن ذلك يذاع لأول مرة في اذاعة سراييفو.. ويجذبني شاب يتحدث العربية قائلا إنه خريج كلية الفلسفة في صربيا.. عاش 15 عاما في سراييفو وقضي عامين في ليبيا.. وأنه كانت هناك نذر لوقوع الحرب فهناك أحزاب كثيرة والبرامج مختلفة والمعلومات متضاربة.. لكنه لم يتصور أن بلده بهذا الضعف...ويقول لي نائب قائد قطاع سراييفو أن اكثر من 120 ألفا من السكان أصبحوا لاجئين.. وتتمني الطالبة »سال» ان تنتهي الحرب لتري أصدقاءها المهاجرين من جديد وتعود لها أمها التي انضمت للجيش البوسني ومعها أخوها الصغير »حسن».. ويضيف »قاسم» ان الحرب حرمته من الالتحاق بالجامعة وأصدقاؤه الصرب تركوا البلد.. وكل ما يتمناه ان تنتهي الحرب والفوضي وعدم الاستقرار الذي ادي إلي انتشار العصابات والمخدرات والمافيا.. ويهمس لي أحد أفراد الشرطة قائلا: منذ 3 سنوات لا أقبض مرتبا بعد ان كنا نحصل علي ألف دولار شهريا.. فقط كل ما أحصل عليه 15 علبة سجائر شهريا. نترك الكتيبة بعد ان ارتدينا الملابس الثقيلة والقفازات وغطينا وجوهنا بالأقنعة فدرجة الحرارة تحت الصفر وإذا تجمدت الأطراف سهل كسرها.. ووصلنا إلي مبني الإذاعة والتليفزيون..مبني خاو مظلم فقد سرقت الأجهزة ومحطات الإرسال مع فوضي الصراع وعدم الاستقرار.. وتقول لي رئيسة اتحاد الاذاعة والتليفزيون: نحتاج مئات الملايين لتعود الأمور إلي طبيعتها.. ونعمل بالإمكانات المتاحة لدينا ولأول مرة نذيع القرآن وأذان المغرب في البوسنة.. ومن مشاكلنا افطار الصائمين من العاملين فلدينا ما يقرب من 100 شخص.. ويبادر رسول السلام المرافق لنا قائلا إنه سيوفر لهم طعام الإفطار من الوجبات الخاصة بهم.. ونعود إلي مقر الكتيبة لننعم بسهرة رمضانية نتبادل فيها الحوارات وأعرف أن رسل السلام المصريين وضعوا المستشفي الخاص بهم في تخصصات الجراحة والباطنة والأسنان لخدمة المدنيين من أهالي سراييفو. النهاية في صباح اليوم التالي بعد ان شاهدنا عرضا لأبطالنا من رجال الصاعقة في »طابور الإعاشة» كان علينا ان نرتدي صديريا واقيا وزنه 35 كيلو سيراميك بالإضافة إلي خوذة فنحن في طريقنا إلي نقطة »بالي» وهي أحد المواقع المهمة التي يمارس فيها رسولنا مهمة السلام.. وجدنا أبطالنا يقفون برجولة بنقطة مراقبة محصنة تفصل ما بين قوات صربية وأخري بوسنية يحتل كل منها جبلا.. ويقول لي أحد ضباط الصف أنهم تدربوا علي كل المهام.. ويشعرون بالفخر لأنهم يمثلون مصر.. نأخذ جولتنا في نقطة المراقبة لاتفاق وقف إطلاق النار ونعود بسلام لنستكمل زيارتنا بعد أن أدركت مدي كذب »الإخوان» واستغلالهم الدين لجمع الأموال بدعوي الإغاثة الإنسانية.. وعرفت أن ما تسوقه لنا وكالات الأنباء من أخبار معظمه موجه.. وليس هناك حرب دينية ولكن صراع عرقي بين البوشناق والصرب والكروات علي كرسي الحكم... وأعود بعد 5 سنوات في زيارة ثانية لجنة أوروبا مع وداع بالدموع من أهالي سراييفو لرسل السلام المصريين عند مغادرتهم واستقرار الأوضاع وتقسيم مناصب الحكم وللزيارة الثانية يوميات أخري.