وبسبب ظلم وفساد النشو لم يبق في مصر إلا باكٍ أو صائح أو نائح مع استقرار بنية الفساد يصبح لها منظومة وقوانين، معظمها غير مكتوب، والقليل منها يطوع القوانين القائمة بالفعل، ومع شخصنة الدولة يفتح الباب امام الافاقين والمغامرين، ومن يعملون في خدمة المافيا الدولية، خلال العقود الاربعة الماضية عرفنا اسماء صعد اصحابها من المجهول إلي الصدارة.. بعضهم عن طريق المصاهرة، اي ان النساء كن الوسيلة، وللامير المؤرخ ابن تعزي بردي كتيب صغير توجد نسخة منه في دار الكتب، وللاسف لا استطيع نشر عنوانه حتي لا اخدش الحياء العام، انه يحصي باختصار اسماء الذين حازوا الثروة واعتلوا المناصب نتيجة الزواج والمصاهرة والنسب أو العلاقات غير المشروعة، اي ان المرأة كانت هي الوسيلة، باستثناءات قليلة، اذكر منها علي سبيل المثال الحاج محمود العربي، وآل ساويرس، وهؤلاء نعرف اولهم وبالتالي آخرهم. فإن معظم اثرياء الانفتاح جاءوا من المجهول، كونوا ثروات رهيبة لانهم اصبحوا في موقع القرب، وبعضهم ذو صلة وثيقة بالمافيا الدولية، صعود كل منهم يحتاج إلي روايات تنتمي إلي مذهب اللامعقول. انني استعيد هنا مثالا من العصر المملوكي، وقد كتبت هذه التفاصيل وانا اعد لكتابة »الزيني بركات« في نهاية الستينيات، انها قصة صعود وانحدار شرف الدين بن عبدالوهاب النشو، فلنتأملها جيدا. النشو يفصلنا عن شرف الدين عبدالوهاب النشو سبعة قرون هجرية، مات الرجل منذ زمن بعيد، ولكنه مازال يسعي بيننا هذا ما تقوله سيرته وأفعاله، وما تقوله سيرة وأفعال الكثيرين ممن يعيشون حولنا الآن. والنشو لم يكن بطلا من ابطال التاريخ، انما كان رجلا عاديا، بدأ حياته بخدمة الامراء في زمن السلطان الناصر ابن محمد بن قلاوون، كان مستخدما عند ابن هلال الدولة شاد الدواوين، وكان يتردد عليه كثيرا ويبالغ في خدمته، واستخدمه ابن هلال الدولة في الاشغال، وأثناء ذلك تزوج الامير انوك ابن السلطان من ابنة الامير بكتمر الساقي، وبدأ السلطان يفكر في شخص بعينه لخدمة ابنه، ولابد انه فكر في النشو، كان النشو قد وقف بين يديه أكثر من مرة، وتحدث اليه، وعندما كان يتكلم إلي السلطان كان يركز كل حواسه، ومواهبه حرصا علي ان يترك أثرا في نفس السلطان، في صفر سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة هجرية، التحق النشو بخدمة الامير انوك، وكان هذا أول صعوده. أصبح النشو قريبا من السلطان بحكم موقعه الجديد، وصار يتردد كثيرا علي القلعة، يخلو إلي السلطان، ويحادثه في امور الدولة، ويبدي: الحرص البالغ علي اموال السلطان، ومصالحه وسير العمل في الدواوين، وفي أثناء ابدائه بالحرص، كان يرمي عبارات هنا وهناك في حديثه في البداية كان يلفظها بحذر، ثم لاحظ ان اذني السلطان مصغيتان اليه فزاد من الدس والوقيعة، وكان مظهره يساعده، انه طويل القامة، مليح الوجه حلو التقاطيع، بريء السمات، اثر كلامه في نفس السلطان حتي بات مقتنعا ان النشو بحرصه عليه يمكنه ان يحصل له مالا كثيرا، فاصدر مرسوما بأن يتولي النشو نظارة الخاص، أي يكون مسئولا عن اموال السلطان وممتلكاته، وهذه وظيفة مهمة جدا، ولكن النشو لم يهدأ ولم يتوقف اخذ يتحدث إلي السلطان عن اولاد موظف كبير اسمه التاج اسحق، راح يحدثه عن الاموال التي جمعوها بالباطل، وكرههم له، وكان أحد هذين الولدين قد تولي وظيفته في نفس اليوم الذي عين فيه النشو ناظرا للخاص، وهو شرف الدين موسي، لم يمض الا عشرون يوما فقط، وعمل كلام النشو عمله في السلطان، فأصدر مرسوما بعزل شرف الدين موسي من نظر الجيش، وأمر بالقبض عليه، وعلي شقيقه، ومصادرة ثروتهما، وكان اسلوب السلطان الناصر قلاوون غريبا في ضرب موظفيه، لقد استدعي ابن هلال الدولة، واسر اليه ان يمضي ليحاصر بيوت اولاد التاج اسحق بمجرد دخول الامراء البلاط، وبالفعل دخل الامراء، وكبار موظفي الدولة - وبينهم شرف الدين موسي - الي السلطان، عندئذ التفت السلطان إلي القضاة وأخذ في الثناء علي شرف الدين، وقال في آخر كلامه: »انا رأيت هذا وعملته كاتبي« في هذه اللحظة بالذات كان الجنود يحيطون بيته، وبيت شقيقه، وعندما خرج من البلاط، واتجه إلي مقر وظيفته، كانت العيون تحيطه بالرهبة، ألم يثن عليه السلطان علنا، ولكنه ما ان جلس بديوان الجيش حتي بلغه ان الحوطة قد وقعت علي بيته، وان رسل الديوان علي باب الجيش، وبلغ الخبر أيضا إلي أخيه علم الدين، وفي العصر صعد ابن هلال الدولة بأوراق الحوطة »كشوف جرد المحتويات« وهي تشتمل علي اشياء كثيرة جدا، منها علي سبيل المثال، اربعمائة سروال لزوجة علم الدين، امر السلطان بتسليم الاخوين إلي ابن هلال الدولة للتحقيق معهما، والتوصل إلي الثروات المخفية، واحضرت آلات التعذيب، من اسواط ومعاصير وسئل موسي عن صندوق ذكر انه اخذه من تركة ابيه، فيه من الجواهر والذهب ما يبلغ مائة الف دينار، وكان النشو قد افضي الي السلطان بوجود هذا الصندوق، فأنكر ذلك، وأقسم الايمان المغلظة، فرق له ابن هلال الدولة ولم يعذبه، وهنا استنكر النشو ذلك، وأخذ علي ابن هلال الدولة هذه الرقة، مع ان الرجل هو أول من استخدمه، وهو ولي نعمته، واضطر ابن هلال الدولة الي التضييق علي موسي لينتزع منه كل ما لديه، ان النشو الآن لا يقيم وزنا لابن هلال الدولة، انه يتحدث إلي السلطان رأسا، والكلام يخرج من فمه الي اذني السلطان رأسا، كما انه لم يكن يدع فرصة الا ويظهر فيها اخلاصه وولاءه عند عودة السلطان من الحج، تولي النشو الاشراف علي مظاهر الاحتفال، خرج الناس للقاء الناصر، وغلقت الدكاكين والاسواق، وجمع النشو من الامراء الابسطة، والمنسوجات الحريرية الثمينة المشغولة بالذهب، وبسطها فوق الارض امام القلعة، وحتي مقعد السلطان، وتمضي الايام، ونفوذ النشو يقوي، ويتزايد، يقول المقريزي في كتابه السلوك لمعرفة دول الملوك: »وفي هذا الشهر كثرت مصادرات النشو للناس، فأقام من شهد علي التاج اسحق انه تسلم من المكين صندوقا فيه ذهب وزمرد وجوهر مثمن، فرسم لابن الحسني بعقوبة موسي بن التاج اسحق حتي يحضر الصندوق، وطلب النشو ولاة الاعمال وألزمهم بحمل المال، وبعث اخاه لكشف الدواليب بالصعيد وتتبع مواشي ابن التاج اسحق، فقدم قنغلي والي البهنسا وقشتمر والي الغربية وفخر الدين اياس متولي المنوفية وعدة من المباشرين فتسلمهم ابن هلال الدولة ليستخلص منهم الاموال. كان النشو اذا اضطهد شخصا فإنه يتتبعه حتي يدمره تماما، ويتتبع أي إنسان يمت إليه.. هكذا فعل مع موسي بن التاج اسحق. يستعين بالأشخاص ذوي السمعة السيئة والأشرار بدأ النشو يعتمد علي أقاربه، وأرسل أخاه واسمه المخلص إلي الصعيد في مهمة، عاد منها ليقدم اليه تقريرا عن ثروات مباشري الوجه القبلي، وطلع النشو إلي السلطان، راح يفريه بهم جميعا، ويتحدث عن اتلافهم مال السلطان، وهنا صدر مرسوم بالحوطة علي جميع مباشري الوجه القبلي، واعتقالهم، وطلب النشو تجار القاهرة ومصر، وطرح عليهم عدة اصناف من الخشب والجوخ والقماش، بثلاثة أمثال قيمتها، كان يبيع بضائع السلطان بأسعار مرتفعة جدا، وهكذا يحصل له علي اموال طائلة، في الوقت الذي بدأ هو بتكوين ثروته ولكن في حذر شديد، وكان السلطان الناصر يصدر أحيانا بعض المراسيم التي تتسم بالخير، وهكذا اصدر مرسوما بمسامحة الامراء في الاموال المدينين بها للديوان، ولكن النشو لم ينفذ هذا المرسوم، وألزم مباشري الامراء بتسديد هذه الاموال، وركب الي السلطان، واوضح له قيمة الاموال التي يمكن ان تضيع نتيجة لهذه المسامحة، وان مال السلطان يضيع ويتبدد، وان الدواوين تسرق بحجة مسامحة الامراء، وتأثر السلطان بما سمعه، ومكن النشو من عمل ما يختاره، والا يسامح أحدا بشيء مما عليه للديوان، وشق ذلك علي بعض الامراء، فراجع الامير قوصون السلطان، ولكنه لم يجبه إلي شيء عندئذ كف الامراء عن السؤال، وعظم النشو في أعين الناس واستعان النشو بالاشخاص ذوي السمعة السيئة، استدعي الشمس بن الازرق وكان ظلوما غشوما، فكتب له اسماء ارباب الاموال من التجار، وفرض عليهم قماشا بثلاثة أمثال قيمته. يقول المقريزي: »وعمت مضرة النشو الناس جميعا، وانتهي اليه عدة من الاشرار، ونموا علي الكافة من اهل الوجه القبلي والوجه البحري، ودلوه علي من عنده شيء من الجواري المولدات لشغف السلطان بهن، فحملت اليه عدة منهن بطلبهن من اربابهن، وسعوا عنده بأرباب الاموال أيضا، فدهي الناس منه بلاء عظيم«. وبين الحين والآخر، كبار رجال الدولة يفضون بشكواهم إلي السلطان، ولكنه كان ينهرهم، ويبدي الثقة بالنشو، واذن له في عمل ما يختاره، وان يتصرف في امور الدولة كما يشاء وألا يبالي بأحد، ووعده بتقوية يده، وتمكينه ومنع من يعارضه، بل ان السلطان استدعي اخوة النشو واقاربه، وعينهم عند كبار الامراء، فجعل المخلص أخ النشو مباشرا عند الامير سيف الدين الناق، واستخدم أخاه رزق الله عند الامير ملكتمر الحجازي، واستخدم صهره ولي الدولة عند الامير ارغون شاه، وخلع عليهم. انبسطت يد النشو، واشتدت وطأته واستدار ليضرب أول شخص أحسن اليه، وكان بداية صعوده التفت إلي ابن هلال الدولة نفسه. ابن هلال الدولة يلزم بيته بتدبير من النشو أخذ النشو في التدبير علي ابن هلال الدولة، رتب عليه انه اخذ من مال السلطان جملة، وانه اهمل في المحافظة علي أمور السلطان، وانه بسببه ضاع مال كثير، وانتدب لتحقيق ذلك ثلاثة، امين الدولة بن قرموط المستوفي، والشمس بن الازرق ناظر الجهات، وشخص ثالث اسمه لؤلؤ الحلبي، وحدد يوم للمواجهة، بالطبع رتب النشو كل كبيرة وصغيرة، انعقد المجلس في القلعة، وفي البداية برز قرموط، وواجه ابن هلال الدولة بأنه اهمل الامور، وبرطل »رشا« بالاموال، ولم يستمع السلطان الي الباقين، بل امر ابن هلال الدولة ان يلزم بيته، وعين شخصا آخر بدلا منه في وظيفته، وامر بدر الدين لؤلؤ الحلبي باستخلاص الاموال، قبض علي ابن هلال الدولة، وصودرت أمواله، وهكذا اجهز النشو علي ولي نعمته، والذي كان وجوده يذكره بأيام الزمن القديم عندما كان موظفا صغيرا في خدمته. ثم اختار النشو شخصا قاسيا، غتيتا، هو ايدكين الادكش لولاية القاهرة، وبدأ نشاطه بمهاجمة البيوت، ومصادرة الأموال، وصار يتنكر في الليل ويمشي في ازقة القاهرة، فإذا سمع صوت غناء أو شم رائحة خمر هاجم المكان وأخذ من أهله أموالا طائلة طبقا لاحوالهم، وكان النشو يوجهه، وينفذ اغراضه من خلاله، ولما تزايد أمر ايدكين.