رئيس المنطقة الأزهرية بالغربية يتابع بدء امتحانات نهاية العام لصفوف النقل    جامعة الزقازيق تناقش آليات تطبيق «الكتاب التفاعلي» بكلية التربية النوعية    بعد 11 عاماً من الإنكار.. اعترافات متحدث الإخوان الإرهابية تنسف كذبة "سلمية رابعة والنهضة"    «مدبولي» يتفقد مشروع إسكان «جنة» بمدينة دمياط الجديدة    غدًا.. البرلمان يناقش مشروع قانون التأمين الموحد بعد 3 سنوات من إحالته إلى لجنة مشتركة    رئيس مياه البحيرة حل مشكلة انقطاع وضعف الخدمة بقرية الحمرة بمركز كفرالدوار    أيمن الجميل: الاتفاق مع البنك الدولى بقيمة 6 مليارات دولار يشجع الاستثمار الأجنبى ويضاعف الثقة فى الاقتصاد الوطنى    وزير صيني: الاعتراف بدولة فلسطين في الأمم المتحدة خطوة لتصحيح ظلم تاريخي    مراسل "إكسترا نيوز" يرصد استمرار دخول المساعدات إلى غزة من معبر رفح    الأهلي يضع قدمًا في النهائي بعد التعادل السلبي مع مازيمبي    تشكيل طرابزون سبور الرسمي أمام قيصري سبور في الدوري التركي    انتهت أبطال إفريقيا - مازيمبي (0)-(0) الأهلي.. تعادل سلبي    الشباب والرياضة بالقليوبية تطلق مبادرة سيناء الكرامة بمختلف مراكز الشباب    تشكيل الزمالك 2005 لمواجهة القناة في نهائي كأس الاتحاد للشباب    تأجيل محاكمة متهمي «رشوة مياه أسوان» إلى 23 يونيو    إصابة 11 عاملا في حادث غرق سيارة داخل ترعة ببني سويف (أسماء)    انتهاء تصوير فيلم "الهوى سلطان" استعدادًا لعرضه بدور السينما    تامر حسني يصعد مسرح «مهرجان المدارس» بسيارته الخاصة بصحبة ابنائه (تفاصيل)    التنورة والفلكلور الواحاتي في ختام برنامج التوعية التثقيفية بالوادي الجديد    «متجوزين وكل واحد قاعد في شقة».. مبروك عطية يرد: «بنخترع حاجات تودينا النار» (فيديو)    لإدارتهم أزمة انقطاع الكهرباء.. تكريم طاقم تمريض مستشفى أبوتشت المركزى بقنا    جراح مناظير عام: مرضى السكري أكثر الأشخاص عرضه لتقرح القدم    السياحة والآثار تكشف حقيقة اختفاء سرير يزن طنا من الفضة بقصر محمد علي بالمنيل    فريدة الشوباشي: الولايات المتحدة سبب خراب العالم    روسيا تعلن إنشاء مركز أبحاث وإنتاج للطائرات بدون طيار والأنظمة الروبوتية    تراجع أسعار سيارات شيري موديل 2024 في مصر.. اعرف القائمة الجديدة    الصحة تكشف ضوابط وإجراءات أداء مناسك الحج    غدًا، "حياة كريمة" تنظم قافلة طبية مجانية بقرى المنيرة بواحة الخارجة    جوارديولا: أنا معجب بليفربول..منافسنا الحقيقي ل 7 سنوات    اتحاد الكرة يستبعد إقامة ودية بين منتخبي مصر وفرنسا    مفتي الجمهورية: الاجتهاد الجماعي أصبح مبدأً لا يمكن الاستغناء عنه    وزيرالمالية من واشنطن: الوضع الاقتصادي بدأ يتحسن.. وحققنا مؤشرات جيدة في 9 أشهر    تأجيل محاكمة المتهمين بقت ل سائق توك توك لسرقته بالإكراه فى القليوبية    «الداخلية» حملات لمكافحة جرائم السرقات تضبط 17 متهمًا ب 4 محافظات    للاطمئنان على صحة الأنبا أبوللو.. وزير الأوقاف يزور مطرانية سيناء الجنوبية|صور    وكيل «مطروح الأزهرية» يتفقد فعاليات البرنامج التدريبي للشؤون الوظيفية    وزير الخارجية: جهود مكثفة من مصر لدعم غزة منذ اندلاع الحرب    وديعة البنك الأهلى.. كيف تحصل على عائد 2000 جنيه شهريًا؟    ميدو يوجه رسالة إلى إدارة توتنهام بشأن عمر مرموش    شم النسيم 2024.. اعرف الموعد وسبب الاحتفال وقصة ارتباطه بعيد القيامة    بعد حفل ال50 مدرسة.. تامر حسني يُعلن تقديم مهرجان سنوي خاص ل طلاب المدارس    تموين العاصمة: ضبط وتحريز 3.5 طن دجاج وبط مجهولة المصدر    تفاصيل استضافة محافظة جنوب سيناء للمسابقة العالمية للقرآن يوليو القادم| خاص    حكم انفصال الزوجين بدون طلاق؟.. أمين الفتوى يجيب    صور.. حضور المئات من طلبة الثانوية العامة بالمراجعات النهائية المجانية    ارتفاع الحرارة ونشاط رياح.. الأرصاد تُعلن طقس الأيام المقبلة    مؤسس «أمهات مصر» تعلن مطالب أولياء الأمور بشأن امتحانات الثانوية العامة    المشدد 5 سنوات ل«تاجر مخدرات» والبراءة لمتهمين آخرين في المنيا    كشف وعلاج ل1300 حالة في 6 تخصصات طبية ضمن حياة كريمة ببني سويف    محافظ الغربية يتفقد 12 مشروعا لحياة كريمة ورصف القرى بزفتى    مخاطرة بحرب إقليمية.. هآرتس تنتقد الهجوم الإسرائيلي على إيران    الحكومة: وقف تنفيذ قطع الكهرباء عن الكنائس خلال احتفالات العيد    وصول المتهمين في قضية «رشوة مياه أسوان» لمحكمة جنايات القاهرة    سفيرة البحرين: زيارة الملك حمد لمصر تؤكد على التكامل الإستراتيجي بين البلدين    إياد نصار: بحب الناس بتناديني في الشارع ب «رشيد الطيار»    37 شهيدا خلال آخر 24 ساعة مع استمرار قصف الاحتلال لقطاع غزة في اليوم ال 197 من الحرب    كيف أدعو الله بيقين؟ خطوات عملية لتعزيز الثقة بإجابة الدعاء    أدعية الرزق: أهميتها وفوائدها وكيفية استخدامها في الحياة اليومية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الغيطاني شهادات عن الفن والأدب والحياة
هكذا كتبت أول قصة قصيرة
نشر في الأخبار يوم 20 - 10 - 2015

الغيطانى فى جهينه - سوهاج امام بيت العائلة
"أمنيتي المستحيلة أن أٌمنح فرصة أخري للعيش. أن أولد من جديد لكن في ظروف مغايرة أجيء مزودا بتلك المعارف التي اكتسبتها من وجودي الأول الموشك علي النفاد.. أولد وأنا أعلم أن تلك النار تلسع، وهذا الماء يغرق فيه من لا يتقن العوم، وتلك النظرة تعني الود وتلك تعني التحذير وتلك تنبئ عن ضغينة.. كم من أوقات أنفقتها لأدرك البديهيات، ومازلت أتهجي بعض مفردات الأبجدية"

قال تحوتي: الموت بداية وليس نهاية، بالموت ينتقل الكائن إلي طور آخر، الموت ليس مرضا، ليس عرضا، إنه صنو الحياة، لذلك نقول في صلواتنا (لقد مات مفعما بالحياة).

هل سأهيم في كون أم أكوان؟ هل أقطع المسافة من مجرة إلي مجرة ومن سديم إلي سديم في لحظة أم لحظات أم أنه وقت غير الوقت؟ هل من مسافة تتلوها أخري؟ أم تتضام كلها عندي فأصير القاصد والمقصود. المبدأ والمعاد الوسيلة والغاية؟

هل من هناك عندما أمضي إلي هناك؟ هل من جهة أسلكها عندما يبدأ تفرقي عني أم أهيم إلي كل صوب؟ هل من مستقر أم سأتبع كل نسمة، وتحملني كل ريح وتنقلني كل موجة إلي حيث لا أدري، هل سيعي بعضي بعضه بعضا.

من لا يحزن عند السفر آثم قلبه، معطوب المزاج، فما البال بسفر لا عودة منه إلي المألوف! الحزن ليس للرحيل، إنما للفقد.

لو أعرف للفراق موطنا، لسعيت إليه، وفرقته..
يكره جمال الغيطاني كلمات الرثاء، ويخجل من كلمات الإطراء، في مناقشاتنا الطويلة في أخبار الأدب كان يري أن أفضل تكريم لمبدع وأديب أن تظل أعماله تقرأ، وأن تظل قابلة لإعادة القراءة نقديا مرات ومرات!
من الصعب الكتابة عن الغيطاني أو اختصاره في كلمات قليلة، أو الاحاطة بكافة جوانبه الإبداعية، عن علاقاته بالكتب، والموسيقي والأفلام، واللوحات، بأبطال رواياته وقصصه، وبالروايات التي خطط لها ولم يكتبها بعد، بشيوخ المتصوفة (ابن عربي)، بمحمد عبد الوهاب وشعراء الربابة، والشيخ محمد رفعت ومصطفي إسماعيل، بليلاه، ليلي مراد.. بكل من أضاف نغمة في موسيقي الكون الصادحة، بحكاياته الهائمة، ألف ليلة وليلة الخاصة به، بتجارب الألم التي خاضها، بالذاكرة التي قضي عمره يحاول أن يمسك بها حتي لا يتسرّب الزمن من بين أيدينا، يثبتها في كتاباته، يعيد تركيبها، يعلن عن وجودها، أماكن مختفية أو اختفت، وحكايات وشخصيات... عاشق النخيل، وقبة قلاوون، والزجاج المعشق بالجبس في مسجد قايتباي ورسومات الفنانين المجهولين علي مقابر المصريين القدماء، ومآذن القاهرة، والكنيسة المعلقة حيث السلام.
لم تكن لجمال الغيطاني أحلام كبيرة، فقط كان يريد مزيدا من العمر، عامان فقط ينجز فيهما ما «تكوّم» لديه من مشاريع عديدة، تحديدا العمل في مشروع روايتيه «دفتر الدفاتر»، و«حكايات هائمة»..لكن القدر لم يمنحه ما اراد.
من الصعب وضع جمال الغيطاني في إطار ضيق، هو ليس فقط الروائي، الصحافي، المفكر، السياسي، المثقف الكبير، عاشق الموسيقي، والفن التشكيلي، هو كل هؤلاء، عجينة متفردة، كان الغيطاني أصغر أبناء جيل الستينيات عندما بدأ الكتابة، كان أكثرهم جرأة إبداعية، استطاع أن يعثر علي صوته الخاص، ونبرته التي لا تشبه أحدًا غيره، ولم يكتف بهذا، إذ ما كان يدخل في مغامرة إلا ليغادرها إلي مغامرة أخري، كل عمل له مغامرة مستقلة، فيها ثوابت الغيطاني، وفيها متغيرات التجربة، رحلة من التجريب الدائم. رحيل الغيطاني هو حزن شخصي خاص فضلا عن كونه حزن عام.. هنا بعض الشهادات المتناثرة التي كتبها الغيطاني في أوقات مختلفة عن الكتابة، الفن البشر، الحياة.
محمد شعير
يجب الاعتراف أنني لم أقرأ للأدباء الذين كانت أعمالهم شائعة وقتئذ، مثل السباعي ومحمد عبدالحليم عبدالله وغيرهما، حتي يوسف إدريس لم أقرأ من أعماله إلا مجموعات محدودة، مثل أرخص ليالي، والنداهة، ورواية البيضاء، قرأته في سن متأخرة وهكذا نجوت من تأثيره الطاغي الذي أدرك معظم أدباء الوسط.
كنت في دار الكتب اقرأ الأعمال العظمي، وأحلم أن أكتب مثلها.

من دار الكتب استعرت «تفسير الاحلام» لسيجموند فرويد، قرأته وشعرت أنني لابد أن اقتني هذا الكتاب الذي ترجمه إلي العربية الدكتور مصطفي صفوان وصدر عن دار المعارف.
كان ثمنه مائة وخمسين قرشا، وهذا مبلغ جسيم لطالب في المرحلة الاعدادية لايتجاوز مصروفه اليومي وقتئذ قرشين صاغ فقط، لقد فتح لي الكتاب آفاقا جديدة في القراءة، وازداد تصميمي علي اقتنائه، عندئذ استعرته من دار الكتب، وكانت المدة القصوي للاستعارة خمسة عشر يوما لابد من إعادة الكتاب بعدها وإلا ا تخذت اجراءات في منتهي الجدية، أبسطها حرماني من الاستعارة، وخصم قيمة الكتاب من مرتب الضامن كما تقرره لجنة خاصة من دار الكتب، وهذا مالا يمكن لمرتب والدي البسيط احتماله، هكذا قررت أن أنقل الكتاب كاملا، حوالي ثمانمائة صفحة، عكفت علي نسخه كاملا، حتي الهوامش المكتوبة بالألمانية والإنجليزية والتي لم أكن أعرف معناها.
لقد مرت السنوات، وفي بداية الثمانينات تعرفت إلي الدكتور مصطفي صفوان في باريس، وعندما أخبرته بذلك دهش، وعندما زار بيتي في حلوان وأطلعته علي ما تبقي من كبشاكيل- فقدت بعضها أثناء اعتقالي وضاعت بين الأوراق التي تم الاستيلاء عليها- قلب صفحاتها.
وقال: أنت بذلت جهدا لايقل عن جهدي في نقله إلي العربية.. كان من أثر معاناتي في نسخ الكتاب أنه انطبع في ذهني، حتي أنني أذكر صفحات كاملة منه حتي الآن، وفيما بعد كنت إذا أعجبت بكتاب أو جزء معين أنقله، خاصة عندما بدأت معايشة ابن اياس في كتابه «بدائع الزهور في وقائع الدهور» وعندما وضعت لنفسي برنامجا لقراءة الشعر العربي بمراحله المختلفة، القصيدة التي اتعلق بها أبادر بنسخها بعناية وخط جميل، وهذا ما أقوم به حتي الآن، تلك متعة أخري في القراءة، فكأنني أشارك بشكل ما في خلقها!

مع ترددي المنتظم علي دار الكتب، واطلاعي علي مصادر التاريخ المصري، والاعمال الأدبية التي لم يكن متاحا لي الحصول عليها، أصبحت قراءاتي أكثر انتظاما، بل يمكن القول إنها بدأت تخضع لبرنامج كان في البداية يخضع للتداعي، بمعني أنني أقرأ بدائع الزهور لابن اياس، فأجده يشير إلي كتب أخري، مثل بذل الماعون في أخبار الطاعون لابن حجر، ومختصر العجائب لابراهيم بن وصيف شاه، فأبدأ البحث عن تلك «الكتب» ومع تقدم الزمن أصبحت قراءاتي أكثر منهجية، وأحمد الله أنني لم أفقد نهمي إلي القراءة فقط، ومع تقدم العمر يزداد يقيني ويمتد وعيي بضيق الوقت المتاح، وكثرة ما يجب أن استوعبه لقد كان مدخلي إلي التراث قراءة التاريخ، خاصة كتب الحوليات ويمكن القول إنني حتي منتصف الستينات اطلعت علي أهم مصادر التاريخ المصري بدءا من أخبار مصر والمغرب لابن عبدالحكم وحتي عجائب الآثار في التراجم والأخبار للجبرتي، مرورا بالمقريزي، وابن تغري بردي وابن حجر العسقلاني، والسخاوي، وابن واصل، وغيرهم.
كنت في البداية اقرأ هذه المصادر كما أقرأ الروايات والملاحم الشعبية، وفي خلفية وعيي محاولة للبحث عن اجابة ما لذلك السؤال المحير.
أين ذهب الأمس؟
قرأت التاريخ الفرعوني، وبعض مصادر التاريخ القبطي، ومن الكتب التي أثرت في للغاية خلال الستينات كتاب سندباد مصري للدكتور حسين فوزي وانني لأعتبره دليلا جيدا لتاريخ مصر، وعلي الرغم أنني من جيل تربي علي الايمان بالعروبة والقومية العربية، لكنني كنت أشعر منذ وقت مبكر أن الدعوة السياسية للقومية العربية كانت تتم علي حساب الاحساس بالمصرية والتي وصلت ذروتها بعد إعلان الجمهورية العربية المتحدة، وتحولت مصر بتاريخها العريق إلي مجرد «اقليم جنوبي».
قرأت بنهم مصادر التاريخ المصري، ولكن الحقيقة التي توقفت عندها هي المملوكية بمرحلتيها، دولة المماليك البحرية، ودولة المماليك البرجية التي انتهت عام سبعة عشر وخمسمائة والف، عندما هزم الجيش المصري المملوكي، امام جيش سليم الأول في مرج دابق شمال حلب، أما المصدر الذي تعلقت به، وعشته، فهو بدائع الزهور في وقائع الدهور للمؤرخ المصري محمد احمد بن اياس الحنفي المصري الذي عاصر الأعوام الثلاثين الاخيرة في سلطنة مصر المملوكية المستقلة والسنين الاولي من الغزو العثماني، منذ البداية أحببت طريقته التلقائية في السرد، تعبيراته، وصفه للحوادث، تعليقه عليها، وحتي الآن لا أدري عدد المرات التي قرأته فيها، بل انني قمت بإعداد فهارس خاصة بي، تضم الحوادث التي لفتت نظري، وتلخيص لسير الشخصيات التي توقفت عندها، والحوادث الطبيعية مثل ظهور المذنبات، والزلازل وتفجر النيران من باطن الارض، كما اعددت في فترة مبكرة فهرسا لغويا دونت فيه جملا عديدة من اسلوب ابن اياس، جمل لها خصوصية لم أكن أجد مثيلا لها في الأدب الذي أقرأه سواء كان مترجما، أو مبدعا بالعربية.
وجدت في ابن اياس فرادة وخصوصية، استشعرتهما في البداية بتلقائية وكنت استمتع كثيرا بما يورده من حوادث، وأعيد حكايتها للأصدقاء ولكي أضرب دليلا علي تفرد ابن اياس اضرب مثلا بطريقة سرده للفترة التي تولي فيها السلطنة المؤيد شيخ الحموي وحتي قتله ابنه ابراهيم ثم موته، ابن اياس لم يعاصر هذا الوقت، لكنه نقل عن آخرين، غير أن حيوية السرد عنده تفوق بكثير الطريقة التي اتبعها ابن حجر العسقلاني الأقرب إلي عصر المؤيد، في كتابه «أنباء الغمر بانباء العمر» وكذلك ابن تغري بردي في «النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة».
كان ابن اياس راويا عظيما، ولقد كتبت كثيرا عن بدائع الزهور، وأشرت اليه مرارا بعد عملي بالصحافة، ولم أهدأ إلا بعد أن قام الشاعر الكبير صلاح عبدالصبور باعادة طبعه في الهيئة العامة للكتاب، ثم أعدت نشره في سلسلة الذخائر التي اقترحتها علي الاستاذ حسين مهران الرئيس الاسبق لهيئة قصور الثقافة، واشرفت علي اصدار 68 عددا منها كان من بينها «تاريخ ابن إياس» والفهارس التي لم يسبق نشرها في مصر، ولتقريب الكتاب إلي جمهور أوسع اخترت مقتطفات يمثل كل منها قصة متكاملة وسوف ادفع بها إلي النشر لاساهم في تقريب الكتاب إلي من لا يقدر علي قراءة ستة مجلدات.. عدد صفحاتها حوالي أربعة آلاف.
لكن.. هل كانت قراءاتي هي الدافع والمحرك تجاه بذل مجهود مضن ومعاملة النفس بصرامة حتي انني كنت ومازلت احاسب نفسي قبل النوم.. كم قرأت؟
واستوعبت؟ وماذا أنجزت.
بالتأكيد كان هناك دافع أقوي، بل إنه الدافع المحرك لرغبتي في الحياة انه الأدب. الابداع أو الكتابة.
موسيقي:
بدأت علاقتي بالموسيقي عبر الفراغ من الموالد، الموشحات الدينية ومن قبل ومن بعد تلاوة القرآن الكريم. تعرفت علي الموسيقي عبر الأثير. المصدر مذياع الجيران. كان العدد قليلا في الدرب، من خلال الاذاعة انتظم ايقاع احاسيسي حتي الآن. في الصباح الاغاني الداعية إلي التفاؤل والاقبال علي الحياة «ياصباح الخير ياللي معانا» لأم كلثوم «مين يشتري الورد مني وأنا باداري وأغني» لليلي مراد. في الظهيرة لحن نشرة الأخبار وأغاني محمد عبدالوهاب التي تسبقه. أما الليل فلأم كلثوم، عرفت الموسيقي أكثر من خلال السينما التي كان الوالد يصحبنا اليها منذ الطفولة المبكرة، مع امتلاك الأسرة مذياعا «صناعة مصرية ماركة صوت العرب» في بداية الستينات بدأت علاقتي بالموسيقي والغناء تتوثق أكثر. من خلال القراءة والبرنامج الثاني عرفت طريقي إلي الموسيقي الكلاسيك أمضيت سنوات اصغي إلي شروح الدكتور حسين فوزي، وفي مكتبة صوت الفن المطلة علي ميدان التحرير «مكانها الآن موقف للعربات» كنت أختار مقطوعات معينة وأبذل الجهد للاصغاء والاستمتاع، في منتصف الستينات اكتشفت الموسيقي التركية الكلاسيكية عبر المذياع بعد حوار مع المرحوم محمودالبدوي، استمعنا في قصر ثقافة الغوري إلي فرقة موسيقي عربية صغيرة بعد خروجنا قال انه لاحظ اندماجي، وانني سميع- دلني علي الموجة الخاصة باذاعة استانبول.. هكذا بدأت علاقتي الوثيقة بالموسيقي التركية، ثم الايرانية، ثم خلال السنوات الاخيرة الصينية، موسيقي جنوب شرق آسيا وتراتيل رهبان البوذية من التبت إلي اليابان. الموسيقي العربية والايرانية والتركية ثم الموسيقي الغربية من أهم العوامل التي تشكل تكويني الروحي.. ومن خلال الاسفار اقتنيت مكتبة موسيقية نادرة لمااحب وأفضل، تظل وتبقي موسيقي الجنوب التي كنت اسمعها في الاسواق بمثابة المرجع- ولعل صوت الربابة ذات الوتر الواحد التي يجيد أهل الصعيد العزف عليها هو الذي قادني إلي عشق الموسيقي الكلاسيكية العربية والتركية والإيرانية وكلها باعثة الشجن.
عمارة ونقش
أرجع الفضل في اهتمامي بالعمارة إلي المكان ايضا- الجمالية خاصة والقاهرة القديمة عامة متحف مفتوح للعمارة العربية الإسلامية. أينما ولي الانسان بصره سيجد مدخلا أو مقرنصا أو عقدا أو زخرفة بدأت علاقتي بالعمارة من خلال دراستي للسجاد، ورغم أنني لم أختر السجاد وتصميمه. فقد تم توزيعي عند التحاقي بالمدرسة الثانوية الفنية طبقا للمجموع الذي حصلت عليه في الشهادة الاعدادية، إلا أنني كنت محظوظا حقا. اذ أنني بدأت أدرس فنا جميلا، تعلمت الزخارف وأصولها وفن صياغة الالوان، ودرست طرز السجاد وتخصصت في الايراني منها، وأحببت أكثر طرازا معينا صرت من الخبراء فيه، طراز بخاري الذي همت بياقوتية ألوانه وتدرجها منه وقد مرت السنوات وزرت في الثمانينات بخاري وعاينت نسيج السجاد في مكانه الاصلي. الصدفة قادتني إلي هذا الفن لذي علمني الصبر والدقة والنمنمة. وصقل ذوقي. وفتح لي أبوابا غير مرئية لفهم الفن. لو عادت السنين وامتلكت زمام الخيار لاخترت نفس الدراسة ونفس الطريق.
من زخارف السجاد إلي زخارف العمارة ساعات طويلة أمضيتها راقدا علي ظهري أتطلع إلي سقف مدرسة برقوق، أو قايتباي أو قجماس الإسحاقي، أبحث عن المراجع. أقرأ تاريخ البنيان واسرار عمارته مما يتاح لي من مصادر، وأتامل. في طفولتي كنت ألعب أمام المسافرخانة وبيت السحيمي. وكانت هذه البيوت العتيقة تشكل لي عوائق أثرية وغنية وموحية لم يكن اهتمامي بالعمارة ومحاولة فهمي لها ثم محاولة ايجاد تفسيري الخاص من اجل دراسة تنتهي بحصولي علي شهادة. انما كان جزءا من اجتهادي لايجاد طريقي الخاص في الرواية، فالعمارة بنيان مثل الراوية وهي متضمنة لايقاعات فهي موسيقي، وقد أتاحت لي اسفاري داخل مصر أن أجوس في عمارة مصربمراحلها المختلفة. وأن اكتشف الرؤية الواصلة بين فتراتها. ومنذ ثلاثة اعوام بدأت تقديم حلقات تليفزيونية لإحدي القنوات المصرية الخاصة حاولت فيها تقديم رؤيتي الخاصة وارجو أن تستمر هذه الحلقات اذا سمحت الظروف الصحية.
أما الفن التشكيلي فمتمم عندي لفن السجاد والعمارة. وقد نمت اهتماماتي به خلال الثلاثين عاما الاخيرة خاصة مع تعدد اسفاري والوقوف مباشرة من خلال المتاحف أمام اشهر لوحات الفنانين الكبار والجدد.
العمارة، الموسيقي، الفن التشكيلي، الفلك، ليس اهتمامي بكل هذه العناصر إلا من أجل الرواية من أجل ما اكتبه.
يمكنني تحديد اللحظة. ولكن اسم اليوم غاب عني. كذلك الشهر. أما السنة فماثلة أبدا في ذهني. ثمة مسافة كبيرة تفصلني عنها الآن، انها أشبه بمحطة قطار، غادرها المسافر ولن يعود اليها أبدا. وما تلك المحطة الآن إلا علامة كتلك الاشارات الموجزة جدا علي الخرائط، ولكنها علامة لا تعني انسانا غيري، كان ذلك احد ايام عام تسعة وخمسين وتسعمائة والف. عندما سمعت من والدي حادثة تدورحول رجل ضبط سكيرا في الجمالية شعرت برغبة في كتابتها، وهكذا كتبت أول قصة قصيرة «نهاية السكير» وبالطبع لم تنشر.
الهلال يوليو 2005
تجربتي
تلك اللحظة الحاضرة، تفلت، تنأي تصبح ماضيا، تتحول إلي مجري التاريخ الذي ينساب في اصرار ليجعل كل حاضر ماضيا، تاريخا، تلك كانت نقطة توجهي إلي التاريخ، احساس قوي بالزمن، ليس حاضرنا فقط الذي يصب في مجري التاريخ، انما حياة كل منا، احساس بالزمن يصل الي حد تقمص لحظة الموت، والتي ينتهي فيها العالم بالنسبة لي، عندما يتحول وجودي إلي تاريخ غابر، كنت اطيل التأمل في اللحظة، انظر إليها من عدة زوايا، اللحظة في آنيتها، ثم عندما تندمج في الماضي، عندما تصبح تاريخا من موقع المستقبل الذي هو صائر إلي تاريخ أيضا.
كانت نكسة 1967 بوتقة صهرت تجربتي، وفي آلامها اعتصر جيلي، في تلك الأيام كنت ادور حول هذه اللحظة من التاريخ، ابتعث من الماضي لحظات تتشابه مع اللحظات التي تمر بي أو أمر بها، إن علاقتي بالتاريخ المكتوب بدأت مبكرة، عندما كنت اخرج من مدرسة الحسين الاعدادية وامضي إلي الشيخ تهامي صاحب المكتبة التي تستقر حتي الآن فوق رصيف جامع الأزهر، وبقروش قليلة اقرأ، وكان من بين ما قرأته كتب التاريخ، تاريخ الجبرتي، وابن اياس، وابن واصل، وابن تغري بردي، وكتب التاريخ الفرعوني، والملاحم الشعبية، وألف ليلةوليلة، وروايات تاريخية تتناول تاريخ الاسلام «جرجي زيدان» وتاريخ الثورة الفرنسية «روايات الجيب» كنت اطوف في عصور التاريخ المختلفة، وبخيالي اخلق العصر من جديد، احاول ان ابعث الحيوية إلي السطور المجففة التي اختزلت زمنا بأكمله، مع تطور قراءاتي وترحالي في الزمن شدني العصر المملوكي لمصر الاسلامية بشكل عام.
في التاريخ الفرعوني المصري غربة، ربما لبعد الشقة، واختلاف اللغة، وقلة التفاصيل، لكن تاريخ مصر منذ الفتح العربي يكاد يكون مدونا يوما بيوم بدءا من ابن عبدالحكم ومرورا بالقضاعي وابن زولاق وابن حجر والمقريزي وابن تغري بردي وابن اياس والجبرتي، يبدو العصر المملوكي اقرب العصور إلي واقعنا. كنت اطالع التاريخ ثم احلق بخيالي ومشاعري حول هذه المباني القديمة التي وصلتنا من ذلك العصر، والتي لا تزال تستخدم لنفس الغرض الذي بنيت من أجله «المساجد، والاسبلة، والمزارات، والبيوت القديمة». في النجوم الزاهرة يحدثني ابن تغري بردي عن اليوم الذي تم فيه بناء مسجد السلطان برقوق، واطوف بالمسجد، اري هؤلاء البنائين المجهولين الذين شيدوا وأبدعوا ثم مضوا، ملايين المصلين الذين لامست جباههم الأرض علي امتداد التاريخ، فوق سور القاهرة القديم اتوقف طويلا عند لوحات محفورة في الجدار كتبها بعض الجنود الفرنسيين، رغبة انسانية في قهر الفناء، من هم؟ ومتي مات كل منهم، ومن احفادهم اليوم؟ وهل يعلم احدهم ان جده حفر أثرا مازال موجودا، تلك الرغبة في قهر الفناء، اراها فيما بعد تدفع بالعديد من الجنود للتزاحم أمام فوهة كاميرا فوق معبر مهدد بالنسف في أي لحظة، وبين الشظايا، ان التاريخ الحي الذي لم يختزل بعد في سطور مازال في الجمالية، الحي العريق الذي نشأت فيه، وقضيت فيه تسعة وعشرين عاما من عمري الذي بدأ في عام 1945، كان ترحالي في تاريخ مصر المملوكية والاسلامية عاما، لكني بعد عام 1967 عدت لاصغي من جديد الي مؤرخ مصري سبق أن استوقفني صوته الفريد، الغني، الشجي، انه محمد أحمد بن اياس صاحب «بدائع الزهور في وقائع الدهور» وتوقفت اكثر عند الفترة التي يصف فيها ما جري لمصر علي ايدي العثمانيين، كنت اري ما جري لمصر في يونيو 1967 من زاوية اخري، من هذا العمق الزمني البعيد، وكان دليلي ومرشدي ابن اياس، شدني ببساطته، وتلقائيته، واهتمامه بتدوين ما جري لبسطاء الناس، هؤلاء الذين تسقط سيرتهم بين سطور الحوليات والمدونات، وإذا ذكروا فلا يذكرون كأفراد، انما كجماعة «الزعر، الحرافيش، العامة».
من ابن اياس تشربت اسلوبه الدافئ، البسيط، التلقائي الذي يأتي بصياغات جميلة وهو لا يقصد الصنعة في الصياغة، وكان ذلك حلا فنيا امامي لكسر رتابة السرد التقليدي، وعادية الجملة، كذلك طريقة الرواية وقص الحدث القائم علي البساطة، وتضمين النوادر، والحكايات، والامثلة، والحكم، والشعر احيانا، من موقع هذا المؤرخ في الماضي رأيت الحاضر.
وكان التعبير الفني عن ذلك في «كشف اللثام عن اخبار ابن سلام» و«المقتبس من عودة ابن اياس إلي زماننا» و»الزيني بركات». مرة اخري ادور حول اللحظة، اتأمل ما جري في يونيو من موقع اخر، عندما تتحول هذه المعاناة كلها إلي تاريخ قصي، الي صفحات في كتاب، إلي سطر في كتاب، ان حوليات التاريخ لا تحفل بتسجيل زفرات المعذبين، وآلام المضطهدين، واحاسيس الحائرين، من يذكر بعد ألف عام المعاناة التي عصفت بالملايين؟ وماذا يبقي من آلام الجراح التي عصفت بالمحاربين الذين عبروا سيناء؟ من يجسد الاشواق والحنين والرؤي ولحظات الكدر ولحظات الصفاء التي طافت بصاحب هذا الهيكل العظمي الذي عثروا عليه صدفة في بعض الحفائر؟ احاول ان ارصد الانسان في تلك الفترة من موقع متقدم زمنيا، فتجيء قصتي «أوراق شاب عاش منذ ألف عام» أو أرصد ما سيطرأ من تغيير علي الظروف فتجيء قصتي «ما جري لأرض الوادي«.
كان ابن اياس يصون عصره من الفناء، من التيه في ذاكرة التاريخ، لكنه كان يصون مجمل العصر، وتضاريسه العامة. لكن اشواق الانسان، وآلامه، واحاسيسه وتفاصيل حياته، هذه صائرة الي العدم ولا شيء ينقذها من الفناء إلا.. الفن.. وهنا نقطة التقاء الفن بالتاريخ من وجهة نظري.
ما هو التاريخ؟
أهو توالي ساعات الليل والنهار؟ ثم توالي الأيام والليالي كما يقول الطبري؟ ربما كان السخاوي أكثر تحديدا عندما قال انه البحث عن وقائع الزمان من حيث التعيين والتوقيت، وموضوعه الانسان والزمان، ان التاريخ هو الحوادث، والحوادث هي التغيرات، والتغيرات لا تحدث إلا بتوالي الزمان، التاريخ هو الزمان، والزمان ليس منفصلا عن الانسان، الانسان بمفرده تاريخ في جوهره، له بداية ونهاية، الميلاد والموت، وما بين ذلك سلسلة متصلة الحلقات، فيها الماضي والحاضر والمستقبل، ان حياة الانسان تاريخ في حد ذاتها، ومسار الانسانية كلها يشكل التاريخ، المجري العام الذي تصب فيه كل المصائر، وهذا المسار تجربة واحدة، واللحظة الانية الواحدة في حاضر وماض ومن قبل كانت مستقبلا.
ان تدوين هذا التاريخ مشكلة في حد ذاته، تتعدد المدارس، وتختلف المناهج، تتباين وجهات النظر، ان التاريخ المكتوب محير، في كثير من الفترات التي طال ترحالي فيها، أو التي عشتها كنت ادرك حقيقة تتكشف شيئا فشيئا، ان الحقيقة نسبية تماما في التاريخ، خاصة فيما يتعلق بالبشر، بل أكاد أوقن انه لا حقيقة في التاريخ المدون، غير ان الفن يقدم الوجه الاخر، في رأيي ان الفن يمسك ويعبر عن جوهر الواقع، أيضا هذا فهمي للواقعية في الفن، ليست نسخا أو تقليدا أو تصويرا فوتوغرافيا له، انما هي تعبير عن جوهر الواقع، جوهر هذه اللحظة الانية من مسار التاريخ، انني اعتبر ان الفن هو التاريخ الحقيقي للانسان، التاريخ غير الموجه، غير الخاضع لاحكام متعسفة أو الذي تثور حوله الاختلافات، وتتمدد التفسيرات، ان الفن جزء من التاريخ، جزء من مسار التجربة الانسانية الواحدة، لكنه في نفس الوقت هو المعبر عنها وعن الانسان، واحيانا يكون مفسرا لكثير من اللحظات التي تتيه في دروب التاريخ.

تنشب الحروب الهائلة، ويموت الألوف، والملايين، ومع تدفق مسار التاريخ يتحول هذا كله إلي ذكريات غائمة، وفي أحوال احسن إلي نصوص جامدة، تهب المجاعات، وتعصف رياح الاوبئة بالبشر، ثم يولي هذا كله.
ربما يطالع الانسان العديد من الكتب عن الحرب العالمية الأولي، الخطط العسكرية، الظروف الدولية، الدروس المستفادة، حجم القوات والخرائط الدالة علي اتجاهات الهجوم، وخطط الدفاع، واقوال القادة.
لكن أين الانسان؟ أين ما عاناه؟ أين التجربة البشرية؟ ربما كانت رواية «كل شيء هادئ في الميدان الغربي» لاريك ماريا ريمارك أو «وداعا للسلاح» لهم نجواي اصدق واشمل واغني في التعبير عن التجربة الانسانية، من تلك التفاصيل الانسانية التي تتساقط في كتب التاريخ وتضيع من التدوين.

في سنة 1968، بداية عملي بالصحافة، وجدت نفسي في موقع يتيح لي ان اعيش احداثا ساخنة يمر بها وطني، وبدأت عملي في الجبهة كمراسل حربي، اذ يرد سطر في بيان عسكري «.. واستشهد من جنودنا ثلاثة..» ابحث، من هم؟ كيف عاشوا؟ كيف قاتلوا؟ ما هي اخر العبارات المتبادلة؟ كنت ادفع بنفسي أيضا إلي مواجهة الموت بالتواجد في مناطق الخطر، كنت اهدأ نفسيا، واثري خبرتي الانسانية، واعيش لحظات ساخنة من التاريخ، وأحول عملي بالصحافة إلي منبع للخبرة وليس إلي غول يتهدد الفنان داخلي، لم اذهب إلي الجبهة بغرض البحث عن موضوعات قصص، فمن يذهب بهذه الخلفية لا يصل إلي شيء، لكنني ذهبت لاعيش موقفا، لأعيش التاريخ، لقد عشت حرب أكتوبر في أكثر من موقع، وبصورة يومية، وبعد انتهاء الحرب كان ذهني، بقدر ما هو محتشد بالتفاصيل، بقدر ما خلا من اي مشروع لقصة أو رواية، لكنني بعد مرور أكثر من سبعة شهور بدأت اولي الارهاصات، كتبت «حكايات الغريب»، وعددا آخر من القصص القصيرة ضمتها مجموعتي التي تحمل هذا العنوان، وكلما نأت المسافة الزمنية عن بؤرة الحدث، تلح علي بعض الشخصيات إلحاحا كبيرا، أعايشها من جديد، تتجسد لي من العدم في لحظات وحدتي، ولا خلاص إلا بالفن، وهكذا ينضم الشهيد والمقاتل العظيم ابراهيم الرفاعي الذي استشهد يوم الجمعة 19 أكتوبر 1973 الي العديد من الشخصيات التي تبرز من مجري التاريخ.. الحسين عليه السلام الذي لا أذكر طفولتي إلا معبقة بروائح ضريحه ورهبتي تجاه مأوي رأسه في الجمالية، وهذا الشعور الذي غمرني عندما وقفت في المكان الذي تضرج بدمائه في كربلاء بالعراق، ثم الحاكم بأمر الله، بقامته المديدة، وصوته الجهوري، وعينيه الزرقاوتين، وجهوده من اجل اقامة عالم مثالي، ثم ما تعرض له من تشويه في التاريخ، أراه يسعي في زماننا، فهو غائب، سيعود يوما لتمتليء الأرض عدلا بعد ان ملئت ظلما وجورا، في مدرسة السلحدار الابتدائية التي تحتل ركنا من مسجده الرحب قضيت سنة من عمري، كلما نظرت الي مئذنتي الجامع اتخيله يتابع عصرنا من مكمن خفي، ثم علي بن محمد قائد ثورة الزنج الشاعر الثائر الذي رفع صوت المعذبين، ثم تحالفت عليه كل القوي لتقهره، ربما قال الابيات التالية وثورته تلفظ أنفاسها..
وفي كل أرض، أو بكل محلة
أخو غربة منا، يكابد مطمعا
كأنا خلقنا للنوي وكأنما
حرام علينا ان نتجمعا
هذا الثائر العظيم ظلمه التاريخ المكتوب، ووصفه بالخبيث، والكافر، اين الحقيقة؟ ان الحس الفني الصادق قادر علي استجلائها من ركام ما كتب، ثم ابن اياس المؤرخ المصري الذي عشت من خلاله عصرا بأكمله، ثم عشرات بل مئات البشر، هذا العجوز الذي شنق في أحد أيام القرن السادس عشر لانه سرق خيارا، هذا الصبي الذي كان سرق البنادق من معسكر الفرنسيين، هؤلاء الذين صعدوا الي مآذن القاهرة يدعون الناس إلي الثورة، سعاة البريد، التجار العرب المبحرين في المحيط الشرقي الكبير، البحارة المربوطين الي قاع القوارب بسلاسل، يجدفون، هذا الوجه المتعب الذي اراه في المترو، هذا الطفل الذي يتوقف ليشد أمه مصرا علي أن تشتري له شيئا ما، هذا الصحفي الذي يكتب التقارير عن زملائه، ويسعد جدا عندما تجيء الأنباء بالقبض علي أحدهم، أو خراب بيته...، صاحب تلك الآهية المنبعثة من خلف نافذة بطابق أرضي في حارة ضيقة من حواري الجمالية.
انني ارهف السمع، اسدد البصر إلي زوايا التاريخ القريب والبعيد والحاضر، فكل حاضر تاريخ، لكي اسمع وأري آنات وأشواق وملامح هؤلاء الذين تنسي أصواتهم، ويتجاهل الزمن ملامحهم.
من خلال ترحالي استوحيت من أدلتي - كتب التاريخ - اساليب فنية جديدة، ان كتب الحوليات، وكتب التراث، والنوادر، والحكايات العربية القديمة، تحمل امكانيات كبيرة لايجاد شكل فني متطور وخاص للقصة العربية، ان هذا التراث تكمن فيه بذور امكانيات غير محدودة لفتح آفاق جديدة للواقعية في الفن، يكمن هذا في اسلوب تدوين الحوليات، وطريقة سرد الحادثة التاريخية، أو الواقعة، وتجميع عدد كبير من القصص والحكايات التي تبدو مختلفة، لكنها تجسد موضوعا واحدا، أيضا فإن طريقة ابن اياس وغيره من المؤرخين في قص الحوادث الكبيرة باسلوب هادئ، يمضي سلسا، يبدو محايدا، لكنه في الحقيقة يعبر عن التوتر الكامن في اللحظة من خلال هذا التناقض بين الهدوء والتوتر، كذلك يوجد مسافة بين الذات والموضوع أعتقد انني استفدت من ذلك في العديد من قصص خاصة «أرض.. أرض» وروايتي «وقائع حارة الزعفراني».
هناك نبع آخر من كتب العجائب العربية مثل «فريدة العجائب» لابن الوردي، وكتاب العجائب لابن وصيف شاه وكتب الادب الجغرافي العربي، وكتب الاخرويات التي تتناول ما يجري في العالم الاخر، في هذه الكتب رصيد موحي لخلق اشكال فنية جديدة، كما انها تفتح آفاقا جديدة للواقعية، وتروي أرضها بخصوبة لا تنفد، ويظل هذا التراث الفني تسجيلا لجانب كبير من تجربة الانسان التي كان من الممكن ان يدهمها العدم، وكلما توالت الأيام، واستمر تدفق مجري التاريخ، الزمان تجربة الانسان، تتردد في ذهني دائما كلمات هذا الشاعر الذي لا اذكر الآن اسمه..
الليالي من الزمان حبالي
مثقلات يلدن كل عجيب الهلال 1983
عن التراث
أن اهتمامي بالتراث نتاج لعلاقة قديمة وعميقة بيني وبين تاريخ مصر، فمنذ فترة طويلة وأنا اقرأ التاريخ المصري ، خاصة هذه الفترة المدونة يوما بيوم. نجد فيها تاريخ الشعب المصري ، في حياته ، في امتداده، في معاناته اليومية، اننا نجد تاريخ الشعب المصري حارا، يتدفق فيه الدم، علي ورق، كتب ابن عبدالحكم، والمقريزي، وابن اياس، وابن تغري بردي، والجبرتي، هذا إلي جانب التراث الشعبي الخصب، ان الفهم العميق والواعي لتاريخ شعبنا يجعلني أكثر معايشة لحاضره، وبالتالي لفهمه، ولادراك العوامل الايجابية المحركة له، بالذات في ظروف كهذه التي تمر بها مصر الآن، فمنذ يونيو 1967، ومصر تتعرض لعدو خطير، الصهيونية، وربما كان هذا اخطر ما تعرضت له مصر طوال تاريخها فهو عدو يهدد حضارتنا، وحياتنا، لايهدد مصر فقط بل الدول العربية ايضا، وفهم العوامل الايجابية في التاريخ المصري، وعناصر الاستمرارية في حياة الشعب المصري العظيم يجعلنا أكثر قدرة علي تدعيم موقفنا تجاه العدو الصهيوني. هناك كثير من المثقفين يرددون آراء تشكك في الطبيعة المحاربة للشعب المصري بحجة انه شعب حضارة أصلا، وبناء.. الخ، لكن هؤلاء لم يكلفوا انفسهم قراءة كتاب مثل بدائع الزهور في وقائع الدهور لابن اياس، أو «النجوم الزاهرة» لابن تغري بردي، أو أحداث ثورة 1919. ان القراءة الواعية لهذا التاريخ تجعلنا أكثر قدرة علي فهم نفسية هذا المحارب المصري العنيد الذي يقف اليوم علي ضفة القنال متحملا أقسي العبء في تحرير أرض محتلة من قبل الاستعمار العالمي. وليس التاريخ وحده هو سبيلنا إلي فهم روح الشعب، انما هو جزء من التراث الذي يحقق هذا ، هناك تراث شعبي عريض من الحكايات والاغاني والشعر والكتب الدينية، وكتب الاساطير والعجائب، إلي جانب الأدب الرسمي، والمهم للفنان ان يستخلص كل العوامل الايجابية الكامنة في هذا التراث.
كلما التزم الفنان قضايا الانسان، قضايا الانسان بمفهومها الواسع، كان اكثر ثورية. ان القصة الثورية هي التي تعبر عن آمال الانسان، والانسانية، في حياة تتحقق فيها الرغبات المشروعة والآمال البسيطة للبشر، التي تتطلع إلي عالم خال من الزيف والخداع، وعلي الفن ان يعبر عن هذا بلغته الخاصة، فالقصة ليست بيانا سياسيا، وان كان أثرها أكثر فعالية من هذا.
ان القيم التي ارفضها في مجتمعي ربما لا تكون خاصة بهذا المجتمع وحده، انما بالمجتمع الانساني عامة. انني أكره بشدة الزيف وكافة اشكاله، واحاربه علي جميع المستويات، في نفسي، في اصدقائي، في معارفي، في الناس، القصة هي متنفسي في التعبير عن كرهي هذا، ولا مجال آخر بالنسبة إلي غير الفن للتعبير عن هذا الرفض. وقد ذكرت الزيف علي سبيل المثال، فهناك عديد من القيم الأخري التي أرفضها ، وأعبر عن رفضي لها أيضا بالقصة، بالفن .
مواقف اللبنانية - 1970


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.