الوطنية للانتخابات تعلن فوز الشيخ ماضي في دائرة الطور بجنوب سيناء    ننشر أسماء الفائزين بمقاعد مجلس النواب 2025 عن محافظة الشرقية    برلماني: الوطنية للانتخابات وضعت خارطة طريق "العبور الآمن" للدولة المصرية    وزير الخارجية: التزام مصر الراسخ بحماية حقوقها والحفاظ على استقرار الدول المجاورة    رئيس جامعة طنطا يجري جولة تفقدية موسعة لمتابعة سير أعمال الامتحانات    انتخاب محمد السويدي رئيسا لاتحاد الصناعات.. ننشر التشكيل كاملا    محافظ الغربية يتفقد المرحلة الثانية لتطوير كورنيش كفر الزيات بنسبة تنفيذ 60%    محافظ كفر الشيخ: خطة متكاملة لتوفير السلع وضبط الأسواق ب15 مجمعًا استهلاكيًا    الذهب يختتم 2025 بمكاسب تاريخية تفوق 70% واستقرار عالمي خلال عطلات نهاية العام    البورصة تختتم بتراجع جماعي للمؤشرات بضغوط مبيعات المتعاملين الأجانب والعرب    المنيا تنفرد بتطبيق نظام الباركود للمحاصيل الحقلية    محافظة قنا تواصل تطوير طريق قنا–الأقصر الزراعي بإنارة حديثة وتهذيب الأشجار    العربية لحقوق الإنسان: اعتداء الاحتلال الإسرائيلي على المسيحيين نتيجة للتغافل الدولي ضد الفصل العنصري    «القاهرة الإخبارية»: 5900 طن من المساعدات الغذائية والطبية والبترولية تدخل قطاع غزة    جيش الاحتلال يعلن اغتيال أحد أبرز عناصر وحدة العمليات بفيلق القدس الإيراني    فيديو.. سرب مكون من 8 مقاتلات حربية إسرائيلية يحلق فوق جنوب وشرق لبنان    أشرف حكيمي يدعو كيليان مبابي وديمبيلي لحضور مباراة المغرب ضد مالي    الجيش السوداني يصدّ محاولة اختراق للدعم السريع قرب الحدود مع مصر وقصف جوي يحسم المعركة    تشكيل المصري أمام حرس الحدود في كأس عاصمة مصر    الجزائرى محمد بن خماسة آخر عقبات الإسماعيلى لفتح القيد في يناير    اتحاد الكرة يحذر من انتهاك حقوقه التجارية ويهدد باتخاذ إجراءات قانونية    لحظة انتشال جثة آخر سيدة عالقة أسفل أنقاض عقار إمبابة المنهار    الأرصاد: سحب ممطرة على السواحل الشمالية والوجه البحري    رفع آثار انقلاب سيارة ربع نقل محملة بالموز وإعادة الحركة بالطريق الزراعي في طوخ    بعد 25 سنة زواج.. حقيقة طلاق لميس الحديدي وعمرو أديب رسمياً    كوروكوتشو: مصر واليابان تبنيان جسرًا علميًا لإحياء مركب خوفو| حوار    صندوق التنمية الحضرية يعد قائمة ب 170 فرصة استثمارية في المحافظات    إزالة مقبرة أحمد شوقي.. ماذا كُتب على شاهد قبر أمير الشعراء؟    طلاق لميس الحديدي وعمرو أديب رسميًا بعد أكثر من 25 عام زواج    هل للصيام في رجب فضل عن غيره؟.. الأزهر يُجيب    حصول مركز طب الأسرة بالعاشر على الاعتماد الدولي لوحدات الرعاية الأولية بالشرقية    ما هو ارتجاع المريء عند الأطفال، وطرق التعامل معه؟    ضبط 19 شركة سياحية بدون ترخيص بتهمة النصب على المواطنين    تأجيل محاكمة رئيس اتحاد السباحة وآخرين بتهمة الإهمال والتسبب في وفاة السباح الطفل يوسف    إيرادات الأفلام.. طلقني يزيح الست من صدارة شباك التذاكر وخريطة رأس السنة يحتل المركز الخامس    وزارة الثقافة تنظم "مهرجان الكريسماس بالعربي" على مسارح دار الأوبرا    مدينة الأبحاث العلمية تفتتح المعرض التمهيدي لطلاب STEM المؤهل للمعرض الدولي للعلوم والهندسة ISEF–2026    ادِّعاء خصومات وهمية على السلع بغرض سرعة بيعها.. الأزهر للفتوي يوضح    البابا تواضروس يهنئ الكاثوليك بعيد الميلاد    بشير التابعي يشيد بدور إمام عاشور: عنصر حاسم في تشكيلة المنتخب    محافظ الجيزة يفتتح قسم رعاية المخ والأعصاب بمستشفى الوراق المركزي    كرة طائرة - بمشاركة 4 فرق.. الكشف عن جدول نهائي دوري المرتبط للسيدات    بيان عاجل من الخارجية السعودية بشأن أحداث حضرموت والمهرة في اليمن    شوبير يكشف موقف "الشحات وعبد القادر" من التجديد مع الأهلي    مصادرة 1000 لتر سولار مجهول المصدر و18 محضرا بحملة تموينية بالشرقية    سيول وثلوج بدءاً من الغد.. منخفض جوى فى طريقه إلى لبنان    الصحة: اختتام البرنامج التدريبي لترصد العدوى المكتسبة بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية    المتحدث العسكري: قبول دفعة جديدة من المجندين بالقوات المسلحة مرحلة أبريل 2026    من هو الفلسطيني الذي تولي رئاسة هندوراس؟    عبد الحميد معالي ينضم لاتحاد طنجة بعد الرحيل عن الزمالك    نائب وزير الصحة تتفقد منشآت صحية بمحافظة الدقهلية    لليوم الثاني.. سفارة مصر بإيران تواصل فتح لجان التصويت بجولة الإعادة للدوائر ال19 الملغاة    وزير الثقافة: المرحلة المقبلة ستشهد توسعًا في الأنشطة الداعمة للمواهب والتراث    أمن القليوبية يكشف تفاصيل تداول فيديو لسيدة باعتداء 3 شباب على نجلها ببنها    حكم تعويض مريض بعد خطأ طبيب الأسنان في خلع ضرسين.. أمين الفتوى يجيب    هل يجب الاستنجاء قبل كل وضوء؟.. أمين الفتوى يجيب    أحمد سامي يقترب من قيادة «مودرن سبورت» خلفًا لمجدي عبد العاطي    ما حكم حشو الأسنان بالذهب؟.. الإفتاء توضح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يوميات الأخبار
إشارات إلي البدايات
نشر في الأخبار يوم 16 - 09 - 2014

«لعبت التلقائية دوراً كبيراً في تجربتي الأدبية، لم أتبع إلا صوتي الداخلي فيما كتبت، والآن بعد أكثر من نصف قرن ألتفت إلي الماضي، ولو قُدر للزمن أن يعود، سأسلك نفس المسار..»
منذ بداية اكتشاف نفسي بنفسي عبر القراءة ثم الرغبة في الكتابة والتي تشبه الغريزة كنت أتبع صوتي الداخلي، رغم أن توجهي إلي القراءة في البداية كان معظمه في الأدب المترجم، وأدت ظروف النشأة والمكان إلي اكتشافي التراث العربي مبكراً، حيث أتيح لي الاطلاع علي أساليب سردية غير مألوفة في الأشكال المتعارف عليها للقصة القصيرة أو الرواية، كنت بحاجة إلي فترة حتي أستوعب ما هو متاح ثم أمتلك القدرة والجرأة علي تجاوزه، لم يكن ذلك سهلاً، إلا أن الصوت الخفي الملح إلي دفعي صوب طرق جديدة في التعبير كان أقوي، كتبت أول قصة عام 1959، وفي عام 1967 بعد هزيمة يونيو واستعادتي لمرحلة مشابهة من التاريخ، في عام 1967، في أغسطس من نفس العام، كتبت أول قصة حققت فيها رؤيتي، أعني «هداية أهل الوري لما جري في المقشرة»، هكذا بدأت محاولات التجاوز، تجاوز المألوف من الآخرين، ثم تجاوز الذات وهذا أصعب بكثير، وأعتقد أنني حققت خطوة واسعة في النص الذي ينشر منذ أسابيع في «أخبار اليوم» كل سبت «حكايات هائمة».
هكذا بدأت محاضرتي الأولي في معهد دراسات الشرق الأوسط بجامعة شيكاغو معرفاً بشخصي والملامح الأساسية لتجربتي الأدبية، حتي يكون ذلك منطلقاً إلي عناصر البرنامج الذي حددته وأوضحته في هذه اليوميات، الأسبوع الماضي نشر القسم الأول من المحاضرة، وفيما يلي القسم الثاني.
محفوظ
نجيب محفوظ بدأ يتنبه في السنوات الأخيرة إلي إمكانيات القص الخاصة بالتراث العربي، ويبدو هذا واضحاً في «ألف ليلة وليلة» ومن قبلها «الحرافيش».. وأخيراً في «رحلة ابن فطومة»، إذن كثير من المثقفين كانوا ينظرون إلي هذا التراث إما باستخفاف، وإمايتعاملون مع التراث المطروق المعروف، وإما عن جهل به، لأن التراث العربي واسع وغزير ويقتضي جهداً عميقاً ودءوباً للإلمام به، ولا يكفي الإلمام به للاستفادة منه، المهم.. كيف، وقد ازداد الأمر صعوبة في السنوات الأخيرة مع انتشار موجة الاستسهال في كل شيء، ووجود شعور بالدونية لدي البعض تجاه الثقافة الغربية وأنماط الإبداع الناتجة عنها، وقد كان المرحوم أمل دنقل أحد أبناء جيلي واعياً بتراثنا العربي واستفاد منه، ومما يبعث علي راحتي أن الوعي بالتراث ينمو في السنوات الأخيرة ليس علي مستوي مصر فقط ولكن علي مستوي العالم العربي، قال البعض عن تجربتي إنني أمضي في طريق مسدود، لأن الأشكال التراثية محدودة، وبالتالي فإن تجربتي محدودة، وهذا القول ناتج عن جهل بالتراث وما يحتويه، أشعر أنني بحاجة إلي خمسة قرون من الزمان ليمكنني أن أحقق ما أريده من خلال التراث العربي.
أشكال التقليد
هناك باستمرار محاولات لتجاوز التقاليد والأشكال الفنية السابقة، وهذه المحاولات تتم في أطر عديدة ومختلفة، إذا أخذنا الغرب علي سبيل المثال، سواء كانت الرواية المكتوبة باللغة الانجليزية أو الفرنسية أو الاسبانية، أو الايطالية، فإن المحاولات التي تتم تجري في إطار التجربة الحضارية هناك، ولكن بالنسبة لي هناك تجربة أخري، هناك تراث آخر، لم يعرف هنا، محمل بالرؤي التي تعكس تجربة خاصة تتفق مع تجربتي وتكويني ورؤيتي للحياة، صحيح انه لكل عصر خصوصيته، وطرائقه، ولكل مكان أيضاً، من هنا أري أن الوعي بإمكانيات التراث الخاص بي مهم جداً بالنسبة لي لتجاوز أشكال الإبداع السابقة من أجل الوصول إلي شيء جديد، إلي شيء مختلف، إلي شيء لم أقرأ مثله من قبل وهذا طموحي.
.. إن الموضوع بالنسبة لي هو الذي يفرض الشكل، داخل تجربتي الخاصة، في «الزيني بركات» كنت أخلق عصراً بأكمله، وكان الموضوع مطروحاً في كل زمان ومكان، أقصد موضوع القهر والبصاصين، وهنا يجب الإشارة إلي أن جهاز البصاصين الذي قدمته في «الزيني بركات» لم يكن له وجود في العصر المملوكي ، إنه من عصرنا نحن، ولأنني أعيد خلق عصر بأكمله كان لابد من إعادة خلق أدق التفاصيل، اللغة، الأسلوب، أنواع الطعام، الملابس، أسماء شوارع القاهرة في هذا الوقت، وحاراتها، كل ذلك من أجل الإيهام بالعصر ومعالجة هذا الموضوع الأبدي في الخطط، واقع معاصر، ولكنه مروي بشكل تاريخي، رواية «وقائع حارة الزعفراني» مختلفة، الرواية كلها مجموعة ملفات وتقارير، من هنا كان من الضروري أن ألجأ إلي أسلوب التقارير البارد، في «كتاب التجليات» تجربة تتعلق بالموت، بالزمن، بالنسيان، بالعالم الآخر، من هنا كان اتجاهي إلي التراث الصوفي.
.. بالتأكيد هناك فرق كبير بين أسلوبي في كتابة العمل الأدبي، وأسلوبي في المقالات، نتيجة عملي في الصحافة يوجد عندي فصل يصل إلي حد الوسوسة، علي سبيل المثال فإن القلم الذي أكتب به مقالاتي لا أكتب به أبداً أعمالي الأدبية، ووقتي المسائي لا يمكن أبداً أن أعمل فيه للصحافة، إنه وقت مكرس تماماً للأدب، قد لا أكتب، عندئذ أقرأ، عندما كنت أعمل مراسلاً حربياً كتبت مقالات في السيارة، وهذه ظروف استثنائية.
اللغة
في «الزعفراني» لغة تقارير باردة، كما أشرت أن اللغة عندي نابعة من العمل ذاته، وهنا يمكنني أن أشير إلي شيء خاص، فمنذ ثلاث سنوات قررت أن أتعلم اللغة الفرنسية، وفي هذه الفترة بدأت أكتشف لغة التصوف، وكان لكي أصل إلي تجربتي اللغوية التي ظهرت في «التجليات» لابد من التفرغ الكامل. الواقع أن اللغة العربية متنوعة الأساليب، لغة الشعر، لغة الرسائل، لغة التصوف، والإيهام بأحد هذه الأساليب يقتضي جهداً كبيراً، علي سبيل المثال عندما بدأت دراسة أسلوب المتصوفين لم أكتف بقراءة «الفتوحات المكية» لابن عربي أو «الإنسان الكامل» لعبدالكريم الجيلاني، أو «الإشارات الإلهية» للتوحيدي، إنما كنت أنقل بخطي صفحات كاملة من هذه المؤلفات علي مهل وبأناة لا لشيء إلا لمحاولة تشربي سر الأسلوب، ونفاذه إليّ، المهم الإحساس بخصائص الأسلوب، وهكذا ضحيت بتعليمي اللغة الفرنسية لكي أتفرغ هذا الأسلوب، وعندما بدأت أكتب التجليات طرحت هذا كله جانباً لكي أصل إلي لغتي الخاصة، أعتقد أنني في السنوات الأخيرة أكثر اهتماماً باللغة علي مستوي التفاصيل، في البداية كنت مهتماً بالشكل العام، والإيهام، في السنوات الأخيرة أصبحت أكثر اهتماماً بدقائق اللغة، وهذا جزء من النمو، في «وقائع حارة الزعفراني» استفدت من تجربة ابن إياس اللغوية علي الرغم من أن الموضوع ليس تاريخياً، كان ابن إياس يكتب أفظع الحوادث بنفس الهدوء الذي يكتب به أبسط الحوادث، كان يوجد مسافة موضوعية بينه وبين الحدث، في «الزعفراني» كنت أعبر عن الأحداث بروح محايدة لأنه تقارير، ولم يكن ممكناً محاكاة أسلوب شعري في التقارير، بشكل عام أنا الآن أكثر تدقيقاً واهتماماً باللغة علي مستوي التفاصيل.
الفتوحات
اللغة بالنسبة لي عنصر فاعل ومؤثر في العمل الأدبي، اللغة بالنسبة لي حالة أيضاً وليست مجرد أسلوب يمكن إتقانه واستخدامه كأداة، والحال كما هو معروف يتغير، وهكذا تتغير اللغة عندي من عمل إلي آخر، وأعتقد أن لديّ تجربتين أساسيتين في اللغة، الأولي عبر الحس التاريخي، والثانية عبر الحس الصوفي، فعندما كتبت قصصي القصيرة «المقشرة» و«إتحاف الزمان بحكاية جلبي السلطان» و«ابن سلام» و«طيبخا» ثم «الزيني بركات»، كنت أتقمص روح اللغة التاريخية المنتمية إلي القرن السادس عشر، وحتي أنفذ إلي روح هذا الأسلوب وجوهره اقتضي هذا جهداً كبيراً في مطالعة مؤلفات القرون الوسطي ليس بدائع الزهور في وقائع الدهور لابن إياس فقط، إن هذا المؤلف الضخم يمثل بالنسبة لي الأساس، ولكن تنتظم حوله مؤلفات عديدة كانت تكمل عناصر العصر الذي تزايد إحساسي به خاصة بعد هزيمة يونيو 1967، والتي يقابلها في هذا العصر هزيمة مرج دابق في 1517، كنت أطالع صفحات كاملة من بدائع الزهور بصوت مرتفع، وأنقل إلي كراساتي صفحات كاملة منه، في محاولة للتوصل إلي الإيقاع الداخلي للغة ابن إياس، بل كثيراً ما كنت أتخيل ابن إياس نفسه في تلك الأمسيات النائية التي كان يدون خلالها الأحداث التي انقضت أو عاينها، جلسته، هدوءه، مرور يده الممسكة بالقلم علي الورق، إنها حالة خاصة جداً امتزجت فيها ظروف عامة «هزيمة يونيو 1967 وهزيمة مرج دابق 1517» وحس عميق بالزمن، ومشاعر شتي، كلها أدت إلي خلق هذه اللغة، بعد أن كتبت «الزيني بركات» شعرت أنني أودع هذه الحالة التي أدت إلي خلق تلك اللغة، وكان ذلك صعباً وشاقاً، فكأنك بذلت مجهوداً ضخماً لإتقان لغة ما ثم تعمدت أن تنساها، أو لا تتكلم بها، كنت في الواقع أودع العصر المملوكي، ولا أودع رغبتي في خلق الجديد المستند إلي التراث العربي، وبعد مرور عدة سنوات وقع لي ما يشبه تجربتي مع بدائع الزهور في وقائع الدهور لابن إياس، فقد قرأته قبل هزيمة يونيو، ثم أعدت اكتشافه بعد يونيو 1967، في نهاية السبعينيات كنت أقترب من «الفتوحات المكية» للشيخ الأكبر ابن عربي، كنت أتطلع إليه دائماً وأتساءل عما يمكن أن يحويه هذا الكتاب الضخم؟، بدأت أقرؤه بالفعل، مستعيناً بمؤلفات أخري لمعاصرين، أو مستشرقين للنفاذ إلي أسراره، ثم حدث في عام 1980 أن توفي والدي فجأة أثناء سفري، وكان ذلك أكبر صدمة تلقيتها في حياتي، مررت بحزن فظيع، وخلاله صاحبت «الفتوحات المكية» من جديد، ومرة أخري بدأت إعادة اكتشافه، وبدأت محاولاً النفاذ إلي جوهر هذه اللغة الصوفية المرتبطة تماماً بتجربة روحية عميقة محورها الإنسان والكون، كانت تمتزج بالألم العميق الذي أمر به، وقد أدت هذه الحالة إلي روايتي «كتاب التجليات» الذي اعتبره محطة هامة في تجربتي ، ثم جري تجاوزها في «دفاتر التدوين » التي اصدرت منها سبعة حتي الآن . أصبح كتاب الفتوحات المكية بمثابة الشمس التي تنتظم حولها الكواكب، عايشت معه التراث الإسلامي الصوفي بدءاً من الجنيد والحلاج والقشيري والإمام الشعراني وابن سبعين والسهروردي، وعبدالكريم الجيلاني، والتراث الصوفي الإسلامي في إيران، ومازلت أعايشه، هكذا كانت لغة التجليات بمثابة نتاج لحالة، وأدي هذا إلي أن اللغة أصبحت بطلاً من أبطال الرواية، وهذه الفكرة الأخيرة لم تكن واضحة في ذهني قبل كتابة الرواية، ولكنها وضحت نتيجة الملاحظات النقدية التي سمعتها بعد صدور السفر الأول، لم يكن القصد أو التعمد عنصراً في دافعي نحو خلق الجديد، أذكر أن صديقاً لي قرأ قصة «هداية أهل الوري لبعض ما جري في المقشرة» وقال لي إنها مرحلة جديدة في القصة القصيرة، وأصغيت صامتاً، وأنا أتساءل أمن المعقول أنني أخلق شكلاً جديداً؟ إنه يجاملني، ثم كتب النقاد بعد صدور مجموعتي الأولي «أوراق شاب عاش منذ ألف عام» مؤكدين المعني الذي قاله صديقي الذي قرأ القصة مخطوطة.
الزمن
.. منذ زمن بعيد وأحد همومي الأساسية قضية الزمن، وكان ذلك أحد الأسباب القوية التي جعلتني أتجه إلي التاريخ بمراحله المختلفة، والتاريخ عندي هو الزمن، الزمن الجبار القاهر، المحيي، المميت، في صيرورته الرهيبة، والذي يحولنا باستمرار إلي الماضي، الذي يجلب الذكري والنسيان، منذ زمن بعيد وأنا أتأمل الزمن. وأمعن التفكير فيه، بدءاً من الحركة الميكانيكية البسيطة للثواني والدقائق والساعات، إلي حركة الأفلاك، توالي الليل والنهار، إلي انقضاء السنوات، إلي الميلاد والموت، التاريخ عندي هو الزمن المنقضي، المنتهي، لا فرق بين لحظة مضت منذ ثوان، ولحظة مرت علي انقضائها آلاف أو ملايين السنين، كلاهما لا يمكن استعادته، من هنا فإنني لا أصغي باهتمام كبير إلي من يقول «إنك تكتب رواية تاريخية»، الكل صار إلي ماض، ماض من المستحيل استعادته، لقد تأملت طويلاً ومازلت في الزمن، وقرأت عن الزمن في الفكر الإنساني القديم، في الأساطير، في الدين، في الفلسفة، غير أنني لم أصل إطلاقاً إلي ما يمكن أن يهدئ من همي الدائم هذا، ثمة حقيقة مؤكدة لي، وهي أن الشيء الوحيد في هذا العالم الذي لا يمكن قهره أو مقاومته أو التصدي له، هو الزمن، وعلي الرغم من وعي الإنسان بذلك، إذ إن الكل يعرف أن للحياة نهاية محتومة هي الموت، إلا أن عظمة الإنسان أنه لايستسلم أبداً، يقاوم حتي النهاية، صحيح ان القضاء لاحق والقدر سابق، لكن العظمة الإنسانية تكمن في هذا التحدي المنظور أحياناً وغير المنظور في كثير من الأحيان، وإذا تأملنا تاريخ الفن خاصة في العصور القديمة، فإننا سنجد جوهرها محاولة قهر الفناء، محاولة قهر الزمن الذي لا يُري بالمادة أحياناً، كالهرم الأكبر، أو بالسيرة العطرة. أو تخيل أن هناك عالماً آخر فيه حياة أخري، وعندما كانت الحضارة تصل إلي ذروتها كان التعبير عن الرغبة في الخلود يصل إلي ذراه أيضاً، الفن بالنسبة لي أرقي جهد إنساني لمقاومة العدم، غير أن همي اتخذ مجري آخر بعد عدة أحداث عامة وأحداث خاصة، ومن الأحداث التي تعرضت لها، وفاة والدي، ومن الأحداث العامة التي هزتني هزاً عنيفاً هزيمة يونيو 1967، ثم زيارة الرئيس الأسبق إلي القدس والصلح مع إسرائيل، بعد وفاة أبي اتجهت بعمق إلي تراث التصوف الإسلامي، بعض المتصوفين الإسلاميين قال إن الإنسان سُمي إنساناً من النسيان، ولهم في النسيان كلام طويل، كان من الأمور التي أحدثت في نفسي حرقة داخلية عنيفة أيضاً معايشة لواقع تنقلب فيه قيم عديدة بديهية، تهدر فيه أشياء شببنا ونمونا عليها، نعم.. علي المدي البعيد القادم ربما جري تحول، فلا شيء يبقي كما هو، لكن فرق كبير أن يقرأ الإنسان عن ذلك وأن يعيش لحظات التحول أو الوعي بالنسيان وينكوي بنارها. يقرأ الإنسان كثيراً عن الموت، لكن عندما يقترب الموت منه في عزيز، يصبح الأمر مختلفاً، لقد عدت إلي ابن عربي بعد وفاة والدي، كنت قرأته منذ سنوات بعيدة ولكنني أعدت اكتشافه، تماماً كما اكتشفت ابن إياس مرة أخري بعد يونيو 1967. إنني دائم التأمل في علاقة الإنسان بالكون، وكنت أفكر دائماً في هذا الذي لا يقهر، الزمن، وكما أفضل أن أسميه «الدهر» من قناعاتي أن الكون لم يوجد عبثاً، هناك قوة تنظمه وتسيره، من تأملاتي الخاصة أصبحت مقتنعاً أن الدهر هو الله، وفوجئت عند قراءاتي ابن عربي وغيره أن هذه الفكرة تتردد و«الدهر» أحد أسماء الله الحسني، بل إنه الاسم التاسع والتسعون، أي الاسم الأخير. وهناك حديث للرسول محمد صلي الله عليه وسلم، يقول «لا تسبوا الدهر فإن الدهر هو الله».
أنني أعتبر نفسي قريباً إلي رؤية المتصوفين الإسلاميين للزمن، الدهر، وكثير من معاناتي الداخلية وجدت تعبيراً عنها في هذا التراث، ومن هنا فإن معاناتي الداخلية كانت أساساً في التوجه إلي هذا التراث، ولم يكن الأمر لمجرد البحث عن تكنيك، طبعاً هناك صفاء اللغة ورقتها التي أعتبرها أرق من الشعر ذاته، وإنني أدعوكم إلي قراءة «الإشارات الإلهية» لأبي حيان التوحيدي أو «الإنسان الكامل» لعبدالكريم الجيلاني، وبالطبع هناك «المواقف» للنفري وكتاب «الطواسين» للحلاج، إن الدهر هو همي الأساسي، الدهر بكل مسمياته بدءاً من اللحظة الآتية إلي الزمن القديم والمقبل والعصر والحقبة وكل هذه المسميات اسم لشيء واحد شيء لا يقهر، لا أول ولا آخر، مجهول الكنه علي الرغم من أننا نري ملامحه وعلاماته في كل ثانية تمر بنا. الأشواق الإنسانية ستصير إلي عدم لولا الفن، والحياة الإنسانية ستضيع ملامحها لولا الفن، إن الفن بأوجهه المختلفة هو المحاولة الوحيدة الصادقة التي يبذلها الإنسان في هذا الكون أمام هذه القوة التي لا رادَّ لها.. لكي يقاوم الفناء والعدم.
الأسبوع القادم :
الدرس الثالث : نجيب محفوظ


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.