بعد 62 عاماً تتكشف أسرار جديدة عن ثورة يوليو وكيف دبر عبدالناصر عزل نجيب واعتقاله في قصر المرج ما الأخطاء الفادحة التي يتحمل مسئوليتها اللواء محمد نجيب - بحسن نية - في حق نفسه وفي حق ثورة يوليو أو حركة الجيش كما اطلق عليها وقتها.. وأهمها أنه استسلم أمام جمال عبدالناصر وأعضاء مجلس القيادة منذ اللحظة الاولي وترك لهم السيطرة علي مقاليد الحكم واتخاذ القرارات وخضع لطلباتهم ومشيئتهم.. وكان في استطاعته هو أن يقوم بتشكيل مجلس القيادة ويكون له رجاله الذين يتولون الحكم بطريقة ديمقراطية ويثق فيهم لمواجهة سيطرة جمال عبدالناصر وانفراده باتخاذ القرارات، ولكنه تركه يشكل المجلس من الموالين وحسب رؤيته ومصلحته.. وعلي سبيل المثال. كان المفروض أن يضم المجلس القائمقام أحمد شوقي والذي قام بدور مهم ليلة 23 يوليو في المنطقة المركزية.. وكذلك البكباشي يوسف صديق الذي بادر باقتحام مقر القيادة في كوبري القبة والقبض علي كبار القادة واللواء حسين فريد رئيس الأركان وقبل وصول عبدالناصر وعبد الحكيم عامر وباقي المجموعة وكذلك القائمقام رشاد مهنا. ولكن اللواء محمد نجيب بدا ضعيفا أمام عبد الناصر ومجموعته مع أنه كان من السهل أن يتخلص منهم ويضعهم في مكانهم رغم أنه كان قائدا شجاعا في حرب فلسطين ويكتسب احترام الضباط، ولكنه ترك مجموعة الاثني عشر يمسكون بزمام الامور ويتلقون تعليماتهم من عبدالناصر الذي اختارهم علي اساس الولاء والعلاقة الوطيدة بينهم ودونا عن باقي الضباط الاحرار.. وكانت كل السلطة في يد اللواء نجيب سواء في الجيش أو في الشارع ولكنه مضي يقدم تنازلات أمام مجلس القيادة (الثورة) وبدرجة أنه تنازل عن منصب القائد العام تحت ضغط عبدالناصر للصاغ عبدالحكيم عامر - صديقه - حتي يضمن ولاء القوات المسلحة رغم وجود قادة كبار وأكفاء وأكثر خبرة آخرين مثل الفريق علي عامر، وتمت ترقية الصاغ عبدالحكيم عامر الي رتبة اللواء بصفة استثنائية وبقرار من اللواء محمد نجيب حسب طلب عبدالناصر رغم إعتراض عبداللطيف البغدادي وذلك لإنه كان صديق جمال ويثق فيه. كان جمال عبد الناصر متفرغاً للتخطيط منذ البداية وطوال الوقت حتي يحكم قبضته علي المجلس وحتي يتخلص في النهاية من نجيب ومن أعضاء مجلس الثورة الواحد بعد الآخر وحتي ينفرد بالسلطة.. واستخدم الإخوين جمال سالم وصلاح سالم لإهانة محمد نجيب في مكتبه والاستهانة بدوره وبأنه كان لا يعلم شيئا عن التنظيم. ومنذ البداية كان الخلاف كامنا بين نجيب ومعظم أعضاء مجلس الثورة الموالين لجمال عبدالناصر وكانت النوايا مبيتة لإبعاده والتخلص منه حتي بعد ان تولي رئيسا للجمهورية وكانوا يجتمعون بدونه ويتخذون القرارات سراً وبدون علمه ويفاجأ بها.. كان عبد الناصر يجتمع مع أعضاء مجلس الثورة قبل إجتماع الأحد مع محمد نجيب (في بيته في منشية البكري) ويتخذ القرارات بالإجماع لكي يضع نجيب أمام الامر الواقع ويجبره علي الموافقة ويجعله رئيسا بلا سلطات وخاضعاً للمجس.. وكان قرار اقصاء نجيب متخذاً منذ البداية ولكنهم أرادوا الاستفادة من شعبيته في الشارع حتي يتمكن عبدالناصر من الانفراد بالسلطة وبدا ذلك في الخلاف الذي وقع بينه وبين كمال الدين والخلاف مع عبد اللطيف البغدادي. شهادة جمال حماد وكما قال اللواء جمال حماد - المؤرخ العسكري - في شاهد عليالعصر: ان عبدالناصر كان هو الذي يخطط ويعد القرارات والباقون من أعضاء مجلس الثورة يوافقون عليها في الإجتماعات وكما قال البغدادي إنهم كانوا مضطرين لإنهم جاءوا من فراغ! وان عبد الناصر يعتمد علي أن الجيش في يد عبد الحكيم عامر وأنه يسيطر علي قياداته بعد إبعاد عدم الموالين له واتضح ذلك في سوريا - بعد الوحدة - وفي اليمن، وكان عبدالناصر يترك له هذه الأمور الخاصة بالقوات المسلحة. كان جمال عبدالناصر هو الذي وضع المباديء الستة لثورة 23 يوليو وكلف جمال حماد وعبدالحكيم عامر بصياغتها في البيان الأول لحركة الجيش الذي ألقاه أنور السادات في السابعة من صباح الثورة وكان ابرز ما يحويه القضاء علي الفساد ورجاله.. وتحقيق العدالة الاجتماعية وإقامة جيش وطني قوي وأهداف أخري ولم يتدخل محمد نجيب في ذلك إلا باضافة نقاط صغيرة.. لإن باقي اعضاء مجلس القيادة لم تكن لديهم خطة موضوعة مسبقة للحكم ولم يكونوا علي دراية كافية ولذلك حدثت اخطاء جسيمة لأنهم انفردوا بالحكم وعن سابق خبرة أو علم ولم يكن محمد نجيب قادراً علي السيطرة علي المجلس.. ولذلك يقع اللوم علي اللواء نجيب لأنه ترك لهم الحبل علي الغارب رغم تدخل عبدالناصر في أحيان لإنه لم يكن يريد إغضابهم، باختصار كانوا مجموعة من الضباط - الذين يمثلون أسلحة الجيش - عديمي الخبرة واصابهم الغرور بعد استيلائهم علي الحكم.. وكان كل ما يريدون من حركة الجيش (الانقلاب) هو تطهير الجيش من أمثال حسين سري عامر رجل الملك والحاشية مثل بوللي ولذلك كان نجاح الإنقلاب مفاجأة لهم - ما عدا عبد الناصر - الذيكان قد وضع المباديء الستة - ولم يكن لديهم برنامج محدد بعد تنازل الملك فاروق عن العرش ومغادرته مصر! شهادة للتاريخ من الشافعي في أزمة مارس كان نجيب يستطيع ان يمسك بزمام الحكم فقد كان الشعب كله معه ووقتها قال عبد الناصر لأعضاء المجلس: إن ما يهمني هو الجيش! وكان يعتمد علي عبدالحكيم عامر في هذه المهمة وتم إقصاء الضباط الذين عارضوا المجلس في الفرسان والمدفعية وألقي القبض علي بعضهم وجرت محاكمتهم رغم معارضة اللواء نجيب.. ولكنه كان عاجزاً عن التصرف! لم يتعرض رئيس مصري للانكار والغبن مثل ما تعرض له محمد نجيب أول رئيس للجمهورية ولم يعان أحد من ثوار يوليو مثل ما عاني الرجل الذي تحمل مسئولية قيادة حركة الجيش ضد الملك فاروق من مخاطر غير محسوبة مثل ما حدث للواء نجيب بعد استقالته من منصبه ورغم الدور الاساسي الذي لعبه في ثورة 23 يوليو 52 ورغم الشجاعة والجسارة التي خرج بها في تلك الليلة المشهودة لقيادة حركة من الضباط صغار السن والرتب لتطهير الجيش والحكم كما جاء في البيان الاول.. وكما قال حسين الشافعي نفسه في «شهادة للتاريخ» إن وجود اللواء نجيب قائداً لحركة الجيش كان ضروريا لنجاحها، وأن وجود ضباط برتبة كبيرة علي رأس الضباط الأحرار كان لازماً لكي يتقبل الشعب حركة الضباط ذوي الرتب الصغيرة - من البكباشية والصاغات - ورغم أن جمال عبدالناصر كان القائد الحقيقي للتنظيم إلا أنه لم يكن يستطيع الظهور علنيا - منذ اليوم الاول - أمام الشعب كقائد للثورة.. ولا يمكن إنكار دور نجيب في الثورة لانه تحمل المسئولية مثل باقياعضاء مجلس القيادة وكان سيتعرض لنفس مصيرهم - لو فشلت الحركة - فإن ما قاموا به كان يعتبر تمرداً وانقلاباً عسكريا وكان من الممكن ان يدفع نجيب حياته ثمنا لمشاركة مجموعة من الضباط الصغار في ذلك.. وعلي حد شهادة حسين الشافعي: إن اللواء نجيب اكتسب شعبية واسعة كانت السند القوي لحركة الجيش نظراً لدوره الوطني في انتخابات نادي الضباط بالتحدي للملك فاروق علنا وكذا سمعته الطيبة وبطولته في حرب فلسطين.. ولكن جمال عبد الناصر وجد أن ذلك يؤثر علي دوره كقائد تنظيم الضباط الاحرار وطموحه لكي يكون رئيس مصر. ولذلك كان الصراع المكتوم بينه وبين نجيب منذ البداية ومحاولة عزله عن مجلس القيادة وتقليص دوره وضم جمال الي صف أعضاء المجلس وكان خالد محيي الدين هو الوحيد الذي انضم إلي جانب اللواء نجيب وخصوصا في أزمة مارس.. وقد يكون فارق السن بينه وبينهم السبب في اختلاف الرؤي تجاه قضايا الديمقراطية والأحزاب وبما أدي إلي الصدام.. وكان نجيب يتحاشي الخلاف مع عبدالناصر حتي لا يحدث شرخ في المجلس وكان عبد الناصر يتظاهر بالموافقة علي موقفه ولكنه كان يجتمع سرا مع أعضاء مجلس القيادة ويتخذ قراراته التي تتعارض مع آراء محمد نجيب..! تحديد موعد الثورة يروي محمد نجيب - في مذكراته الخاصة التي دونها سراً - في معتقل قصر المرج - ان جمال عبدالناصر وعبدالحكيم عامر حضرا إلي منزله في الزيتون - علي غير موعد - وكانا يريدان تحديد موعد الحركة يوم 4 أغسطس لسببين: اكتمال وصول الكتيبة 14 مشاة إلي القاهرة وحصول الضباط علي مرتباتهم في أول الشهر.. ورفض نجيب لإن القوات الموجودة كانت تكفي للقيام بالمهمة ولا مبرر للتأجيل.. وحسم الامر وأوضح نجيب لهما الخطر الذي يتهدد الجميع والذي ألمح له وزير الداخلية في مقابلته معه عن وجود معلومات عن حركة في الجيش واتفق الثلاثة علي التحرك خلال أيام حتي يتحقق عنصر المفاجأة. وعلم نجيب بعدها أن الملك فاروق وجه لوما عنيفا إلي الفريق محمد حيدر القائد العام لانه لا يعرف القائمين بالحركة وطلب طرد اللواء نجيب والاثني عشر ضابطاً الذين لهم صلة بالنشاط السري في الجيش.. وقد تأكد ذلك عندما وجدوا في مفكرة اللواء حسين فريد رئيس الاركان وبعد اعتقاله - اسم جمال عبدالناصر واسماء عدد من ضباط الحركة وقد تقرر نقلهم خارج القاهرة وإبعادهم إلي مواقع أخري.. ولذلك تقرر أن تكون الحركة ليلة 21 - 22 يوليو ثم تأجلت يوماً لابلاغ أكبر عدد من تنظيم الضباط الاحرار وتجهيز الوحدات وإبلاغ المناطق الأخري.. وهكذا كانت بداية حركة الجيش بين نجيب وعبدالناصر! وكانت خطة العمليات التي وضعها زكريا محيي الدين - المدرس بكلية اركان الحرب وقتها - تقضي بأنه يبقي اللواء نجيب في البيت حتي تتم التحركات السرية ولا يثير الشكوك من حوله، ثم يتوجه في ساعة الصفر الي مبني رئاسة الاركان في كوبري القبة لكي يتولي القيادة لإن إعتقاله أو إثارة الشبهات حوله يؤدي إلي فشل الخطة.. وفي ليلة 23 يوليو بقي نجيب ساهراً في بيته لكي يضلل المراقبين.. وفي منتصف الليل اتصلت به زوجة شقيقة اللواء علي نجيب قائد حامية القاهرة لأنه تأخر عن العودة - والذي كان في مؤتمر مع اللواء حسين فريد في مبني القيادة ولم يكن يعلم شيئاً عن الحركة وبلغ من حرص محمد نجيب أنه اخفي الامر عن أخيه! وتوقفت باهتمام أمام شهادة اللواء جمال حماد - من الضباط الاحرار والمؤرخ الذي كتب بيان حركة الجيش - يوم 23 يوليو - وهو يتذكر بالامانة والصدق عن الطريقة المهينة التي عومل بها الرئيس محمد نجيب علي مدي سنوات طويلة واعتقاله في فيلا المرج ولم يكن يستحقها بعد ما قام بدوره بشجاعة في ليلة 23 يوليو وتحمل مسئولية قائد الانقلاب الذي أطاح بالملك.. وكان معرضا للإعدام في حالة الفشل.. ولكن خاف من شعبية نجيب ووضعه رهن الاعتقال وامتد ذلك حتي أصدر الرئيس السادات قرار الافراج عنه متأخراً.. وقد قابلت نجيب حينما جاء لزيارتي في بيتي وقتها وصارحته بأنه المسئول عما حدث للثورة من أخطاء بعدما فرط في حقوق مسئوليته وخضع لعبدالناصر.. وهكذا كانت النهاية!