عبدالناصر وعبدالحكيم.. »الصداقة« أزاحت فوارق المناصب بينهما ثمن الصداقة.. »العمدة« يقود الجيش! لم يعرف عن الرئيس جمال عبد الناصر أن له أصدقاء إلا أصدقاء سياسة.. ولم تعرف له علاقة لم تكن مبنية علي السياسة أو تغذيها السياسة. في القمة كان رجلان اثنان في قلب عبد الناصر يعبران بوجودهما عن الحقيقة المزدوجة للسلطة.. ثقل السلاح وفعل الكلام.. عبدالحكيم عامر ومحمد حسنين هيكل.. كان الأول بعد حسن النشار صديقه المختار من عام 1938 إلي عام 1967.. وكان الآخر كاتم الأسرار الأثبت في آخر سنوات عبد الناصر، من عام 1953 وهي الفترة التي حررا فيها معا (فلسفة الثورة) حتي الساعة الأخيرة. كانت عائلة جمال عبدالناصر تدعو عبد الحكيم عامر (عبدو).. وكان عبدالناصر قد سمي ابنه الأصغر عبدالحكيم.. لكنهم صاروا يدعونه »حكيم« بعد 1967. وفي عام 0691 عندما توفي الشيخ علي عامر والد المشير الذي كان يومها في سوريا توجه الرئيس عبدالناصر بنفسه إلي القرية القريبة من مدينة المنيا ليمثل صديقه في المأتم. لكن المشير عبدالحكيم عاش ومات دون أن نعرف إلا القليل جدا عن طفولته وصباه وأيام شبابه! - وسنحاول في السطور التالية أن نكشف عن هذا الجانب فالرجل كان نائبا للرئيس عبدالناصر ووزيرا للحربية ورئيس أركان الجيش المصري منذ عام 6591حتي عام 7691.. ونائب رئيس الجمهورية خلال الفترة من عام 8591 وحتي عام 5691. ولد المشير محمد عبد الحكيم عامر في قرية أسطال مركز سمالوط بمحافظة المنيا في 11 ديسمبر لأسرة تعد من الأثرياء، وكان والده الشيخ علي عامر عمدة القرية.. ومن الأمور التي تدعو للدهشة وربما التأمل ما وراه »جمال القاضي« عضو تنظيم الضباط الأحرار، وكان ذلك عن واقعة حدثت في الأيام الأولي للثورة، قال جمال القاضي: كان والد عبدالحكيم عامر من أثرياء المنيا وكان يمتلك حوالي خمسمائة فدان.. وبعد قيام الثورة فوجئ جمال عبدالناصر بوالد عبد الحكيم عامر يأتي للقاهرة ويعطي لولده ثلثي إيراد أرضه ويقول له: »لازم يا ابني تظهر بمظهر كويس«! ولم يعترض إخوته علي هذا التقسيم الظالم للإيراد، حيث أقنعهم والدهم بأنه لازم يظهر بمظهر محترم أمام زملائه.. وكان الحاج بكري عم عبدالحكيم عامر يأتي للقاهرة مرة كل أول شهر حاملا معه كيس قماش فيه النقود التي يعطيها لابن أخيه عبد الحكيم عامر.. وكان كل أعضاء مجلس قيادة الثورة يقترضون مايحتاجون من نقود من عبدالحكيم عامر! أبي يحب المغامرة أما الابن الكبير للمشير عبدالحكيم عامر واسمه جمال (لاحظ أن عبدالحكيم أطلق علي ابنه الكبير اسم »جمال« وعبدالناصر أطلق اسم »عبدالحكيم« علي ابنه الأصغر. يقول جمال عبدالحكيم عامر: كان أبي يحب المغامرة وربما وجد في الجيش تحقيقا لهذه المغامرة.. وقد أشتهر عن والدي الكرم وحب زملائه والوقوف معهم في المواقف الصعبة.. وهنا نتساءل: هل كان لعبد الحكيم عامر أحاديث صحفية أم لا؟.. وهل كان يحب الحديث إلي الصحافة؟.. كل من عرفوه أكدوا أنه لم يكن يجب إجراء الأحاديث الصحفية، وربما ذلك ماجعله غامضا بعض الشيء وجعلنا لانعرف الكثير عن نشأته وحياته. تحقيق صحفي نادر ولكن من خلال البحث تم العثور علي حديث صحفي وحيد ونادر لعبدالحكيم عامر.. ومن هنا تزداد قيمة هذا التحقيق الذي نشرته مجلة »آخر ساعة« بتاريخ 21 مايو 4591 بعنوان »مواقف من ليلة 32 يوليو«، وتضمن حوارا مهما جدا مع عبدالحكيم عامر.. كانت مقدمة التحقيق الذي كتبته »إيزيس فهمي« تقول: كيف لعب القدر دورا في حياة القائد العام للقوات المسلحة، فانتقل من كلية الزراعة إلي الكلية الحربية؟! تقول في التحقيق إن والده كان صارما معه لدرجة الضرب، فقد ضربه ضربا مبرحا في يوم شم النسيم عندما كان عمره (31 عاما) لأنه تجاوز النيل عوما إلي الضفة الغربية مع أخيه وابن عمه وأخذوا يلعبون في شعاب الجبل، وكان الأهل منهمكين في البحث عنهم، فلما عادوا أبرحه والده ضربا.. فهو لاينسي أبدا قسوة أبيه معه في هذا اليوم.. وتروي إيزيس فهمي حكايته مع القصص البطولية وهو طفل وكيف أنه كان يترك دروسة ويستذكرها، وقد أنجز دراسته الابتدائية والتحق بالمدرسة الثانوية.. وكان شغوفا بالكيمياء وكان يحلم بدخول كلية العلوم ولكنه مرض في التوجيهية مرضا شديدا قبل الامتحان مما جعله لم يتمكن من الحصول علي الدرجات التي تؤهله إلي كلية العلوم.. وبسبب المجموع التحق بكلية الزراعة.. ويقول إنه رسب في السنة الأولي في كلية الزراعة. في الجيش.. بالصدفة يقول عبدالحكيم عامر في تحقيق »آخرساعة« أنه وعن طريق الصدفة فقط التحق بالجيش.. ويذكر أنه في يوم من الأيام كان موجودا في معمل كلية الزراعة، وكان له صديق متغيب عن الدراسة لفترة اسمه (عبدالقادر خيري) فسأله: لماذا كل هذا الغياب.. كنت مشغولا عليك فقال لي عبدالقادر خيري: »كنت بقدم في الكلية الكربية«.. فقلت له: »لماذا لم تقل لي كنت قدمت فيها معك«.. فقال لي: علي العموم الفرصة لم تفت غدا آخر يوم في تقديم طلبات الالتحاق بالكلية الحربية إن كنت جادا اذهب وقدم.. ويقول عبدالحكيم عامر إنني نجحت في اختبارات التقديم عن طريق الصدفة البحتة! ويذكر عبدالحكيم عامر أنه تعرف علي جمال عبدالناصر في الكلية الحربية وصارت بينهما صداقة حميمة كان الجميع يعجب بها. ويقول إن اللقاء الثاني بينه وبين عبدالناصر كان في السودان عام 0491 واستمر وجودهما معا عاما ونصف يأكلان ويشربان معا مما قوي عري الصداقة بينهما. لكن هناك سؤال يطرح نفسه: هل كان عبدالحكيم عامر متسرعا في قراراته؟ هو يجيب بأنه كان متسرعا جدا.. سريع الانفعال.. سريع الغضب، تستفزه الصغيرة والكبيرة علي السواء.. ولعلنا نلاحظ من كلامه عن نفسه السبب في كم الأخطاء التي أوقع البلد ونفسه فيها. أخطاء المشير عامر يتحدث المؤرخون عن عدد من الأخطاء أوقعه فيها تسرعه.. منها: أيام الوحدة مع سوريا: يتهمه السوريون مع أنور السادات وراء إفشال مشروع الوحدة (الجمهورية العربية المتحدة) بسبب سلوكهما الاستعلائي والتصرفات الارتجالية التي أضرت بسوريا واقتصادها.. كما يتهمه اليمنيون بأنه وراء فشل إلحاق اليمن بمشروع الوحدة المنتظرة بعد الثورة اليمنية وحرب نصرة اليمن.. حيث يذكر رئيس الوزراء اليمني الأسبق محسن العيني بأن تصرفاتهما (هو وأنور السادات) لم تكن وحدوية وودية بل تصرفات قوات غازية ومحتلة ذات طبيعة عنجهية متسلطة. أما الرئيس العراقي الأسبق عبدالسلام عارف فكان دائما يشير إلي أن سبب تعطيل مشروع الوحدة الثلاثية يرجع إلي عبدالحكيم عامر وأنور السادات. حرب 76: وضعت حرب الأيام الستة أو نكسة 76 نهاية لمستقبله، حيث أعفي من كافة مناصبه وأحيل للتقاعد، ثم وضع قيد الإقامة الجبرية في منزله في أغسطس 7691 بسبب التصرفات الارتجالية غير المدروسة لقيادته للمعارك ثم إنهياره مما أدي إلي التخبط في إصدار قرار الانسحاب من سيناء الذي أدي للهزيمة. ثمن الصداقة! لكن دعونا نطرح سؤالا مهما: هل كان »الصاغ« عبدالحكيم عامر مؤهلا لمنصب وزير الحربية منذ البداية؟ الإجابة تكشف عنها السطور التالية: لقد تولي عبدالحكيم عامر منصب مدير مكتب القائد العام اللواء محمد نجيب، في أعقاب نجاح ثورة يوليو 25، وجاء تعيينه لمتانة علاقته مع محمد نجيب، وليكون »عينا« عليه في الوقت نفسه. واستمر عامر في هذا المنصب لمدة عام كامل إلي أن قرر مجلس قيادة الثورة إعلان الجمهورية وتعيين محمد نجيب كأول رئيس لها في يوليو 3591.. فقد صدرت صحيفة الأهرام صباح الخميس 81 يوليو 3591 وعلي صفحتها الأولي تصريح لجمال عبدالناصر يقول فيه: »الجمهورية آتية ولكن موعد إعلانها لم يتقرر بعد«.. غير أن مساء اليوم نفسه قطع الشك باليقين.. وفي أعقاب اجتماع مجلس قيادة الثورة عقد وزير الإرشاد صلاح سالم اجتماعا مع مندوبي الصحف ووكالات الأنباء أدلي فيه ببيان قال فيه أنه سيتم في ذلك اليوم إلغاء النطام الملكي وإنهاء حكم أسرة محمد علي وإعلان الجمهورية وتولية اللواء محمد نجيب رئاسة الجمهورية. وأضاف قائلا: »وقد قرر مجلس الثورة تعيين »البكباشي« جمال عبدالناصر نائبا لرئيس مجلس الوزراء ووزيرا للداخلية، وتعيين قائد الجناح عبداللطيف البغدادي وزيرا للحربية، والصاغ صلاح سالم وزيرا للإرشاد ووزيرا للدولة لشئون السودان.. كما تقرر تعيين »الصاغ« عبدالحكيم عامر قائدا عاما للقوات المسلحة«. وفي تلك الليلة أذاع محمد نجيب بيانا إلي الشعب أعلن فيه إلغاء النظام الملكي وحكم أسرة محمد علي مع إلغاء الألقاب من أفراد هذه الأسرة، وإعلان الجمهورية بتولي نجيب رئاسة البلاد. وهكذا نجح عبدالناصر في ترفيع صديقه عامر لرتبة »اللواء« وتعيينه قائدا عاما للقوات المسلحة خلفا لنجيب.. وعلي مضض وافق محمد نجيب علي هذه الخطوة بالرغم من عدم اقتناعه بصواب التعيين، وذلك لحرجه أمام صديقه عامر، ولعدم قدرته عن تقدير موازين القوي علي رده. ويقول محمد نجيب في مذكراته »كلمتي للتاريخ«: ثرت في المجلس ثورة عنيفة معارضا ترقية عبدالحكيم عامر من رتبة صاغ إلي رتبة لواء دفعة واحدة وتعيينه قائدا عاما لكل القوات المسلحة، مبينا أن ذلك سوف يخلق نقمة عامة في الجيش قد تكون صامته ومطوية في الصدر، ولكنها ستكون قابلة للانفجار في أي لحظة.. »قلت لهم أي لأعضاء مجلس قيادة الثورة إني اعترضت علي تعيين الفريق محمد حيدر رغم أقدميته لأنه كان بعيدا عن صفوف الجيش، وأنا اليوم أعترض علي ترقية عبدالحكيم عامر وتعيينه قائدا عاما لأنه ليس مهيئا لذلك، ولم ييأس المجلس من الوصول إلي هدفه، فقد تكرر عرض الموضوع أكثر من مرة، وفي كل مرة كنت أرفض وأثور وحدي بلا نصير يقفي معي، وهددت بالاستقالة فتأجل الموضوع ثلاثة أسابيع«. ويضيف محمد نجيب قائلا: »لم اعترض فقط علي ترقية عبدالحكيم عامر أربع رتب مرة واحدة مما ليست له سابقة في الجيش المصري، ولكني اعترضت أيضا علي إعلان النظام الجمهوري.. لم أعترض لأني ضد النظام الجمهوري ومؤيدا للنظام الملكي، ولكني اعترضت لإيماني بأن تحويل نظام البلد السياسي يجب أن ينص عليه في الدستور، وأن يكون ذلك موضوع استفتاء شعبي عام.