محمد وجدى قندىل لم يكن اللواء محمد نجيب يضع في حسابه أن يكون أول رئيس للجمهورية الأولي في مصر بعد إلغاء النظام الملكي وسقوط حكم أسرة محمد علي.. وحينما خرج ليلة 32 يوليو مع قادة الضباط الأحرار وتولي قيادة حركة الجيش، لم يكن يطمع في أن يكون حاكما لمصر ولكن توالت التطورات وصار الواجهة المقبولة لدي جماهير الشعب بعد تنازل الملك فاروق عن العرش لابنه الأمير أحمد فؤاد الثاني - الطفل الرضيع ولم يكن يتعدي ستة شهور وقتها- وتشكل مجلس الوصاية الذي تولي الشرعية لمدة عام ونصف عام.. وبعد إلغاء الملكية حكمت الشرعية الثورية وتم الاستفتاء علي تولي محمد نجيب أول رئيس بعد إعلان الجمهورية. لم تعرف مصر النظام الجمهوري في تاريخها السياسي وإنما توارث أبناء محمد علي الحكم وكان في يد الخديو والسلطان ثم كان أحمد فؤاد أول ملك بعد الاستقلال عن الحكم العثماني والباب العالي في الاستانة، وتكونت الأحزاب السياسية بعد ثورة 9191 وكان أكثرها شعبية حزب الوفد الذي تزعمه سعد زغلول ثم مصطفي النحاس، ومن ثم كان الصراع الدائم بين الملك فؤاد- ثم الملك فاروق- وبين مصطفي النحاس زعيم الأمة.. ولذلك حينما قامت حركة الجيش- ثورة يوليو- لم يفكر عبدالناصر والضباط الأحرار في إلغاء الملكية مرة واحدة وإنما كانت مرحلة الوصاية علي العرش وبقاء الملك فؤاد الثاني بمثابة فترة انتقالية حتي يتمكن مجلس الثورة من السيطرة علي الحكم وبالتالي فإن تعيين محمد نجيب أول رئيس للجمهورية بالاستفتاء كان الاعلان عن سقوط الملكية وقيام الجمهورية الأولي في مصر.. الصراع علي السلطة عندما بدأ الرئيس محمد نجيب يباشر مهامه في الحكم كان من الطبيعي ان يحدث الصراع علي السلطة بينه وبين جمال عبدالناصر والذي كان يعتبر نفسه قائد الثورة الحقيقي- وهكذا انقسم المجلس بين نجيب وبين أعضاء مجلس القيادة الذين كانوا يعتبرونه مجرد واجهة للحكم- لكن بغير صلاحيات رئيس الجمهورية.. وقد وافق محمد نجيب علي هذا الوضع حتي لا يدخل في صدام معهم.. وكما يروي اللواء محمد نجيب في مذكراته الخاصة عن تلك الفترة: اعترضت علي ترقية عبدالحكيم عامر وتعيينه قائدا عاما للجيش لأنه ليس مهيأ لذلك ولم ييأس المجلس من الوصول إلي غرضه وفي كل مرة كنت أرفض وأثور وحدي بلا نصير يقف معي وهددت بالاستقالة فتأجل الموضوع ثلاثة أسابيع.. لم اعترض فقط علي ترقية عبدالحكيم عامر أربع رتب مرة واحدة إلي »اللواء«، ولكنني اعترضت أيضا علي اعلان النظام الجمهوري ولم يغرني ما عرضوه من تعييني رئيسا للجمهورية وعبدالحكيم عامر قائدا عاما للقوات المسلحة وكنت أؤثر ان يظل في موقعه مديرا لمكتبي.. واعترف أنني قبلت تحت ضغط وإلحاح وكان هذا هو الخطأ الكبير الذي وقعت فيه فقد شعرت بعد قليل أنني أصبحت في مركز أقل قوة بعد أن تركت قيادة القوات المسلحة! كان قانون تنظيم الأحزاب وإعادة تأسيسها من جديد مثار الخلاف بالنسبة لوضع جماعة الإخوان المسلمين، وكما يروي نجيب: أذكر أن جماعة الإخوان تقدمت بإخطار عن تأسيسها علي وجه الاحتياط في حال اعتبارها حزبا بمقتضي القانون ولكن جمال عبدالناصر ذكر لي أن الجماعة كانت من أكبر أعوان الحركة قبل قيامها وأنه لا يصح أن نطبق عليها قانون الأحزاب، وعارضت هذا الرأي ولكن عبدالناصر وجد مخرجا: انه في إمكان الجماعة إدخال تعديل علي الإخطار يخرجها من نطاق الأحزاب السياسية.. ودارت مناقشات حادة داخل مجلس القيادة حضرها سليمان حافظ الذي كان يدافع عن مشروع قانون حل الأحزاب وكان يسانده صلاح سالم وجمال سالم وكان يقف في المعارضة عبدالناصر وعبدالحكيم عامر وخالد محيي الدين، وعرض الأمر مرة أخري ولكن وجدت ان نبرة المعارضين قد خفت ولم يقف معي غير خالد محيي الدين ويوسف صديق وتحول الباقون إلي مؤيدين! وبعدها تفاقمت الأزمات داخل مجلس القيادة واستقال يوسف صديق بعد أزمة اعتقالات ضباط المدفعية، وبعدها حدثت أزمة البكباشي حسني الدمنهوري ورأس عبدالناصر المحكمة وحضرها جميع أعضاء مجلس القيادة عدا يوسف صديق وأنور السادات وخالد محيي الدين وعبدالمنعم أمين وصدر الحكم بالاعدام ورفضت بشدة وقلت: لا أمضي في طريق مفروش بدماء الضباط! وبعدها أعلن تشكيل مجلس قيادة الثورة وصدر قانون حل الأحزاب وتحددت فترة انتقالية مدتها ثلاث سنوات وصار دخول الجيش في السياسة تحت إغراء السلطة أمرا واضحا، وظهر اتجاه إلي انهاء الأزدواجية بين مجلس قيادة الثورة ومجلس الوزراء وأصر محمد نجيب علي تشكيل لجنة لوضع دستور جديد بعد إلغاء دستور 3291 وتم اتخاذ قرار باقرار دستور مؤقت صدر في فبراير 3591.. وأخذت الأحداث تتداعي بعد ذلك. وذكر محمد نجيب في مذكراته: لاحظت ان المجلس كان ينعقد أحيانا بدون حضوري وإذا حضرت مصادفة توقف الحديث الدائر واتجهوا لي متساءلين عما يجب مناقشته، وعندما تكرر ذلك لابعادي وعزلي لاحظت ان اجتماعات كانت تتم بينهم في الخارج للاتفاق علي موقف معين، وبدأ عبدالناصر ينفرد بنفوذه ويشكل قوة خاصة موالية داخل المجلس.. وتدهورت الأمور بعد ذلك وكتبت استقالتي وفكرت في أن أذيعها بنفسي علي الشعب ولكنني أرسلتها لهم.. وفي الصباح -52 فبراير 4591- صدر بيان بأن مجلس قيادة الثورة قد قبل استقالتي وعين البكباشي جمال عبدالناصر رئيسا للوزراء.. وخرجت الجماهير الهادرة في شوارع القاهرةوالإسكندرية والمدن تهتف بالحرية والديمقراطية وتطالب بعودتي إلي رئاسة الجمهورية، وفوجئت بقطع تليفوني وتغيير الحرس ومنع الدخول إلي منزلي أو الخروج منه.. وبعد العدول عن الاستقالة وعودتي لرئاسة الجمهورية كان لعملية تحديد إقامتي بهذا الغدر والخيانة من قائد الحرس الجمهوري »عبدالمحسن أبوالنور« رد فعل عنيف بين ضباط الحرس وجنوده وقررت إبعاده.. وصدر بعدها بيان من المجلس بعودتي حفاظا علي وحدة الأمة! اتصال الإخوان مع نجيب وهنا وقفه عند موقف قيادة الإخوان المسلمين في هذه الفترة الحرجة بما يدل علي الانتهازية السياسية ومحاولة استغلال أزمة مارس بين محمد نجيب وجمال عبدالناصر.. وتم الإفراج عن المعتقلين من الإخوان المسلمين وذهب عبدالناصر إلي زيارة المرشد حسن الهضيبي عقب الإفراج عنه في منزله بعد منتصف الليل.. واستأنفت الجماعة نشاطها وأعلن الهضيبي ان الجماعة قائمة وأنها أقوي مما كانت.. ووضح أن عبدالناصر قد اختار أن يمضي في هذه المرحلة عن طريق الإخوان وانه اشتري صمتهم بإعادة الجماعة وقد أغراهم ذلك علي التعاون كفرصة انتهازية للقضاء تماما علي فكرة عودة الأحزاب والحياة البرلمانية ثم الانفراد بالسلطة بعد ذلك! وكان الإخوان قد حاولوا الاتصال بالرئيس محمد نجيب في ديسمبر 3591 عندما تصاعدت الخلافات بينه وبين عبدالناصر وأعضاء مجلس الثورة- وذلك عن طريق محمد رياض السكرتير العسكري الخاص- واتصل به منير الدلة وحسن العشماوي- وطلبا ان تتم مقابلة سرية بينهما وبين الرئيس نجيب في بيت الدكتور اللواء أحمد الناقة بالقسم الطبي بالجيش.. ورفض نجيب فكرة الاجتماع السري وأبلغهما عن طريق رياض أنه مستعد لمقابلتهم في بيته أو في مكتبه ولكن الإخوان اعتذروا عن ذلك وطلبوا ان يفوض مندوبا للتباحث معهم ووافق علي ذلك وكلف رياض بهذه المهمة وبتعليمات محددة، واجتمع رياض بممثلي الإخوان - العشماوي ومنير دلة- عدة مرات.. وأوضح لهما رياض رأي نجيب في انهاء الحكم العسكري القائم وعودة الجيش إلي ثكناته وعودة الأحزاب وإقامة الديمقراطية! ولكن الإخوان لم يوافقوا علي ذلك وطالبوا ببقاء الحكم العسكري وعارضوا عودة الأحزاب وإقامة الحياة النيابية وعارضوا إلغاء الأحكام العرفية وطالبوا باستمرار الأوضاع كما هي علي أن ينفرد نجيب بالحكم ويتم إقصاء عبدالناصر وأعضاء مجلس الثورة وان تشكل وزارة مدنية لا يشترك فيها الإخوان ولكن يتم تشكيلها بموافقتهم، وان تشكل لجنة سرية استشارية يشترك فيها بعض العسكريين الموالين للرئيس نجيب وعدد مساو من الإخوان المسلمين وتعرض عليها جميع القوانين قبل إقرارها كما يعرض عليهم السياسة الرئيسية للدولة كما يعرض علي اللجنة اسماء المرشحين للمناصب الكبري.. وكأن الإخوان بذلك يريدون السيطرة علي الحكم دون ان يتحملوا المسئولية.. وقد رفض نجيب جميع الاقتراحات وانتهت هذه المفاوضات السرية التي جرت بين الصاغ محمد رياض وبين جماعة الإخوان بتكليف من الرئيس نجيب! اللعب علي الحبال كان الإخوان يلعبون علي الحبال بين نجيب وعبدالناصر وحتي يتمكنوا من الوصول إلي السلطة، وحسب شهادة نجيب: اقترح رياض معاودة الاتصال بالإخوان الذين وقفوا بجانبي عند استقالتي فحذرته من ذلك لفقداني الثقة في اتجاه زعمائهم.. وحدث اتصال مع المرشد حسن الهضيبي وقال انهم لم يتدبروا أمورهم بعد وأنهم ينتظرون حتي يتم الإفراج عن جميع المعتقلين، وكان هذا هو موقف مكتب الارشاد أما جماهير الإخوان التي خرجت لتأييدي بعد استقالتي في مظاهرات ضخمة فإنها لم تكن توافق مكتب الارشاد بل احتل بعض شباب الإخوان مقر عابدين احتجاجا علي ذلك وكان هذا بداية الانقسام في الجماعة ولكن في ذات الوقت كانت قياداتهم علي اتصال مع عبدالناصر وأبدوا مساندتهم له ولمجلس الثورة ومنهم حسن العشماوي! ووصلت الأزمة إلي ذروة الصدام وحضر الملك سعود بن عبدالعزيز إلي القاهرة للوساطة، وتوجهت لمقابلته في قصر الطاهرة حيث استدعينا جمال عبدالناصر وعبدالحكيم عامر والدكتور عبدالرزاق السنهوري فحضروا بعد منتصف الليل.. وكان الاجتماع مرهقا وكنت منهكا بسبب تطورات الأحداث الداخلية وقلت للملك سعود أمامهم إن الأمور قد وصلت إلي نقطة الافتراق ولم يعد هناك سبيل للاتفاق مع أعضاء المجلس بعد أن وصلوا إلي حد التآمر وأن قراري هو الاستقالة.. وأصر عبدالناصر علي معارضة القرار وتحت إلحاج الجميع قبلت البقاء في موقعي انقاذا للبلد ومنعا للحرب الأهلية وودعت الملك سعود.. وسقطت في المطار في حالة إعياء وعاد معي عبدالناصر إلي بيتي خوفا من المضاعفات ولزمت الفراش ثلاثة أسابيع! وانتهي الصراع ووضع عبدالناصر الضباط الذين وقفوا بجانب نجيب في السجون وسقط السنهوري من رئاسة مجلس الدولة.. وطلب عبدالناصر تشكيل الوزارة وأبلغه نجيب انه لن يحضر اجتماعات مجلس الثورة.. وتم توقيع اتفاقية الجلاء.. وحدثت بعد ذلك محاولة اغتيال عبدالناصر في ميدان المنشية- مؤتمر الإسكندرية- يوم 62 أكتوبر وقام بها أحد أعضاء الجهاز السري للإخوان المسلمين وجرت عمليات قبض علي عدد كبير منهم وكان الصدام الأول بين عبدالناصر وبينهم.. وذهب نجيب إلي بيت عبدالناصر في منشية البكري للاطمئنان عليه، وخرج واثقا أن مؤامرة جديدة تدبر ضده، وكان هو آخر لقاء بينهما..! وأمضي الرئيس نجيب الشهور التالية وهو معزول تماما عن الحكم إلا المقابلات الرسمية التي كانت تتم في مكتبه في قصر عابدين وتجنب القيام بالأعمال الروتينية التي كلف بها حسن إبراهيم وزير شئون القصر.. وجاء يوم النهاية عندما توجه نجيب إلي مكتبه في القصر فوجد بعض ضباط البوليس الحربي علي الباب وتبعه إثنان منهم إلي الداخل ولكنه نهرهما.. وبعد خروجهما اتصل مع جمال عبدالناصر تليفونيا فقال له: أنه سيرسل له عبدالحكيم عامر.. وبعد فترة وصل عامر ومعه حسن إبراهيم وقالا في خجل وبصوت خافت: أن مجلس الثورة قرر إعفاءه من منصب رئيس الجمهورية.. وقال نجيب لهما: أنا لن استقيل الآن أما إذا كان الأمر إقالة فمرحبا! وخرج معهما من المكتب حاملا المصحف! وركب سيارة مع حسن إبراهيم اتجهت به إلي استراحة المرج واستمرت إقامته بها 81 عاما وكانت نهاية أول رئيس جمهورية! البلطجية وأطفال الشوارع! الأربعاء: مأساة وأي مأساة.. أطفال الشوارع الذين يمثلون حصيلة ثلاثين عاما للنظام السابق.. خرجوا من قاع المدينة وتاهوا في العشوائيات وضلوا الطريق إلي الحياة الكريمة.. وناموا تحت الكباري وعلي الأرصفة وعانوا الجوع والحرمان ولم يجدوا الرعاية من المجلس القومي للمرأة بينما انفقت الملايين علي دعايات مظهرية »للهانم«! ثلاثة ملايين ضحية من الطفولة المشردة وبمرور السنوات صاروا نواة البلطجية الذين يقومون بترويع الآمنين والسرقة وبيع المخدرات، فقد تربوا علي كراهية المجتمع الذي لفظهم وتنكر لحقوقهم، وأقول: إنها جريمة نظام في حق ثلاثة أجيال من أطفال الشوارع البؤساء الذين تسربوا من المدارس وهربوا من بيوتهم تحت قسوة الظروف.. وصاروا بلا مأوي يلتقطهم البلطجية المحترفون ويقدمون لهم وجبات الطعام والمخدرات مقابل تنفيذ أعمال الشغب والحرق وقذف الحجارة علي رجال الشرطة والجيش، كما حدث في شارع محمد محمود ورئاسة الوزراء ومقر وزارة الداخلية وبينهما هم لا يعرفون السبب؟ ولا يدركون أن حرق المجمع العلمي هو تدمير تاريخ وطنهم! هؤلاء الصبية والفتيات الصغار الذين خرجوا من العشوائيات والبؤر الفاسدة لكي يبحثوا عن لقمة العيش والمأوي وهم لا يتورعون عن فعل أي شئ ويتعاطون البانجو ويمارسون الدعارة ويتعرضون للاستغلال من البلطجية و»اللهو الخفي« نظير ورقة الخمسين جنيها.. واحد منهم اعترف أمام كاميرا التليفزيون في أحداث الشيخ ريحان: مش حانمشي من هنا غير لما كل واحد يكون مرضي! وقد كشفت تلك الأحداث عن عورات المجتمع واسقطت أكاذيب ما كان يقال عن رعاية »الهانم« لمشروع أطفال الشوارع وكان المجلس القومي للطفولة والأمومة التابع لها يتلقي التبرعات من جهات مختلفة لرعاية هؤلاء الأطفال! وفي الجزيرة الوسطي من ميدان التحرير يوجد في الخيام نماذج من هؤلاء الضحايا تحت حماية البلطجية بعدما خلا الميدان من اعتصامات شباب الثورة وخلفوا وراءهم تلك الخيام التي صارت وكرا للدعارة والمخدرات بين هؤلاء الصغار الضائعين من بيوتهم وأسرهم.. والذين كانوا يندسون وسط المتظاهرين من الشباب للقيام بالأعمال الإجرامية لحساب البلطجية والمسجلين خطر، وهم يخفون الأسلحة البيضاء وزجاجات المولوتوف داخل هذه الخيام ولا يجرؤ أحد علي الاقتراب منهم.. ويقومون بتشويه ميدان التحرير »الرمز« وارتكاب الموبقات في الخيام أمام السياح.