هل تعلم الإخوان الدرس من الصدام مع عبدالناصر وبعد سنوات الحظر لنشاط الجماعة والقمع في السجون؟ لم تكن هناك عداوة مسبقة بين جمال عبدالناصر والإخوان المسلمين.. ولم يكن هناك ثأر بائت بينه وبين الجماعة قبل ثورة يوليو ولم يكن عبدالناصر يتخذ موقفا مناوئا للإخوان، بل كان يحرص علي جسور العلاقة الطيبة مع المرشد حسن الهضيبي وقياداتهم وذهب لزيارته في منزله في الروضة وكان يلتقي مع أعضاء مكتب الإرشاد - مع أعضاء مجلس الثورة- في المركز العام للجماعة في عابدين لكي يتناقشوا في الأمور السياسية.. ولكن عبدالناصر كان حريصا من جانبه علي عدم تدخل الإخوان في حركة الضباط الأحرار وعدم اختراقها وعدم ارتباطها بأي فصيل سياسي أو حزب أو جماعة.. فقد طلب الإخوان أن ينضم الضباط الأحرار إلي تنظيم الجماعة ولكن عبدالناصر رفض وحدثت فجوة بين الإخوان وتنظيم الضباط الأحرار، ومع ذلك فإن عبدالناصر ذهب بنفسه لتدريب المتطوعين الإخوان في حرب فلسطين عام 8491..! وهكذا كانت العلاقات متوترة - وشبه مقطوعة- بين التنظيم والجماعة، وبدا علي السطح عندما قامت ثورة 32 يوليو أن العلاقة وثيقة بينهما بسبب المعاملة الخاصة التي لقيها الإخوان من الثورة.. وقد طلب المرشد العام أن يلتقي مع أحد قادة الثورة، وتم لقاؤه الأول مع البكباشي جمال عبدالناصر في منزل صالح أبورقيق الموظف بالجامعة العربية.. وفي الاجتماع دار حديث طويل بينهما وعلي ضوء ذلك حدد الهضيبي موقف الجماعة من الثورة وكان رفض التعاون مع مجلس القيادة واتخذ موقفا مضادا.. وفي هذا الاجتماع طلب الهضيبي ان تطبق الثورة أحكام الشريعة الإسلامية وأن تصدر قرارا بفرض الحجاب علي النساء حتي لا يخرجن سافرات وأن تغلق دور السينما والمسارح، ورفض عبدالناصر وقال: ولماذا لم تطلبوا ذلك أيام الملك فاروق وكنتم تقولون: أن الأمر لولي الأمر! ولماذا لم تطبق الحجاب علي ابنتك الطالبة في الجامعة؟ كان الإخوان في ذلك الوقت يطالبون بالديكتاتورية والعزل السياسي ويرفضون أي حكم ديمقراطي وعبر عن ذلك سيد قطب علي شكل رسالة موجهة إلي اللواء محمد نجيب، وبدا واضحا أن هناك خلافا في الرأي وفي الاتجاه بين المرشد حسن الهضيبي الذي يمثل الإخوان وبين عبدالناصر الذي يمثل الثورة، وبلغ الخلاف مداه حول قانون تحديد الملكية الزراعية عندما رأي الهضيبي ان يكون الحد الأقصي 005 فدان ورأي عبدالناصر أن الثورة مصممة علي أن يكون الحد مائتي فدان فقط.. وقال المرشد: انه سوف يؤيد الثورة علي شرط أن تعرض عليه قراراتها قبل إصدارها! ورفض عبدالناصر وقال: أن الثورة قامت بدون وصاية من أحد ولا تقبل أن توضع تحت وصاية أحد، وإن كان ذلك لا يمنع التشاور في السياسة العامة مع كل المخلصين من أهل الرأي.. ولذلك غضب المرشد! وعندما قرر مجلس قيادة الثورة أن يتولي اللواء محمد نجيب تشكيل الوزارة علي أن يكون للإخوان وزيران.. اتصل عبدالحكيم عامر بالمرشد العام الذي رشح الشيخ أحمد حسن الباقوري عضو مكتب الإرشاد وأحمد حسن وكيل وزارة العدل، ولكن بعدها بساعات حضر إلي القيادة حسن العشماوي ومنير الدلة، وقابلا عبدالناصر وقالا إنهما قادمان ليدخلا الوزارة وأنهما موفدان من المرشد لإبلاغه أن مكتب الارشاد قد اختارهما لتمثيل الإخوان لإن الترشيح الأول كان من المرشد شخصيا.. وأدي ذلك إلي أزمة واتصل عبدالناصر بالمرشد يستوضح منه الموقف لإنه تم إبلاغ الباقوري، وطلب المرشد إمهاله لأخذ رأي مكتب الارشاد، ولكن لم يتصل به.. وعاود عبدالناصر الاتصال ولكن المرشد أبلغه: أن مكتب الارشاد قرر عدم الاشتراك في الوزارة.. ورد عليه عبدالناصر: أنه اتصل فعلا بالباقوري وسيحضر لحلف اليمين! وعندما نشرت الصحف في اليوم التالي تشكيل الوزارة الجديدة وضمن اعضائها الباقوري وزيرا للأوقاف اجتمع مكتب الارشاد وقرر فصل الباقوري من الإخوان.. وهكذا دخل الإخوان في مواجهة مع مجلس الثورة! العمل ضد الثورة بدأ الإخوان يعملون ضد الثورة في اتجاهين: الاتصال بمستر إيفانز المستشار الشرفي للسفارة البريطانية في القاهرة، وعقدوا معه عدة اجتماعات استمرت ساعات في منزل الدكتور محمد سالم وثبت أن إيفانز التقي أكثر من مرة المرشد العام وصالح أبورقيق ومنير الدلة. وفي ذات الوقت كان الإخوان يقومون بإتصالات سرية مع السفارة الامريكية.. تنشيط الجهاز السري للجماعة بضم أكبر عدد من ضباط الجيش والشرطة إليه بل إنهم اتصلوا بعدد من الضباط الأحرار وهم لا يعلمون انهم من تنظيم الثورة فسايروهم وكانوا يجتمعون معهم أسبوعيا ويأخذون قسما عليهم بإطاعة المرشد العام.. واستدعي عبدالناصر القيادي حسن العشماوي وحذره من ذلك ووضع أمامه ما تجمع من معلومات فوعد بأن يبلغ المرشد بهذا الأمر.. وبعدها استدعي عبدالناصر الشيخ سيد سابق والدكتور خميس حميدة وأبلغهما بتلك التحركات المضادة للثورة.. وطلب حل الجهاز السري للجماعة وبعدها تكشفت خيوط اتصالات الإخوان بضباط الجيش والبوليس لتجنيدهم واستغلوا الخلاف الذي بدأ يظهر بين اللواء محمد نجيب ومجلس الثورة فذهب حسن العشماوي ومنير الدلة إلي قائد حرس محمد نجيب- اليوزباشي محمد رياض- لكي ينضم إليهم في مطالبهم: عودة الضباط إلي الثكنات وتشكيله وزارة موالية للإخوان والإصرار علي حل الأحزاب وتأييد عدم عودة الحكم الديمقراطي السابق.. ولكن نجيب رفض ذلك تماما كما رفض الاتصال السري مع الإخوان! صراع الجهاز السري وخلف الكواليس كان يدور صراع بين جناحين من الإخوان، أحدهما يؤيد بقاء الجهاز السري بقيادة عبدالرحمن السندي علي ضوء المحنة التي مرت بالجماعة قبل الثورة، والآخر يري لا داعي لبقاء هذا الجهاز بعد الثورة.. واختلف السندي مع الهضيبي إلي حد أنهم حاصروا منزل المرشد العام في الروضة واستولوا علي مقر الجماعة في عابدين حتي يرضخ للجهاز السري وبعدها أصدر مجلس قيادة الثورة قرارا بحل جمعية الإخوان المسلمين- وكان بالإجماع ماعدا محمد نجيب- وقام زكريا محيي الدين وزير الداخلية باعتقال حسن الهضيبي المرشد العام و054 عضوا بمكتب الارشاد والجماعة وبعد التحقيق أفرج عن 211 منهم ثم أفرج بعدها عن آخرين.. وقام الملك سعود أثناء زيارته للقاهرة بالتوسط في إعادة الإخوان ونجحت الوساطة ورأي عبدالناصر أن يعطي الإخوان فرصة أخري وتم الإفراج عن الهضيبي والمعتقلين الآخرين، ثم صدر قرار مجلس الثورة باعادة الجماعة وتسليمها ممتلكاتها ومقرها.. وسمح للمرشد العام حسن الهضيبي وعدد من الإخوان بالسفر إلي سوريا والسعودية وهناك أدلي المرشد بتصريحات ضد الثورة ورجالها وضد اتفاقية الجلاء.. وكان المرشد العام قد اختفي ولم يحضر اجتماعات الجمعية التأسيسية لتصفية الموقف بين الإخوان والثورة وأعلن من مخبئه انه سيقاوم اتفاقية الجلاء.. ووقعت خلافات بين الإخوان المجتمعين »إنقسمت الجماعة إلي قسمين: أحدهما يؤيد عبدالناصر والثورة والآخر يؤيد الهضيبي الذي لجأ إلي الجهاز السري لإرهاب الذين طلبوا إعطاء المرشد إجازة وإعفاء مكتب الارشاد! كان عبدالناصر يتفادي الدخول في صدام مباشر مع الإخوان في تلك المرحلة التي لا يوجد فيها تنظيم سياسي للثورة في الشارع وبينما الإخوان أكثر تنظيما وكان يحاول عدم تصعيد الخلاف رغم موقف جمال سالم وصلاح سالم الذي يميل إلي التصعيد والعنف مع الإخوان.. ورغم ان المخابرات الحربية اكتشفت خطة الإخوان التي تهدف إلي عمل تنظيم سري من الضباط للإعداد لحكم الإخوان وكان هناك نشاط لمجموعة أخري لتكوين تشكيل بين ضباط البوليس وكان يتزعمهم الصاغ صلاح شادي، وأما المجموعة الثالثة فكانت مكلفة بتجنيد ضباط الصف تحت إمرة المرشد وثبت ان الإخوان يدبرون للانقلاب علي الثورة، وكانت المعلومات ترد إلي المخابرات الحربية بأن المرشد الهضيبي يعمل علي تكوين جهاز سري للجماعة للتخلص من المناوئين له من الجهاز السري القديم. واعتقد عبدالناصر أن قيادة الإخوان سوف تلتزم بوساطة الملك سعود ولم يكن يتصور ان يصل التآمر إلي حد تدبير محاولة اغتياله في ميدان المنشية بالإسكندرية أثناء مؤتمر شعبي للاحتفال بتوقيع اتفاقية الجلاء، وكان اغتيال عبدالناصر بمثابة الاشارة لتنفيذ التعليمات الموضوعة لدي الجهاز السري للتخلص من جميع أعضاء مجلس الثورة- عدا اللواء نجيب- بالاغتيالات والتخلص من 061 ضابطا آخرين بالقتل والخطف من بيوتهم. حادث المنشية والمحاكمات كان حادث المنشية نقطة انفجار الصدام بين عبدالناصر والإخوان بعدما تأكد من نواياهم وخطتهم لتصفية قيادة الثورة، وحينما بدأ في إلقاء خطابه أمام الآلاف المحتشدة في الميدان كان يجلس خلفه عبدالحكيم عامر وصلاح سالم وحسن إبراهيم والباقوري، ومضت لحظات قليلة وانطلقت الرصاصة الأولي ثم توالت الرصاصات الثمانية التي دوت في السرادق وحاول حرس عبدالناصر تنحيته عن مكانه في المنصة، ولكنه دفعهم واستمر في خطابه بأعلي صوته : »أيها الرجال فليبق كل في مكانه« وظل يرددها عدة مرات ويقول بانفعال وصدق »دمي فداء لكم وفداء لمصر.. إذا مات جمال عبدالناصر فإنه يموت مطمئنا لأنكم كلكم جمال عبدالناصر«! وكان الجاني محمود عبداللطيف »السباك« عضو الجهاز السري للإخوان علي بعد 51 مترا من منصة الخطاب، وهجم عليه العسكري إبراهيم حسن وألقي القبض عليه ومعه مسدسه! وهكذا بدأ الصدام بين عبدالناصر والإخوان!. وجرت محاكمات محكمة الشعب!.