«بقدر ما كان رمضان يثير البهجة عند قدومه بما يحويه من استثنائية ومسرات مؤجلة، بقدر ما كان يثير الوحشة عند رحيله..» أحياناً أكتشف أنني مازلت أري العالم بعينيّ طفل، في الزمن الأول كان الزمن والحجر وسائر الموجودات ذات طبيعة إنسانية، لكل يوم ملامح، ولكل شهر سمت، وكان رمضان أبيض اللون، شيخ جليل، مبهج، ربما لأنني سمعت الوالد يصفه بالشيخ، تتوالي الأيام، تنطوي، ومعها ننطوي، ننقضي شيئاً فشيئاً، خلال تلك الرحلة التي نُدفع فيها بقوة هائلة لا تُرد إلي جهة بعينها، لابد أن يبلغها كل منا في يوم ما، ساعة ما، لحظة ما، غير أن الشيخ رمضان لم يتغير، خلال تلك الرحلة محطات، علامات خاصة بكل إنسان، يوم مولده، يوم إتمامه الدراسة، يوم نجا فيه من خطر محدق آت من خارجه أو من داخله، أو مناسبات محددة، بالنسبة لي يعد شهر رمضان من العلامات الفارقة، البارزة، منذ أن وعيت به، وبدلالاته، وبما يرتبط به من مباهج، لذلك بقدر ابتهاجي بقدوم العيد، وما يعنيه ذلك من فرح، وانتظار ملابس جديدة، وانطلاق، بقدر ما يكون شجني لفراق رمضان. في طفولتي، والرحلة ما تزال بعد في بدايتها، كنت أنتظر قدوم أول أيامه كما أنتظر حلول ضيف عزيز، طيب الإقامة، يصحب معه كل جميل، تصورته بمخيلتي شيخاً مهيباً، كل ما يمت إليه أبيض، وحتي الآن، رغم اقترابي من تمام العقد السادس، فإن الهيئة الآدمية التي تصورت عليها الشهر الكريم لم تتبدل ولم تتغير، ويرجع ذلك إلي اتساع المخيلة وانطلاقها، ولأن أسماء الشهور الهجرية منتشرة في مسمعي، كلها مذكرة، كثير ممن يسعون حولي اسمهم، رمضان، رجب، شعبان، محرم، صفر، ربيع، ربما أكون في طفولتي المبكرة رأيت شيخاً مهيباً، جليلاً، جميلاً، مطمئناً، مهدئاً، اسمه الشيخ رمضان، ومن ملامحه تكون تصوري هذا. هذا الشيخ الجليل يجيء بعلامات معينة، منها ثبوت الرؤية، بمجرد الإعلان عن أول أيام الصيام غدا، تبدأ ملامح الواقع في التغير، أول شيئ يراودني ذلك الشعور العميق بالإطمئنان، فطبقا لما يقوله أبي ويؤكده إن العفاريت تحبس في رمضان، وبذلك يمكن لنا نحن الأطفال أن يمتد لعبنا ومرحنا في الحارة إلي ساعة متأخرة من الليل، كنا نسكن حارة عتيقة من حارات القاهرة القديمة، درب الطبلاوي، وكانت حارة سد، أي غير نافذة، لا تؤدي إلي حارة أخري، الغرباء الذين يدخلون اليها علي إمتداد اليوم معروفون، محددون، معظمهم باعة خضر وصحف ولوازم البيوت، برغم ذلك كان الأهل يطلبون منا العودة قبل الغروب، فالظلام مخيف، وثمة عفاريت تظهر بين الحين والحين، خاصة عند الفرن الذي يغلق ابوابه بعد العصر، وناحية قصر المسافرخانة المهجور، كان للعفاريت اسماء وصفات، مثيرة للرهبة والخشية، لذلك يخيم الهدوء علي الحارة ليلا، هدوء لم أعرف له مثيلافي أكثر الأماكن بعداً وخلوا من الزحام، رغم تجاور البيوت، وضيق المسافات الفاصلة. العفاريت لأن العفاريت تفقد حديتها في رمضان فهذا يعني الحرية والأنطلاق واللعب مع الاقران إلي ما بعد منتصف الليل، بسرعة ايضا تبدأ ملامح الحياة في التغير، باعة الفول الذين لا يظهرون إلا قبل شروق الشمس يبدأون في التواجد، لكل منهم موقع معلوم، لابد أنهم أعدوا عدتهم تحسبا لمجييء الشهر الكريم، يبدأ طواف باعة الزبادي، ينادون عليه إذ أنه من لوازم السحور، يحمل كل منهم طاولة خشبية مستديرة فوق رأسه، وتحت أبطه حامل خشبي، يفرده عند وقوفه، كان الزبادي يباع وقتئذ في أواني صغيرة من الفخار، أسم الآنية «سلطانية»، مازلت أذكر مذاقه، بالتأكيد مختلف عن الزبادي المعبأ الآن في ورق مقوي وينتج بكميات كبيرة، وبوسائل حديثة، بالتأكيد اكثر تطورا، لكنها لا توفر المذاق القديم الأقرب إلي الطبيعة. الفول المدمس، والزبادي، والشاي، لاتخلو مائدة من تلك الأصناف، سواء موائد الاثرياء أو الفقراء، الكل في السحور سواسية، منذ السادسة أغالب النوم لاتناول هذه الوجبة الاستثنائية، غير المعتادة، أجلس إلي جوار أمي وأبي واشقائي، ذلك الشعور بالجميع، باللمة، لا يكون إلا في شهر رمضان، وبالطبع يكون الاحساس أقوي في الأفطار، كان الوالدان يتحايلان لكي أفطر، ربما اشفافا منهما علي كياني الصغير، واذكر أن والدي كان يقول لي ان افطار الصغار حتي الظهر، ولكن بعد السابعة كنت أصر وأواصل الصيام، كان ذلك يشعرني بالمساواة مع الكبار، إضافة إلي الاعتياد علي الجلد، الصبر، وعند الغروب يكتسب الأفطار مذاقا خاصا، فما يجيئ بعد تطلع وإنتظار سيكون له حلاوة استثنائية، في الأفطار عناية خاصةبالطعام، لا يخلو يوم من مرق وخضار ولحم، اما الحلوي فتتحول من طبق استثنائي إلي ثابت، إما كنافة أو قطائف، كانت رائحة الفانيليا وقدح السمن البلدي وتحمير الكنافة فوق نار هادئة من معالم الفترة التي تسبق الأفطار. افطار كنت أتطلع إلي الشمس التي تدنو من نهاية رحلتها عند الأفق الغربي، تبدو الدقائق الاخيرة بطيئة جدا، قبل أن ينطلق المدفع من فوق هضبة المقطم، حتي منتصف الخمسينات كان ممكنا للمدينة كلها أن تصغي اليه، ترتفع صيحة جماعية «هيه»، ثم يسود صمت بعد انتهاء آذان المغرب. أجلس امام المائدة، أمد يدي إلي كوب قمر الدين، لكن أبي ينهرني « أنتظر حتي يقول المؤذن.. أشهد أن لا إله إلا الله..» وحتي الآن، لا أتناول الشراب الا مع نطق المؤذن بالشهادة، حتي نهاية الخمسينات، لم يكن التليفزيون قد بدأ بعد، وكانت الاذاعة بمفردها في الأثير، وأشهر ما تقدمه بعد تسجيلات كبار القراء للقرآن الكريم، مسلسل الف ليلة وليلة، أصبحت المقدمة الموسيقية المأخوذة من متتالية ريمسكي كورساكوف جزءا من ذاكرتي النغمية، لم أعرف اسم مؤلفها الا مع تقدمي في العمر وأجتهادي في تذوق الموسيقي العالمية. يلي الإفطار انطلاقنا إلي الحارة واللعب أمنين من شر العفاريت، الذي يؤكد الموروث الشعبي أنها شجن في الشهر الكريم، ثم نعود إلي البيت، حيث الكنافة والقطائف والمكسرات، أغالب النوم حتي أستمع إلي المسحراتي، كان مسحراتي الحارة بقالا وهاويا لجمع الأشياء النادرة من المزادات، ولكن عند حلول الشهر الكريم يبدأ التفرغ لمهمة المسحراتي، كان يحفظ أسماء السكان ويعرف الابناء والاحفاد، ويستخدم طبلة صغيرة وعصا، المثير بالنسبة لي أن أصغي اليه وهو ينطق بصوته باسم أبي، خاصة أنه كان يذكره متضمنا اسمي، كما اعتاد اهالي القاهرة القديمة أن ينادوا بعضهم باسماء الابناء، عدا اسماء النساء، فاسماء النساء كانت بشكل ماتدخل في باب المحرم، ولذلك شاعت المناداة باسم الابن الذكر. «اصحي ياابوجمال.. وحد الله..» مازلت أذكر السرور الذي كان يداخلني، سرور برئ، منطلق، وكأنه يشهر الاسم علي الكون كله، وليس علي حارة الطبلاوي فقط، عند الفجر يتجمع الرجال بعد الوضوء للذهاب إلي مسجد سيدنا الحسين لأداء صلاة الفجر، وعندما صحبت الوالد إلي المسجد أول مرة، كان ذلك علامة علي قطع خطوة في مسار رحلة العمر، مع توالي الأيام، وبدء العشرة الأواخر من رمضان، يبدأ التكبير في أتخاذ مسار آخر، إنها تكبيرات الوداع التي تثير عندي قدراً من الشجن. «لا أوحش الله منك ياشهر الصيام» الصوت الجماعي المهيب يتردد في فضاء المسجد، وينهي المسحراتي نداءه به، فيتجسد الشيخ رمضان في مخيلتي.. إنه يلملم حاجاته استعدادا للرحيل، كل يوم يمر يعني قرب التمام. تتبدل بواعث السرور، فمجيئ العيد يعني بهجة أخري، ترتبط بملابس جديدة لابد أن نقابل بهاالعيد، ولعبة يحرص الوالد علي شرائها لكل منا، واستعدادات تبدأها أمي منذ فترة مبكرة لإعداد الكعك والبسكويت والغريبة. مع ثبوت الرؤية، نستعد لصلاة العيد والتي تعني بهجة خاصة لرؤية عبدالناصر الذي اعتاد صلاة العيدين في مسجد سيدنا الحسين، كنا نفضل الصلاة في الجامع الازهر حتي نحتل موقعا متميزا علي الطريق الذي سيمر به الموكب، وكان لظهور عبدالناصر تأثيرقوي ونافذ علي الناس، كان الموكب بسيطا، هادئا، يتقدمه راكب دراجة بخارية ضخم الجسم، يتبعه ثلاثة، ثم عربة جيب تتبعها عربة المصورين، ظهورهم يعني ان العربة التالية لجمال عبدالناصر. كانت له هلة وطلة، كل انسان يشعر أنه يخصه بالنظر، ولم يكن العيد يكتمل الا برؤيته، ومايحيرني حتي الآن، كيف عرف الناس اسم الضابط راكب الدراجة البخارية الاول: «عم علي..» كان ضخما مهيبا، أتذكره، فأري وضعه، كأنه يركب جوادا حرونا يعدو به، نعود إلي البيت، افطار العيد، الشاي باللبن والكعك، ابتهج لقرب نزولي إلي الحارة مرتديا الملابس الجديدة، لكنني سرعان ما اتذكر رحيل الشيخ رمضان عنا، وعودة العفاريت إلي الحارة، فيداخلني أسي وشعور حاد بالفقد، لعله الأصل لكل ما عرفته حتي الآن. إلي النائب العام الإثنين: أقص هذه الواقعة بأمانة وهي مسجلة كما سأوضح. الساعة الحادية عشرة، امام السفارة الأسبانية، كنت علي موعد مع المستشار الثقافي، وصلت بصحبة زميلي في أخباراليوم الحاج صلاح عبدالفتاح سائق السيارة، توقف امام الباب وترجلت لأخبر رجال الامن بالموعد وليفتحوا الباب حتي تدخل العربة. فوجئت بموتوسيكل حديث اسود اللون، بدون أرقام، يجيء مسرعا من اليمين ويتوقف بالعرض امام العربة، وجه حديثه إلي الحاج صلاح. « انت عارف انت عملت ايه؟» بدا شابا، أنيقا، يرشح منه احساس طاغ بالسلطة، قال الحاج إنه ينتظر الدخول أرتفع صوته غاضبا. «انت عملت غلط، انت وقفت غلط..» سألته بهدوء « حضرتك مين؟» قال «انا رئيس نيابة يا استاذ يوسف..» يظن أنني يوسف القعيد، كثيرا مايحدث هذا الخلط معه ومعي، حاول الحاج صلاح أن يشرح الموقف، لم يرتفع صوته وان بدا متألما للطريقة التي خوطب بها، عندئذ خاطبت الشاب الذي بدا مزهوا بنفسه، متغطرسا إلي أقصي حد. هل من حقك كوكيل نيابة أن تعترض السيارات وتبدي الملاحظات..» قال ملوحا بيده « طيب.. انا حجبلك قائد المرور..» أخرج المحمول، بدأ يجري مكالمة ما، لا أدري حقيقية أم وهمية، ثم تراجع فجأة والتقط لي صورة وللحاج صلاح، واصلت حديثي. « ليس من حقك ان تهين أي انسان، ثم ان التهديد بالتليفون وكبار المسئولين ليس من وظيفة وكيل او رئيس نيابة..» فوجئت به يزعق « مش عاجبك.. الليلة حتبات في القسم..» كان عمال الجراج المواجهون للسفارة ينظرون صامتين وعلي وجوههم رعب، جندي الحراسة امام السفارة أبتعد قليلا، لم يأت ضابط مرور أو غيره، انصرف السيد ممتطيا دراجته البخارية الحديثة، في السفارة قالت لي المستشارة الثقافية بمجرد مصافحتها. « ارجو الا تكون منزعجا مما جري امام السفارة..» دهشت لسرعة إلمامها بالموضوع قالت « كل شيء مسجل بكاميرات تغطي المنطقة المحيطة بالمبني..» بعد خروجي سألت بعض افراد الشرطة الواقفين في شارع اسماعيل محمد وشارع محمد مظهر أخبروني باسمه «احتفظ به»، قال أحدهم أنه رئيس نيابة، وقال آخر إنه مستشار بمحكمة في الجيزة. هذا النوع من السلوك الذي يتعمد استعراض السلطة انتهي نهائيا من ثقافة المصريين، لم يعد أحد يخاف او يخشي من جملة «مش عارف انت بتكلم مين؟» أو حركة الامساك بالهاتف لمحادثة شخصية مخيفة ترهب المواطنين البسطاء، لقد تألمت للأهانة التي لحقت بزميلي، خاصة أن السيد راكب الموتوسيكل وجه اليه الكلام قائلا: « لما الكبار يتكلموا انت تخرس..» ثم وجه اليّ الاهانة بتهديدي، ورفع الكاميرا لتصويري، مجرد التهديد اهانة والتصوير القسري اهانة وجريمة. من استقصائي حول شخصه بدا واضحا من اجابات المتواجدين خوفهم منه، ما قام به السيد راكب الموتوسيكل عمل ارهابي يتساوي مع أي نوع من الارهاب، واذاصح انه رئيس نيابة تكون الطامة اكبر. أطلب من النائب العام المحترم التحقيق والواقعة مسجلة بالصوت والصورة من خلال كاميرات السفارة، الغريب انه خاطبني علي انني يوسف القعيد، أي يعرف أنه يخاطب اديبا كبيرا مرموقا ومع ذلك لم يتردد في توجيه عبارات التهديد والتقاط صورة غصبا والتهديد بأن المخاطب سيقضي ليلته في السجن، مرة أخري اذاكان راكب الموتسكل رئيس نيابة او يمت إلي القضاء بأي صلة فالتصرف الذي بدر منه كارثي بالنسبة لرجال القضاء الذين يعرفون القانون وحدود تصرفاتهم مع الآخرين.