اليوم.. الأوقاف تفتتح 17 مسجداً جديداً    توقعات مخيبة للأمال لشركة إنتل في البورصة الأمريكية    وزير المالية الإسرائيلي المتطرف يدعو الموساد لاغتيال قيادات حماس وإبادة قطاع غزة بالكامل    مسؤول أمريكي: واشنطن تستعد لإعلان عقود أسلحة بقيمة 6 مليارات دولار لأوكرانيا    قوات الاحتلال تعتقل شقيقين فلسطينيين بعد اقتحام منزلهما في المنطقة الجنوبية بالخليل    وزير الخارجية الصيني يلتقي بلينكن في العاصمة بكين    بداية موجة شتوية، درجات الحرارة اليوم الجمعة 26 - 4 - 2024 في مصر    الأسعار كلها ارتفعت إلا المخدرات.. أستاذ سموم يحذر من مخدر الأيس: يدمر 10 أسر    أعضاء من مجلس الشيوخ صوتوا لحظر «تيك توك» ولديهم حسابات عليه    إسرائيل تدرس اتفاقا محدودا بشأن المحتجزين مقابل عودة الفلسطينيين لشمال غزة    جامعة جنوب كاليفورنيا تلغي حفل التخرج بعد احتجاجات مناهضة للحرب على غزة    900 مليون جنيه|الداخلية تكشف أضخم عملية غسيل أموال في البلاد.. التفاصيل    طريقة تغيير الساعة في هواتف سامسونج مع بدء التوقيت الصيفي.. 5 خطوات مهمة    حركة القطارات| 45 دقيقة تأخير بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. الجمعة 26 أبريل 2024    شعبة أسماك بورسعيد: المقاطعة ظلمت البائع الغلبان.. وأصحاب المزارع يبيعون إنتاجهم لمحافظات أخرى    المستهدف أعضاء بريكس، فريق ترامب يدرس إجراءات ضد الدول التي تتخلى عن الدولار    «جريمة عابرة للحدود».. نص تحقيقات النيابة مع المتهم بقتل طفل شبرا الخيمة    ماجد المصري عن مشاركته في احتفالية عيد تحرير سيناء: من أجمل لحظات عمري    «الإفتاء» تعلن موعد صلاة الفجر بعد تغيير التوقيت الصيفي    أذكار وأدعية ليلة الجمعة.. اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا    بعد تطبيق التوقيت الصيفي 2024.. توجيهات الصحة بتجنُّب زيادة استهلالك الكافيين    مع بداية التوقيت الصيفي.. الصحة توجه منشور توعوي للمواطنين    جدعنة أهالي «المنيا» تنقذ «محمود» من خسارة شقى عمره: 8 سنين تعب    أحمد سليمان يزف بشرى سارة لجماهير الزمالك    إعلان نتيجة مسابقة المعلمة القدوة بمنطقة الإسكندرية الأزهرية    رئيس لجنة الخطة بالبرلمان: الموازنة الجديدة لمصر تُدعم مسار التنمية ومؤشرات إيجابية لإدارة الدين    نجم الأهلي السابق يوجه رسالة دعم للفريق قبل مواجهة مازيمبي    ناقد رياضي: الزمالك فرط في الفوز على دريمز الغاني    طارق السيد: ملف بوطيب كارثة داخل الزمالك.. وواثق في قدرات اللاعبين أمام دريمز    هيئة الغذاء والدواء بالمملكة: إلزام منتجات سعودية بهذا الاسم    إصابة 8 أشخاص في تصادم 3 سيارات فوق كوبري المندرة بأسيوط    أبرزها الاغتسال والتطيب.. سنن مستحبة يوم الجمعة (تعرف عليها)    عاجل.. رمضان صبحي يفجر مفاجأة عن عودته إلى منتخب مصر    انطلاق حفل افتتاح مهرجان الفيلم القصير في الإسكندرية    تشرفت بالمشاركة .. كريم فهمي يروج لفيلم السرب    بشرى سارة للموظفين.. عدد أيام إجازة شم النسيم بعد قرار ترحيل موعد عيد العمال رسميًا    ليلى زاهر: جالي تهديدات بسبب دوري في «أعلى نسبة مشاهدة» (فيديو)    «زي النهارده».. استقالة الشيخ محمد الأحمدي الظواهري من مشيخة الأزهر 26 أبريل 1935    رمضان صبحي يحسم الجدل بشأن تقديم اعتذار ل الأهلي    نقابة محاميين شمال أسيوط تدين مقتل اثنين من أبنائها    أحمد كشك: اشتغلت 12 سنة في المسرح قبل شهرتي دراميا    عاجل - محمد موسى يهاجم "الموسيقيين" بسبب بيكا وشاكوش (فيديو)    هاني حتحوت يكشف تشكيل الأهلي المتوقع أمام مازيمبي    عاجل - بعد تطبيق التوقيت الصيفي 2024 فعليًا.. انتبه هذه المواعيد يطرأ عليها التغيير    عاجل - تطورات جديدة في بلاغ اتهام بيكا وشاكوش بالتحريض على الفسق والفجور (فيديو)    "حزب الله" يعلن ضرب قافلة إسرائيلية في كمين مركب    مواقيت الصلاة بالتوقيت الصيفي .. في القاهرة والإسكندرية وباقي محافظات مصر    عيار 21 يسجل هذا الرقم.. أسعار الذهب اليوم الجمعة 26 أبريل بالصاغة بعد آخر انخفاض    بالصور.. مصطفى عسل يتأهل إلى نهائي بطولة الجونة الدولية للاسكواش    هل العمل في بيع مستحضرات التجميل والميك آب حرام؟.. الإفتاء تحسم الجدل    أنغام تبدأ حفل عيد تحرير سيناء بأغنية «بلدي التاريخ»    القومي للأجور: قرار الحد الأدنى سيطبق على 95% من المنشآت في مصر    مصدر نهر النيل.. أمطار أعلى من معدلاتها على بحيرة فيكتوريا    برج العذراء.. حظك اليوم الجمعة 26 أبريل 2024 : روتين جديد    قيادي بفتح: عدد شهداء العدوان على غزة يتراوح بين 50 إلى 60 ألفا    «اللهم بشرى تشبه الغيث وسعادة تملأ القلب».. أفضل دعاء يوم الجمعة    أنغام باحتفالية مجلس القبائل: كل سنة وأحنا احرار بفضل القيادة العظيمة الرئيس السيسى    مواطنون: التأمين الصحي حقق «طفرة».. الجراحات أسرع والخدمات فندقية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



متتاليات رمضانية
نشر في أخبار الأدب يوم 28 - 08 - 2010


المخلل
للمخلل المفتتح، ربما لايقربه المرء طوال العام، لكنه يصبح من اللوازم في رمضان.
»المخلل« وشهر رمضان يستدعيان إلي ذاكرتي شخصين من القاهرة القديمة، الاول هو البولاقي، لا أعرف اسمه الثاني، بل لا أعرف اذا كان هذا اسمه أم لقبه، كان الوالد - رحمه الله - يرسلني إليه، أعطيه قرشا أو اثنين لأحضر »المخلل« اللازم لرمضان.
لم يكن للبولاقي دكان، انما كان يضع مائدة من الخشب أمام بيته الذي يقع في شارع حبس الرحبة بالجمالية، بالضبط أمام مقهي البنان، الذي يمسك بناصية شارع قصر الشوق، رغم أن شارع حبس الرحبة طوالي، الا انه مثل كل الشوارع الرئيسية في القاهرة القديمة لايمضي مستقيما، بل متعرجا، لذلك يبدو عند حد معين وكأنه مغلق وتلك خاصية في المدن العربية كلها، في تقديري لها أسباب منها ما يتصل بالبيئة إذ إن هذا التعرج يؤدي إلي الحد من اندفاع الرياح شتاء، وامتداد الظلال صيفا، كما أن له هدفا نفسيا، إذ يهون علي الماشي قطع المسافة، ان انقسام الشارع إلي مراحل فيه وعد دائم بالوصول. وعند بلوغ النقطة التي يبدو فيها الطريق مغلقا ينفتح علي مسافة أخري، هكذا يتجدد المنظر كل مائة متر تقريبا، هذا يمنح المقيمين في المكان خصوصية وشعورا خاصا بالمكان، هكذا تبدو الحميمية في أيام رمضان والاعياد فكأن الطريق امتداد للبيت، للأسرة، إنها حميمية التقارب والألفة التي توفرها المدن القديمة لساكنيها من مغرب وطننا العربي إلي أقصي شرقه، من الذين كنت أرقبهم منذ طفولتي مع حلول رمضان »البولاقي«، إنه أحد الشخصيات المرتبطة بالشهر الكريم تماما مثل عم »حسن« المسحراتي، وصوت زوزو نبيل التي كانت تؤدي دور شهرزاد في المسلسل الاذاعي »الف ليلة وليلة« التي كان يكتبها طاهر ابوفاشا، لم يكن التليفزيون قد دخل إلي حياتنا بعد بفوازيره ومسلسلاته.
سنوات متتالية أرقب البولاقي وأتأمله وأتعامل معه فقط عندما أشتري المخلل، لم أتبادل معه الحوار، أخبره فقط عما أريد، فيتطلع إليّ من خلال عينين عميقتي السواد محدقتين، نافذتين، وسرعان ما يمسك الطبق الفارغ الذي جئت به ويلبي طلبي، كان البولاقي موظفا حكوميا في جهة ما، ربما كانت السكك الحديدية، يبدو محددا صموتا، لايخالط هذا أو ذاك، لايجلس بالمقهي، لكنه مهذب يرد التحية بأحسن منها، لايظهر كبائع مخلل إلا في شهر رمضان فقط، في أول أيام الشهر الكريم يخرج المنضدة المستطيلة، يرص فوقها قدوراً فخارية، وأوعية زجاجية كبيرة (برطمانات) وأطباقاً عميقة كبيرة، في الأواني المغلقة الزيتون الأخضر المخلل، والليمون الذي طال حفظه غامق الصفرة، والبصل بأحجامه الصغيرة والكبيرة واللفت بنوعيه الأحمر والأبيض، أما الاطباق المغطاة بقماش خفيف من الشاش فيرقد داخلها الباذنجان الاسود، والطماطم، وشرائح الخيار، والفلفل بأنواعه، النحيل الطويل، والغليظ.
يبدأ البولاقي البيع منذ العصر، لا أدري.. هل بعد عودته من وظيفته، أم انه كان يحصل علي إجازة طوال شهر رمضان من أجل المخلل، كان حضوره أمام البيت الذي يسكن الطابق الأول منه مهيبا، كان نحيلا، أبيض البشرة، غامق الشعر. أنيقا في ملبسه، أراه ماضيا إلي عمله في حلة كاملة ذات صديري حتي الصيف، لكن في رمضان يرتدي جلبابا أبيض، ناصع البياض، يشمر أكمامه، لايمسك الثمار المخللة بأصابعه، بل بملقاط معدني، أو مغرفة، واذا مد أحد الزبائن أصبعه مشيرا إلي نوع معين، يحذره من لمس المخلل، كان يبدو كطبيب أتم تعقيم أدواته استعدادا لإجراء جراحة دقيقة، وعندما يرص الباذنجان أو الطماطم يبدي العناية الفائقة، أذكر أنفاسه التي كان يستنشقها بقوة عند انهماكه شأن من يستمتع بعمل ما.
الحق.. أنني لم أعرف مذاقا مماثلا لمذاق المخلل الذي يعده البولاقي، خاصة الزيتون والخيار واللفت، أما الباذنجان فكان يحشوه بخلطة لم أعرف لها مثيلا حتي الآن، ولعله آثر أن يجعلها سرا لم يطلع عليه أحدا، ويبدو أن مذاق الباذنجان جذب آخرين لذلك تعاظم الطلب عليه، ويبدو أن بعض المشاهير والشخصيات المرموقة من المصلين في مسجد الحسين سمعوا به، كذلك مشاهير تجار خان الخليلي والصاغة، والنحاسين، لذلك أصبح الصنف الوحيد الذي يجب حجزه مقدما قبل يوم واحد علي الأقل، الباذنجان المخلل، ويبدو أنه لم يستجب لكل المطالب التي أوصته بزيادة الكمية، خلال سنوات متعاقبة منذ أن عرفته في طفولتي لم تتغير الكمية التي يعرضها، قبل المغيب تنفد معظم الاصناف، الباذنجان أسرعها، عبر سنوات عديدة لم أره يتخلف يوما واحدا في رمضان، قبل الافطار بدقائق يدخل إلي بيته، ويترك المنضدة فوقها الأواني الفارغة أو الممتلئة، بعد العشاء يجمعها، ولايظهر إلي اليوم التالي، هكذا أصبح البولاقي من الأسماء الشهيرة بإتقان بما تقدمه من طعام، مثل الدهان في اللحمة وأبوحجر في الفول، والخضري في البسبوسة والكنافة، أسماء ذاع صيتها وانتشر في القاهرة القديمة وقصدها الناس، لم يشتهر إلا صنف واحد خارج مخلل البولاقي، إنه ليمون عم حسن المسحراتي.
عم حسن من سكان حارتنا، قصير القامة، نحيل، محدودب، بعينيه حول، منذ أن فتحت عيني علي الدنيا وبالنسبة لي هو المسحراتي، مسحراتي حارتنا، وحتي الآن اذا ما ذكر المسحراتي يستدعي إلي ذهني عم حسن علي الفور، فهو مرجعية هذه الشخصية الفريدة المتصلة برمضان، لم أعرف السبب الذي جعله يقوم بالتسحير في رمضان، ربما ورثه ذلك عن والده، كان عمله متصلا بالمزادات، يقصد مزادات القصور والبيوت القديمة، ويشتري التحف والأشياء الغريبة، ثم يضعها في مخزن عميق يقع تحت مسجد محمود محرم المطل علي شارع حبس الرهبة والقائم عند مدخل درب المسمط حيث المدخل الثاني لقصر المسافرخانة الذي احترق منذ أربع سنوات.
داخل هذا المخزن يحتفظ عم حسن بإناء زجاجي لم أعرف له مثيلا في أي محل للمخلل أو أي مكان آخر، مستطيل، طوله حوالي متر وعرضه حوالي ثلاثين سنتميترا، كان يحجبه طوال العام، ثم يظهره في أول أيام رمضان مليئا حتي الحافة بالليمون المخلل الذي استغرق تخليله سنة كاملة، لم أكن أعرف هل يحتفظ بوعاء آخر داخل المخزن يمد منه الوعاء الزجاجي أم أنها الكمية التي أراها أول أيام رمضان وتنفد مع آخر أيامه، في آخر أيام رمضان، مع ثبوت رؤية هلال شوال يدخل الإناء إلي أغوار المخزن المجهولة ولايظهر إلا في السنة التالية..
كما أني لم أعرف مثيلا لباذنجان البولاقي، لم أعرف حتي الآن مثيلا لليمون حسن المسحراتي، لطول مكثه في الوعاء ينتفش، يصبح حجم الليمونة قريبا من البرتقالة لتشربها الماء المالح المزود بالكمون والبهارات والملح والخل والعصفر ذي البذور الصفراء التي تلين وترق وترصع قلب الليمونة التي تتفرطح ويشع حجمها بتأثير التضاغط والالتصاق بالجدار الزجاجي، كانت رائحة الليمون نفاذة، تنبثق من الوعاء إلي فراغ الطريق، كان يبيع بالثمرة، والليمونة الواحدة كانت تكفي لإعمار مائدة بعد تقسيمها، مجرد قطعة منها تفي بالغرض، تفتح الشهية، وتمد الجسم بالأملاح التي فقدها خلال الصوم وهذا أحد أسباب افتتاح المائدة بالمخلل بعد تناول عصير المشمش (قمرالدين) كلاهما مصدر طاقة لازمة، سكر وملح، بما أننا ذكرنا السكر فلابد من مقاربة الكنافة، الكنافة بالتحديد.
الكنافة
ترتبط عندي الكنافة بشهر رمضان، بل إنها من معالمه، ربما يمضي عام كامل لا أتذوقها ولا أقربها، لكن اذا حل الشهر الكريم لابد من تذوقها مهما التزمت بأنظمة غذائية صارمة خشية زيادة الوزن، في هذا الشهر تنشط الدكاكين المتخصصة في صناعتها نيئة، وأشهرها علي الاطلاق في القاهرة دكان مجاور لضريح السيدة زينب الطاهرة، شقيقة مولانا الحسين، منذ الصباح الباكر يقف جمع امام هذا المحل للحصول علي كيلو أو اكثر من الكنافة، الدكاكين المتخصصة في الفطائر والحلويات وبعض المتاجر التي لاصلة لها بالحلويات أو العجائن.. تنصب الصينية المعدنية الكبيرة، تحتها نار هادئة توفر درجة حرارة معينة، كافية لانضاج الشعيرات التي تبث من خلال وعاء معدني يشبه سطل الماء القديم، مثقوب من أسفل، ثقوب دقيقة تحدد سمك شعيرات الكنافة، تسيل من السطل، دقيقا ممتزجا بالماء والملح والخميرة، يقوم العامل بتحريك الوعاء حركة دائرية، محتفظا بمسافة بين سلطح الصينية والوعاء، وبمجرد رص عشر دوائر يقوم بجمع الخطوط بيده ليتولي عامل آخر رصها فوق أوراق بيضاء من اوراق الصحف السادة التي لم تطبع بعد، وتلك تكفل حفط الشعيرات طرية، طازجة، طوال شهور السنة لانلحظ تسوية الكنافة رغم وجودها داخل المحلات أو خارجها، عدا شهر رمضان الذي يتعاظم فيه الطلب علي ذلك النوع من الحلوي تحديدا والتي ترتبط به ارتباطا وثيقا.
مرجعيتي في تذوقها ما كانت تعده أمي، كانت ماهرة في إعدادها ولها طريقة فريدة ولحسن الحظ انتقلت طريقتها إلي شقيقتي - أطال الله عمرها - بعد أن تعلمتها منها، هذا المذاق يرجع إلي زمن طفولتي، من أقدم أنواع الطعام التي تحتفظ بها ذاكرتي مع الانواع الأخري والتي تحدد معالم ذاكرتي المذاقية، فالطعام ذاكرة.
كان من معالم الشهر الفضيل إعداد الكنافة والقطائف في البيت، ولو أن الوالدة أعدت الكنافة في شهر آخر غير رمضان لما بدا ذلك عاديا، فالكنافة لاتكون حقا وفعلا إلا في رمضان، كانت أمي تحتفظ بصينية من النحاس، ثم أصبحت فيما بعد من الالمونيوم، تغطيها بطبقة رقيقة من السمن البلدي، وتضع الصينية علي نار الموقد الهادئة حتي اذا ساح السمن تبدأ في رص شعيرات الكنافة حتي تغطي الأرضية، وتنثر حبات الزبيب، ثم تضع طبقة أخري من الشعيرات وترش الزبيب، ثم طبقة ثالثة، وتبدأ في تسوية الكنافة بادارة الصينية في حركة دائرية بطيئة، بينما تمسك بحافة الصينية مستعينة بقطعة قماش لدرء الحرارة المتصاعدة، كانت تبدي صبراً وجلدا، ولا تكف عن تدوير الصينية إلي أن يستوي الجزء الأسفل ويتخذ لونا وسطا بين الأصفر والأحمر، تتناول الصينية بعيدا عن الموقد، تهزها يمينا ويسارا، تقلب الدائرة التي تماسكت فوق غطاء مستدير، لتعيدها بالعكس مرة أخري إلي الصينية، هكذا يصبح السطح الني في وضع تحتي بحيث يتلقي الحرارة القوية وهكذا تتم تسوية جميع اجزاء الحلوي التي أخذت شكل: الوعاء الدائري وتماسكت وبالطبع انكمش حجمها قليلا، كان انضاجها فوق موقد صغير يشتعل بالكيروسين يقتضي جهدا وطاقة، وفي منتصف الستينيات وقع تطور كبير في بيتنا، إذ اقتنينا موقدا مزودا بفرن يشتعل بالغاز المضغوط (البوتاجاز) وكان محلي الصنع، من انتاج المصانع الحربية ذا شعلتين مسطحتين قويتين، وأخري صغيرة لاعداد الشاي أو القهوة أو غلي الحليب، ومازلت أذكر رقم المصنع »مصنع 63 حربي«، لقد ساعد الفرن أمي علي وضع الصينية بداخلها ولم تكن في حاجة إلي تقليبها الا مرة واحدة، وربما لاتحتاج اذا تأكدت ان الكنافة نضجت واكتسبت هذا اللون الاصفر الذهبي المائل إلي الحمرة، كانت أمي ماهرة في استخدام الفرن، لقد عرفت فرنا مختلفا في جهينة بصعيد مصر، فرن من الطين. كان الطعام فيه ينضج في أواني فخارية، ويتم فيه ايضا خبيز أرغفة العيش الشمسي والفطائر، لكنني لا أذكر أنني رأيت كنافة في صعيد مصر، أذكر جيدا الفطائر، كانت تخبز في الصباح، ونسميها (أقراص) لانها دائرية، وكذلك (المخروطة) التي كانت تؤكل باللبن مع السمن، وهذه أكلة قريبة من الكنافة والكسكسي، وأظنها في طريقها إلي الانقراض الآن، حدث في الصيف الماضي عندما زرت القرنة. البر الغربي بالاقصر، ونزلت في بيت قديم اعتدت الاقامة فيه أن طلبت من صاحبه وهو صديق أيضا أن يعد لي افطارا من (المخروطة)، كان الأمر ايضا يتعلق بالذاكرة، غير أنني لاحظت حيرة محمود القط صاحبي، قال إنه لايذكر (المخروطة) منذ سنوات طويلة لم يأكلها، ذهب إلي أمرأته لكنها اعتذرت، وعندئذ تحدث إلي بعض أقاربه، وقد عرفت هذا كله فيما بعد، ومضي أحدهم إلي أمه العجوز التي جاءت لتعد (المخروطة)، تلك الأكلة التي لا يعرفها الجيل التالي.
تصنع الاقراص من الدقيق، ويتم تقطيعها إلي خيوط نحيلة، اغلظ من خيوط الكنافة، أقرب إلي حجم المكرونة السباجيتي، ثم توضع في قماش خفيف، يستحسن أن يكون من الشاش، يوضع في مصفاة، وتوضع المصفاة فوق »قادوس« من الفخار (كان ذلك زمن طفولتي) به ماء مغلي، وعلي البخار المتصاعد يتم انضاج شعيرات المخروطة، تماما كما ينضج »الكسكسي« المغربي، وبعد النضج يصب اللبن المحلي بالسكر أو العسل فوق المخروطة، افطار دسم معتاد في صعيد مصر بدأ يختفي الآن، كانت أمي تتقن اعداده، لكنني لا أذكر أنني رأيت الكنافة في جهينة حيث ولدت في الصعيد، لابد أنها أتقنتها في القاهرة من احدي جاراتها القاهريات عندما جاءت من الصعيد بصحبة أبي واستقرت معه. كان لابد أن أستفسر منها عن اتقانها الكنافة، لكنني لم أفعل مثل أمور كثيرة لم اسأل عنها، إما كسلا واما بالارجاء ظنا مني باتساع الوقت، غير أن وقتها نفد قبل أن أحاط علما وألم بما لم أكن أعرف.
بعد إنضاج الكنافة، تجييء مرحلة التحلية، فيها يتم صب الشراب المصنوع من السكر والليمون والذي تم غليه فوق النار ثم تبريده، يتم صبه علي مهل، يتخلل الشعيرات التي تماسكت، واستوت، وشيئا فشيئا تلين ويكون السطح انشف الاجزاء، أما القلب فهو ألينها وأحبها إلي، بعد أذان المغرب نبدأ الافطار بشرب الخشاف، البلح والتين والزبيب المبلول، ثم الوجبة الرئيسية، ثم بعد الختام يحل مكان الحلوي، أي الكنافة أو القطائف، تقطع أمي بالسكين، تبدو الخيوط الصفراء المبتلة بالشراب وكأنها سلاسل المتعة، كانت كنافة أمي وسطا بين الجفاف واللين وهذا ما أفضله، وابحث عنه باستمرار في سائر المحال والاصناف التي أتوصل بها، مع تقدم الزمن أصبح شراء الكنافة من محلات الحلوي أسهل وأسرع، تعرفت علي أنواع شتي، فهناك »البرومة« واشتهر بها حلواني في القاهرة القديمة اسمه (الخضري)، بدأ ظهوره في سوق الصاغة، عقب موعد الغداء، كان يقف عند المدخل الغربي لخان الخليلي وأمامه صينية كبيرة مغطاة، الكنافة ملفوفة حولها كأنها كابلات من الحلوي، كانت محشوة باللوز والبندق وعين الجمل، مغمورة في الشراب سميك القوام، الحلو، وعرفت نوعا آخر أقرب إلي المبرومة، ولكنه مستطيل، قطع مبرومة لاتدور حول الصينية، ولكنها مستطيلة، السطح العلوي منها دائما اكثر صلابة لتعرضه للنيران، والتحتي ألين، إنها الطريقة التي تقرب كنافة أمي ولكنها تقف علي مسافة منها، رأيتها في تركيا وفي اليونان، الطريف أنني أعتدت ان اتناول الطعام في معطم يوناني شهير في فرنسا قريب من جريدة لوموند، وعندما قرأت في القائمة اسم (القطائف) سألت النادل عن الكنافة فلم يعرفها. ثم طلب الانتظار، عاد ومعه طباخ مصري يعمل في المطبخ، تصافحنا وتعرفنا، عندما طلبت منه (الكنافة) ابتسم قال إنهم يسمونها هنا (قطائف)، وتذوقت أصابع الكنافة لكن المذاق كان علي غير ما توقعت. في حرب تشرين زرت سوريا عقب وقف اطلاق النار مباشرة، والحلوي الشرقية تخصص سوريا ولبنان، في حمص توقفت اثناء سفري إلي اللاذقية لزيارة قيادة القوات البحرية، كنا نسافر ليلا، وبعد صلاة الفجر في مسجد خالد بن الوليد، اقترح رفيق السفر، الاديب والناقد رياض عصمت وكان مجندا في ادارة الشئون السياسية وقتئذ، وهي الادارة المسئولة عن التعامل مع الصحفيين، اقترح أن نتناول الافطار من محل مشهور اسمه (الناطور) معروف بجودة الكنافة التي يعدها، وأعترف انها بالغة الجودة، خاصة المبرومة منها، محشوة بما لذ وطاب من الفستق والبندق والجوز واللوز، لكنها جافة، تقرقش رغم سخائها، بمجرد ان قضمت قطعة منها تذكرت كنافة أمي الطرية، السلسة، غير ان الكنافة التي زاحمت كنافة أمي وكادت تدانيها في المكانة، فقد تعرفت عليها في اللاذقية.
قال صاحبي رياض اننا سنتجه إلي حلواني شهير لايفتح الا ساعة فقط بالنهار، من الثانية عشرة إلي الواحدة، يبيع كنافة بالجبن، أذكر المحل الصغير لكنني لا اذكر اسمه، يقع فوق مرتفع مطل علي البحر، رجل قصير، ممتليء، واثق جدا من نفهس، يقطع الكنافة بعناية وكأنه جراح، تذكرت حلواني في دمياط اسمه (أبوستة) كان متخصصا في حلوي [الهريسة] وهذا نوع فريد لم أعرفه الا في دمياط، ولامثيل له.. ولكنه يحتاج إلي حديث خاص، تذكرته في اللاذقية لأن المحل يفتح ايضا لمدة ساعة فقط يوميا، فتنفد الكمية فيغلق ابوابه، احبت الكنافة بالجبن، وكلمة الجبن هنا مجازية، لانه جبن غير مالح، وتلك تؤكل ساخنة، ياسلام علي المذاق، أكلتها من محل آخر مازلت أذكر أسمه في عمان بالأردن، اسمه (أبوحبيبة) وصاحبه أصله من نابلس التي اشتهرت بهذا النوع من الكنافة المعروفة بالنابلسية، رائحتها تدل عليها، ذكية، شهية، أما المذاق فلا مثيل له.
عرفت أنواعا شتي من الكنافة من خلال محلات الحلوي التي انتشرت في القاهرة والاسكندرية، لكل كنافة طابعها، ومذاقها، ولكن تظل كنافة أمي -رحمها الله- هي المرجع، وهي الأفضل، وفي رمضان من كل عام استعيد مذاقها من خلال ما تعده شقيقتي فكأنني استعيد أيامي الأولي.
تنتهي أيام رمضان الجميلة ومعها ينفرط عقد الطعام، ويتفرق أشخاص رمضان في الذاكرة، غير أن من يلح عليّ منهم المسحراتي.
المسحراتي:
»اصحي يانايم
قوم وحد الدايم..«
نداء منغم يرتبط بالمراحل الأول من العمر، ينضوي علي كافة ما كان يحتوي عليه الفؤاد من »مطلع« إلي اكتشاف الدنيا، وتأهب بكر لتلقي مباهجها، أول ما سمعته في درب الطبلاوي حيث نقيم. درب هاديء من دروب القاهرة القديمة، والدرب أصغر من حارة وأكبر من زقاق، كان دربنا لايفضي إلي آخر، لذلك عرف بين القوم بأنه سد، لايدخل إليه إلا من يسكنه أو من يقصده، لذلك كان ظهور غريب فيه مما يثير التساؤل والريبة، لذلك كان الدرب مكانا آمنا للعب الأطفال في الأصباح الباكرة.
علي ناصية مدخله مسجد سيدي مرزوق الأحمدي، التلميذ والمريد الأشهر لسيدي أحمد البدوي الفاسي الصوفي الذائع الصيت. والذي يقوم مرقده في طنطا، وسط الدلتا، ويحضر مولده السنوي أكثر من ثلاثة ملايين نسمة، مسجد سيدي مرزوق العتيق. أضفي علي الدرب خصوصية، خاصة لمن يسكن به، وثمة بناء آخر، قصر المسافرخانة، الذي كان فريدا في عمارته وزخارفه، وقد التهمته النيران قبل عامين وقضت عليه تماما.
عم حسن كان من معالم دربنا أيضا، خاصة في شهر رمضان، في الشهور الأخري يظهر في الدرب فلا يلفت النظر، إنه أحد سكانه الطيبين، متوسط القامة، نحيل الجسد، لديه مخزن تحت مسجد محمود محرم شهبندر تجار القاهرة في العصر العثماني.
والمالك الأصلي لقصر المسافرخانة قبل أن يستولي عليه محمد علي باشا ويخصصه كمقر رسمي للضيافة.
كان عم حسن مشهورا بارتياده المزادات القديمة التي تقام صباح كل يوم جمعة وأحد. ومنها يقتني أشياء نادرة. من التحف والأشياء الغريبة، كان المخزن يحتوي علي كل ما يمكن للإنسان أن يتصوره بدءا من عجلات السيارات إلي الأواني النحاسية إلي الإطارات الخشبية إلي مداخن القاطرات وحتي محركات الطائرات، كان مخزنا عجيبا، غريبا، مازال قائما، وعندما يحل الشهر الكريم كان يشتهر بأمرين. الأول إتقانه الليمون المخلل بدقة وإتقان. كان يخرج أمام المخزن إناء زجاجيا مستطيلا، حاد الأضلاع، وكان ليمونه مشهورا في الجمالية برائحته النافذة، القوية، ولكن بالنسبة لي كان أشهر باعتباره المسحراتي.
إنه أول مسحراتي عرفته وبالتالي أصبح المرجعية النهائية لكل مسحراتي. حتي بعد أن عرفت أشهرهم قاطبة الشيخ سيد مكاوي وأشعار فؤاد حداد. كان رمضان يعني بالنسبة لي في سنوات الطفولة الأولي اكتمال الأسرة يوميا حول مائدة الطعام التي تشهد أصنافا استثنائية، مثل الحلوي، الكنافة والقطائف، وكانت أمي رحمها الله بارعة في إعداد الكنافة، ولم أعرف مذاقا يماثلها في جميع الأنواع التي تذوقتها فيما بعد. شرقا وغربا، إضافة إلي العادات والطقوس، اجتماعية أو دينية كانت تصاحب قدوم رمضان وحلوله، كنت أشعر بألفة وحميمية مع رمضان وكأنها ألفة شخصية ومحبة لإنسان له قوام وكيان ربما يرجع ذلك إلي تصوري للأيام والشهور، وإضفاء مسحة إنسانية علي كل منها، كان رمضان بالنسبة لي شيخا جليلا. باسما أبدا، مطمئن الملامح، يرتدي عمامة بيضاء وجلبابا أبيض، كل ما يمت إليه أبيض بلون الحليب الصافي، عيناه واسعتان. يحل بيننا عندما تثبت الرؤيا، ويرتفع في الدرب صوت قراءة القرآن الكريم عبر الإذاعة من مسجد مولانا وسيدنا الحسين، لم يكن هناك تليفزيون في نهاية الأربعينيات. وكان عدد أجهزة المذياع في الدرب محدودا، معدودا، مع ثبوت الرؤيا يتم تبادل التهاني بين الجيران، وأتخيل الشيخ رمضان قد استقر بيننا، واضعا أمامنا مخلاة بيضاء فيها المباهج التي سنعرفها في أيامه.
بقدوم رمضان يمكن لنا نحن الأطفال أن ننزل إلي الحارة لنلعب ليلا كما نشاء، في الأيام العادية تخلو الحارة من صياحنا وضجيجنا قبل الغروب، من أقوي الأسباب: الخوف من العفاريت التي تمرح وتسرخ في العتمة مع نزول الليل، وكنا نسمع الحكايات التي تروي عنها وأفواهنا مفتوحة خوفا ودهشة، وكان أشهر العفاريت ما يظهر عند الفرن. الفرن الذي يقع وسط الحارة. كان الفرن في الأيام العادية يغلق أبوابه قبل الغروب، فيما عدا أيام رمضان التي يسهر خلالها حتي الصباح، لإعداد كعك العيد والبسكويت والغريبة، وكان الزحام يتعاظم أمام الفرن في النصف الثاني من شهر رمضان، مع قرب حلول عيد الفطر.
العفريت الذي سمعت عنه حكايات عديدة يظهر في زي شرطي وعلي كتفيه شارتان لونهما أحمر، يتقدم بأدب جم إلي عابر السبيل ويسأله عن عنوان معين، أو شخص ما، ويرد بالشكر في حالة إجابة الشخص سلبا أو إيجابا، وعندما يبدأ ابعاده، يسمع الإنسان وقع خطوت غريبة، يلتفت ليفاجأ أن العسكري له ساقا ماعز نصفه الأسفل حيوان، والعلوي إنساني، هذا عن أشهر عفريت، الذي كان يثير الفزع ويحدث الخضة عند الإنسان.
لكن الأخطر أمنا »الغولة« وهي وسط بين البشر والجن الشرير، تسكن الخرابات والمنازل المهجورة، وخطورة الغول أو الغولة أنها تخطف الأطفال لتلتهمهم، تأكلهم وتهضمهم.
في شهر رمضان لايخلو الدرب من العفاريت والغلان والجان، ولا العفريت الشهير، ولا أي عفريت كان يمكنه الظهور، مثل هذه المخلوقات الشريرة تحبس ولا تظهر هكذا يصبح الدرب آمنا ويمكننا اللعب فيها بعد العشاء إلي قرب منتصب الليل، حيث تتعالي أصوات الآباء والأمهات، نعود إلي البيوت لنجد طبقا فيه المكسرات، البندق واللوز وعين الجمل، وما تبقي من مشروبات حلوة بدأنا بها قبل الإفطار. مع العودة إلي البيت يبدأ انتظار المسحراتي، كنت أغالب النوم مصرا علي السهر لأستمع إلي المسحراتي، إلي عم حسن، وكثيرا ما كان النوم يغلبني وأوصي أمي وأنا أبدأ الإغفاء أن توقظني عند مجيء عم حسن المسحراتي، غير أنني كنت في معظم الأحيان أستيقظ بمفردي من خلال منبه داخلي قوي، مازال يلازمني حتي الآن.
»اصحي يانايم.. اصحي يانايم
قوم وحد الدايم..«
لم يكن عم حسن يستخدم عصا وطبلة، إنما كان يمسك بعصا غليظة. يقرع بها أبواب الحارة. وكان صوته قويا رغم نحافة جسده، يبدأ قادما من بعيد، يتوقف أمام باب كل بيت بعد أن يقرعه بالعصا، ثم يذكر الأسماء فردا فردا.
»اصحي يا عم أحمد وحد الله
اصحي يأبو فلان وحد الله..
قوم يأبو فلان.. وحد الدايم..«
وينتقل إلي المنزل التالي، وهكذا، إلي أن يصل إلي باب بيتنا رقم أحد عشر، يقرع الباب، ويذكر الأسماء مناديا حتي يصل إلي اسم الوالد.
»اصحي ياعم أحمد ياغيطاني وحد الله..«
عندئذ ينتابني سرور، وكثيرا ما كنت اسأل أبي عن الوقت الذي سوف يذكر فيه عم حسن اسمي، كذلك اسم أخي إسماعيل، وأخي علي. لم يكن يذكر إلا أسماء الذكور، فيقول الوالد. ان هذا اليوم سيجييء عندما نكبر، ونصوم رمضان كاملا.
مع توالي الزمن واتساع المدينة اختفي المسحراتي، لم يعد دوره أساسيا، كما أن الفترة الفاصلة بين الأفطار والسحور اتصلت بفضل البرامج التليفزيونية والمسلسلات المتعاقبة المتنافسة علي شتي القنوات، قبل التليفزيون، وحتي نهاية الخمسينيات لم يكن هناك إلا مسلسل اذاعي واحد، ألف ليلة وليلة، والفوازير الرمضانية، واذاعة تلاوة القرآن الكريم مباشرة من مسجد مولانا وسيدنا الحسين، أما السهر فكان داخل البيوت، وفي المقاهي القاهرية القديمة وأهمها بالطبع الفيشاوي. كان الناس يجتمعون للحديث معا، يتناول الميسورون منهم المكسرات ويتواجهون أثناء الحديث سواء في المقهي أو البيوت، بعد ظهور التليفزيون، تراجع السمر والحوار، أصبحت الأنظار كلها تتجه صوب الصوت والصورة، من مسلسل إلي برنامج ومن برنامج إلي مسلسل، حتي حلت الفضائيات بتنوعها. فانتفي الوقت وصار أضيق من أن يستوعب المتابعة، الكل ينظر في اتجاه واحد إلي الشاشة، الكل صامت، يصغي وأحيانا يعلق، هكذا لم يعد هناك أيضا نوم بين الأفطار والسحور، أسمع في الضاحية الهادئة التي أسكنها الآن (المعادي) صوتا خافتا ضعيفا لمسحراتي واهن الصوت، يدق طبلة، وينادي بجمل عامة النائمين أن يستيقظوا، إنه لايعرف أسماء من يسكنون العمارات، وكيف يعرفهم إذا كانوا هم لايعرفون بعضهم البعض ولايتواصلون الا عبر تحية خاطفة إذا ألتقي أحدهم بالأخر صدفة فوق السلم أو عند المدخل، في الدرب القاهري القديم، كان التواصل قائما عبر التزاور والسهر، أو عبر تبادل أطباق الطعام بين الجيران، كانت الحيوات موصولة متقاربة، أما الآن فكل يحيط نفسه بسياج، جدار عازل، حتي في شهر رمضان، علي الجانب الأخر انتشرت في السنوات الأخيرة ظاهرة مآدب الإفطار الجماعية في النوادي والمطاعم والجمعيات والنقابات، في كل سنة قبل حلول الشهر الكريم أقرر ألا أفطر خارج البيت، ولذلك أسباب شتي منها ما يصيبني من إرهاق بعد الإفطار وضرورة الراحة، إلا أنني افاجأ بمالايمكن رده أو الاعتذار عنه، سواء من جانب هيئات أعتز بالانتماء إليها، أو زملاء اعزاء، أو صداقات حميمة، تلك ظاهرة في حياتنا الاجتماعية، وفرة المآدب وثراء الطعام وضخامته، في نفس الوقت انتشرت ظاهرة موائد الرحمن في شوارع القاهرة، وأصبح بعضها مشهورا بجودة ما يقدمه من طعام، ومما يثير شجني جلوس البعض لمدة ساعات تحت شمس القاهرة الحارقة انتظارا للإفطار، يجيئون مبكرين لحجز بعض الأماكن، وعند مروري بهذه الموائد، ورؤية الجالسين فقط انتظارا لموعد الأفطار أشعر بضيق وقلق، موائد الرحمن كانت تقام في الماضي داخل المساجد، والبيوت الكبيرة، لم تكن للمظهرة أو للإعلان، أو ستار لغسيل الأموال وتحسين السمعة.
الفانوس
في بيت السحيمي الذي وصل إلينا من القرن السابع عشر الميلادي غرفة مخصصة لتلاوة القرآن الكريم، تطل عليها مشربيات داخلية تتيح للنساء الاستماع إلي التلاوة ولا تمكن الضيوف من رؤيتهن، هذا تقليد رمضاني قديم في القاهرة والريف، أن يأتي شيخ للتلاوة أو للغطة، في ليالي رمضان وغيرها، من سقف هذه الحجرة يتدلي فانوس رقيق رغم حجمه الكبير، من هذا الفانوس يمكنني استلهام منشأ فانوس رمضان، كانت البيوت تضاء بواسطة فوانيس كهذا، كذلك المساجد، اضافة الي المشكاوات التي تشكل فنا قائما بذاته، لكن مع حلول رمضان الكريم، ولدواعي السهر انتقل الفانوس من الثبات إلي الحركة، خاصة في زمن لم تكن المدينة مضاءة بعد، لا بالغاز ولا بالكهرباء، أصبح الفانوس في يد الأطفال والمسحراتي وارباب الحرف يذكر الاستاذ المرحوم حسن عبدالوهاب في مؤلفه الصغير، الطريف عن رمضان أن ابن ظافر الأديب المصري المتوفي سنة 316ه (6121م) قال: اجتمعنا ليلة في رمضان فجلسنا بعد انقضاء الصلاة للحديث، وقد اوقد فانوس السحور فاقترح بعض الحاضرين علي الأديب أبي الحجاج يوسف بن علي المعروف بالنعجة أن يصنع فيه، وإنما طلب بذلك تعجيزه فأنشد:
ونجم من الفانوس يشرق ضوؤه
ولكنه دون الكواكب لايسري
ولم أر نجما قبل طلوعه
إذا غاب ينهي الصائمين عن الفطر
اذن، فانوس رمضان ظاهرة قاهرية قديمة، وربما يعود عصره إلي العهد الفاطمي، وقد حملت الفانوس كثيرا ونزلت به للحارة، وكان »عادة« و»العادة« تعني شعيرة ما نحافظ من خلالها علي الذاكرة، لقد تغير شكل الفانوس في السبعينيات مع زمن الانفتاح الاقتصادي، اختفي التقليدي برشاقته وتناسقه، واختفي الشمع بالطبع، وحل مكانه الفانوس التايواني، المصنوع من البلاستيك والذي يضاء ببطارية صغيرة، عندما حل الزمن الذي أصبحت اشتري الفانوس لأبني وابنتي تماما كما كان يفعل الوالد، وحتي لاتنقطع العادة ففي انقطاعها الشؤم كله، غير أنني لم أكن مقتنعا بالفانوس في بلاد بعيدة، غير أنني كنت مضطرا، بدءا من منتصف التسعينيات ظهر الفانوس القاهري مرة أخري، أعني المصنوع في ورش السباكة الصغيرة، سعدت بهذا كثيرا رغم أن الشكل تبدل، فالألوان أصبحت زاعقة والأحجام صارت أكبر، لاشيء يعود تماما كما كان ولاشيء يبقي علي حاله، غير أن رمضان مهما تبدلت معالمه مازال هو نفسه علامة أساسية من علامات الزمن، صحيح أن حلوله الآن يذكرني بسرعة انقضاء المرحلة الخاصة بي في هذه الحياة الدنيا، خاصة انني عشت قدومه في الشتاء منذ حوالي ثلاثين عاما، وهاهو يبتعد عائدا إلي الخريف وبعد سنوات سوف يصبح مواكبا للصيف، أحد عشر يوما في كل عام بالقياس إلي السنة الميلادية، غير أنني أشك كثيرا في أن أشهده مواكبا للشتاء!
رغم كل المتغيرات والعلامات والنوات، يظل رمضان شيخا طيب الملامح، أبيض الثياب، لحيته كثة، يجيء مثيرا للبهجة، وإذ يقارب علي الرحيل يتأجج الحنين، ويدركنا الأسي في العشرة الأواخر عندما نبدأ في الاصغاء إلي تواشيح الوداع.
ما اوحشي الله منك
ياشهر الصيام..
الكنافة
ترتبط عندي الكنافة بشهر رمضان، بل إنها من معالمه، ربما يمضي عام كامل لا أتذوقها ولا أقربها، لكن اذا حل الشهر الكريم لابد من تذوقها مهما التزمت بأنظمة غذائية صارمة خشية زيادة الوزن، في هذا الشهر تنشط الدكاكين المتخصصة في صناعتها نيئة، وأشهرها علي الاطلاق في القاهرة دكان مجاور لضريح السيدة زينب الطاهرة، شقيقة مولانا الحسين، منذ الصباح الباكر يقف جمع أمام هذا المحل للحصول علي كيلو أوأكثر من الكنافة، الدكاكين المتخصصة في الفطائر والحلويات وبعض المتاجر التي لاصلة لها بالحلويات أو العجائن.. تنصب الصينية المعدنية الكبيرة، تحتها نار هادئة توفر درجة حرارة معينة، كافية لانضاج الشعيرات التي تبث من خلال وعاء معدني يشبه سطل الماء القديم، مثقوب من أسفل، ثقوب دقيقة تحدد سمك شعيرات الكنافة، تسيل من السطل، دقيقا ممتزجا بالماء والملح والخميرة، يقوم العامل بتحريك الوعاء حركة دائرية، محتفظا بمسافة بين سطح الصينية والوعاء، وبمجرد رص عشر دوائر يقوم بجمع الخطوط بيده ليتولي عامل آخر رصها فوق أوراق بيضاء من أوراق الصحف السادة التي لم تطبع بعد، وتلك تكفل حفط الشعيرات طرية، طازجة، طوال شهور السنة لانلحظ تسوية الكنافة رغم وجودها داخل المحلات أو خارجها، عدا شهر رمضان الذي يتعاظم فيه الطلب علي ذلك النوع من الحلوي تحديدا والتي ترتبط به ارتباطا وثيقا.
مرجعيتي في تذوقها ما كانت تعده أمي، كانت ماهرة في إعدادها ولها طريقة فريدة ولحسن الحظ انتقلت طريقتها إلي شقيقتي - أطال الله عمرها - بعد أن تعلمتها منها، هذا المذاق يرجع إلي زمن طفولتي، من أقدم أنواع الطعام التي تحتفظ بها ذاكرتي مع الأنواع الأخري والتي تحدد معالم ذاكرتي المذاقية، فالطعام ذاكرة.
كان من معالم الشهر الفضيل إعداد الكنافة والقطائف في البيت، ولو أن الوالدة أعدت الكنافة في شهر آخر غير رمضان لما بدا ذلك عاديا، فالكنافة لاتكون حقا وفعلا إلا في رمضان، كانت أمي تحتفظ بصينية من النحاس، ثم أصبحت فيما بعد من الالمونيوم، تغطيها بطبقة رقيقة من السمن البلدي، وتضع الصينية علي نار الموقد الهادئة حتي اذا ساح السمن تبدأ في رص شعيرات الكنافة حتي تغطي الأرضية، وتنثر حبات الزبيب، ثم تضع طبقة أخري من الشعيرات وترش الزبيب، ثم طبقة ثالثة، وتبدأ في تسوية الكنافة بادارة الصينية في حركة دائرية بطيئة، بينما تمسك بحافة الصينية مستعينة بقطعة قماش لدرء الحرارة المتصاعدة، كانت تبدي صبراً وجلدا، ولا تكف عن تدوير الصينية إلي أن يستوي الجزء الأسفل ويتخذ لونا وسطا بين الأصفر والأحمر، تتناول الصينية بعيدا عن الموقد، تهزها يمينا ويسارا، تقلب الدائرة التي تماسكت فوق غطاء مستدير، لتعيدها بالعكس مرة أخري إلي الصينية، هكذا يصبح السطح الني في وضع تحتي بحيث يتلقي الحرارة القوية وهكذا تتم تسوية جميع اجزاء الحلوي التي أخذت شكل الوعاء الدائري وتماسكت وبالطبع انكمش حجمها قليلا، كان انضاجها فوق موقد صغير يشتعل بالكيروسين يقتضي جهدا وطاقة، وفي منتصف الستينيات وقع تطور كبير في بيتنا، إذ اقتنينا موقدا مزودا بفرن يشتعل بالغاز المضغوط (البوتاجاز) وكان محلي الصنع، من انتاج المصانع الحربية ذا شعلتين مسطحتين قويتين، وأخري صغيرة لاعداد الشاي أو القهوة أو غلي الحليب، ومازلت أذكر رقم المصنع »مصنع 63 حربي«، لقد ساعد الفرن أمي علي وضع الصينية بداخلها ولم تكن في حاجة إلي تقليبها الا مرة واحدة، وربما لاتحتاج اذا تأكدت أن الكنافة نضجت واكتسبت هذا اللون الاصفر الذهبي المائل إلي الحمرة، كانت أمي ماهرة في استخدام الفرن، لقد عرفت فرنا مختلفا في جهينة بصعيد مصر، فرن من الطين. كان الطعام فيه ينضج في أواني فخارية، ويتم فيه ايضا خبيز أرغفة العيش الشمسي والفطائر، لكنني لا أذكر أنني رأيت كنافة في صعيد مصر، أذكر جيدا الفطائر، كانت تخبز في الصباح، ونسميها (أقراص) لانها دائرية، وكذلك (المخروطة) التي كانت تؤكل باللبن مع السمن، وهذه أكلة قريبة من الكنافة والكسكسي، وأظنها في طريقها إلي الانقراض الآن، حدث في الصيف الماضي عندما زرت القرنة، البر الغربي بالاقصر، ونزلت في بيت قديم اعتدت الاقامة فيه أن طلبت من صاحبه وهو صديق أيضا أن يعد لي افطارا من (المخروطة)، كان الأمر ايضا يتعلق بالذاكرة، غير أنني لاحظت حيرة محمود القط صاحبي، قال إنه لايذكر (المخروطة) منذ سنوات طويلة لم يأكلها، ذهب إلي أمرأته لكنها اعتذرت، وعندئذ تحدث إلي بعض أقاربه، وقد عرفت هذا كله فيما بعد، ومضي أحدهم إلي أمه العجوز التي جاءت لتعد (المخروطة)، تلك الأكلة التي لا يعرفها الجيل التالي.
تصنع الأقراص من الدقيق، ويتم تقطيعها إلي خيوط نحيلة، أغلظ من خيوط الكنافة، أقرب إلي حجم المكرونة الإسباجيتي، ثم توضع في قماش خفيف، يستحسن أن يكون من الشاش، يوضع في مصفاة، وتوضع المصفاة فوق »قادوس« من الفخار (كان ذلك زمن طفولتي) به ماء مغلي، وعلي البخار المتصاعد يتم انضاج شعيرات المخروطة، تماما كما ينضج »الكسكسي« المغربي، وبعد النضج يصب اللبن المحلي بالسكر أو العسل فوق المخروطة، افطار دسم معتاد في صعيد مصر بدأ يختفي الآن، كانت أمي تتقن اعداده، لكنني لا أذكر أنني رأيت الكنافة في جهينة حيث ولدت في الصعيد، لابد أنها أتقنتها في القاهرة من احدي جاراتها القاهريات عندما جاءت من الصعيد بصحبة أبي واستقرت معه. كان لابد أن أستفسر منها عن اتقانها الكنافة، لكنني لم أفعل مثل أمور كثيرة لم اسأل عنها، إما كسلا واما بالارجاء ظنا مني باتساع الوقت، غير أن وقتها نفد قبل أن أحاط علما وألم بما لم أكن أعرف.
بعد إنضاج الكنافة، تجييء مرحلة التحلية، فيها يتم صب الشراب المصنوع من السكر والليمون والذي تم غليه فوق النار ثم تبريده، يتم صبه علي مهل، يتخلل الشعيرات التي تماسكت، واستوت، وشيئا فشيئا تلين ويكون السطح انشف الاجزاء، أما القلب فهو ألينها وأحبها إلي، بعد أذان المغرب نبدأ الافطار بشرب الخشاف، البلح والتين والزبيب المبلول، ثم الوجبة الرئيسية، ثم بعد الختام يحل مكان الحلوي، أي الكنافة أو القطائف، تقطع أمي بالسكين، تبدو الخيوط الصفراء المبتلة بالشراب وكأنها سلاسل المتعة، كانت كنافة أمي وسطا بين الجفاف واللين وهذا ما أفضله، وأبحث عنه باستمرار في سائر المحال والأصناف التي أتوصل بها، مع تقدم الزمن أصبح شراء الكنافة من محلات الحلوي أسهل وأسرع، تعرفت علي أنواع شتي، فهناك »المبرومة« واشتهر بها حلواني في القاهرة القديمة اسمه (الخضري)، بدأ ظهوره في سوق الصاغة، عقب موعد الغداء، كان يقف عند المدخل الغربي لخان الخليلي وأمامه صينية كبيرة مغطاة، الكنافة ملفوفة حولها كأنها كابلات من الحلوي، كانت محشوة باللوز والبندق وعين الجمل، مغمورة في الشراب سميك القوام، الحلو، وعرفت نوعا آخر أقرب إلي المبرومة، ولكنه مستطيل، قطع مبرومة لاتدور حول الصينية، ولكنها مستطيلة، السطح العلوي منها دائما أكثر صلابة لتعرضه للنيران، والتحتي ألين، إنها الطريقة التي تقرب كنافة أمي ولكنها تقف علي مسافة منها، رأيتها في تركيا وفي اليونان، الطريف أنني أعتدت أن أتناول الطعام في مطعم يوناني شهير في فرنسا قريب من جريدة لوموند، وعندما قرأت في القائمة اسم (القطائف) سألت النادل عن الكنافة فلم يعرفها. ثم طلب الانتظار، عاد ومعه طباخ مصري يعمل في المطبخ، تصافحنا وتعرفنا، عندما طلبت منه (الكنافة) ابتسم قال إنهم يسمونها هنا (قطائف)، وتذوقت أصابع الكنافة لكن المذاق كان علي غير ما توقعت. في حرب تشرين زرت سوريا عقب وقف اطلاق النار مباشرة، والحلوي الشرقية تخصص سوريا ولبنان، في حمص توقفت اثناء سفري إلي اللاذقية لزيارة قيادة القوات البحرية، كنا نسافر ليلا، وبعد صلاة الفجر في مسجد خالد بن الوليد، اقترح رفيق السفر، الاديب والناقد رياض عصمت وكان مجندا في ادارة الشئون السياسية وقتئذ، وهي الادارة المسئولة عن التعامل مع الصحفيين، اقترح أن نتناول الافطار من محل مشهور اسمه (الناطور) معروف بجودة الكنافة التي يعدها، وأعترف إنها بالغة الجودة، خاصة المبرومة منها، محشوة بما لذ وطاب من الفستق والبندق والجوز واللوز، لكنها جافة، تقرقش رغم سخائها، بمجرد ان قضمت قطعة منها تذكرت كنافة أمي الطرية، السلسة، غير أن الكنافة التي زاحمت كنافة أمي وكادت تدانيها في المكانة، فقد تعرفت عليها في اللاذقية.
قال صاحبي رياض إننا سنتجه إلي حلواني شهير لايفتح الا ساعة فقط بالنهار، من الثانية عشرة إلي الواحدة، يبيع كنافة بالجبن، أذكر المحل الصغير لكنني لاأذكر اسمه، يقع فوق مرتفع مطل علي البحر، رجل قصير، ممتليء، واثق جدا من نفسه، يقطع الكنافة بعناية وكأنه جراح، تذكرت حلواني في دمياط اسمه (أبوستة) كان متخصصا في حلوي »الهريسة« وهذا نوع فريد لم أعرفه الا في دمياط، ولامثيل له.. ولكنه يحتاج إلي حديث خاص، تذكرته في اللاذقية لأن المحل يفتح ايضا لمدة ساعة فقط يوميا، فتنفد الكمية فيغلق أبوابه، أحببت الكنافة بالجبن، وكلمة الجبن هنا مجازية، لانه جبن غير مالح، وتلك تؤكل ساخنة، ياسلام علي المذاق، أكلتها من محل آخر مازلت أذكر اسمه في عمان بالأردن، اسمه (أبوحبيبة) وصاحبه أصله من نابلس التي اشتهرت بهذا النوع من الكنافة المعروفة بالنابلسية، رائحتها تدل عليها، ذكية، شهية، أما المذاق فلا مثيل له.
عرفت أنواعا شتي من الكنافة من خلال محلات الحلوي التي انتشرت في القاهرة والاسكندرية، لكل كنافة طابعها، ومذاقها، ولكن تظل كنافة أمي -رحمها الله- هي المرجع، وهي الأفضل، وفي رمضان من كل عام أستعيد مذاقها من خلال ما تعده شقيقتي فكأنني أستعيد أيامي الأولي.
تنتهي أيام رمضان الجميلة ومعها ينفرط عقد الطعام، ويتفرق أشخاص رمضان في الذاكرة، غير أن من يلح عليّ منهم المسحراتي.
المسحراتي
»اصحي يانايم
قوم وحد الدايم..«
نداء منغم يرتبط بالمراحل الأول من العمر، ينضوي علي كافة ما كان يحتوي عليه الفؤاد من »مطلع« إلي اكتشاف الدنيا، وتأهب بكر لتلقي مباهجها، أول ما سمعته في درب الطبلاوي حيث نقيم. درب هاديء من دروب القاهرة القديمة، والدرب أصغر من حارة وأكبر من زقاق، كان دربنا لايفضي إلي آخر، لذلك عرف بين القوم بأنه سد، لايدخل إليه إلا من يسكنه أو من يقصده، لذلك كان ظهور غريب فيه مما يثير التساؤل والريبة، لذلك كان الدرب مكانا آمنا للعب الأطفال في الأصباح الباكرة.
علي ناصية مدخله مسجد سيدي مرزوق الأحمدي، التلميذ والمريد الأشهر لسيدي أحمد البدوي الفاسي الصوفي الذائع الصيت. والذي يقوم مرقده في طنطا، وسط الدلتا، ويحضر مولده السنوي أكثر من ثلاثة ملايين نسمة، مسجد سيدي مرزوق العتيق. أضفي علي الدرب خصوصية، خاصة لمن يسكن به، وثمة بناء آخر، قصر المسافرخانة، الذي كان فريدا في عمارته وزخارفه، وقد التهمته النيران قبل عامين وقضت عليه تماما.
عم حسن كان من معالم دربنا أيضا، خاصة في شهر رمضان، في الشهور الأخري يظهر في الدرب فلا يلفت النظر، إنه أحد سكانه الطيبين، متوسط القامة، نحيل الجسد، لديه مخزن تحت مسجد محمود محرم شهبندر تجار القاهرة في العصر العثماني.
والمالك الأصلي لقصر المسافرخانة قبل أن يستولي عليه محمد علي باشا ويخصصه كمقر رسمي للضيافة.
كان عم حسن مشهورا بارتياده المزادات القديمة التي تقام صباح كل يوم جمعة وأحد. ومنها يقتني أشياء نادرة. من التحف والأشياء الغريبة، كان المخزن يحتوي علي كل ما يمكن للإنسان أن يتصوره بدءا من عجلات السيارات إلي الأواني النحاسية إلي الإطارات الخشبية إلي مداخن القاطرات وحتي محركات الطائرات، كان مخزنا عجيبا، غريبا، مازال قائما، وعندما يحل الشهر الكريم كان يشتهر بأمرين. الأول إتقانه الليمون المخلل بدقة وإتقان. كان يخرج أمام المخزن إناء زجاجيا مستطيلا، حاد الأضلاع، وكان ليمونه مشهورا في الجمالية برائحته النافذة، القوية، ولكن بالنسبة لي كان أشهر باعتباره المسحراتي.
إنه أول مسحراتي عرفته وبالتالي أصبح المرجعية النهائية لكل مسحراتي. حتي بعد أن عرفت أشهرهم قاطبة الشيخ سيد مكاوي وأشعار فؤاد حداد. كان رمضان يعني بالنسبة لي في سنوات الطفولة الأولي اكتمال الأسرة يوميا حول مائدة الطعام التي تشهد أصنافا استثنائية، مثل الحلوي، الكنافة والقطائف، وكانت أمي رحمها الله بارعة في إعداد الكنافة، ولم أعرف مذاقا يماثلها في جميع الأنواع التي تذوقتها فيما بعد. شرقا وغربا، إضافة إلي العادات والطقوس، اجتماعية أو دينية كانت تصاحب قدوم رمضان وحلوله، كنت أشعر بألفة وحميمية مع رمضان وكأنها ألفة شخصية ومحبة لإنسان له قوام وكيان ربما يرجع ذلك إلي تصوري للأيام والشهور، وإضفاء مسحة إنسانية علي كل منها، كان رمضان بالنسبة لي شيخا جليلا. باسما أبدا، مطمئن الملامح، يرتدي عمامة بيضاء وجلبابا أبيض، كل ما يمت إليه أبيض بلون الحليب الصافي، عيناه واسعتان. يحل بيننا عندما تثبت الرؤيا، ويرتفع في الدرب صوت قراءة القرآن الكريم عبر الإذاعة من مسجد مولانا وسيدنا الحسين، لم يكن هناك تليفزيون في نهاية الأربعينيات. وكان عدد أجهزة المذياع في الدرب محدودا، معدودا، مع ثبوت الرؤيا يتم تبادل التهاني بين الجيران، وأتخيل الشيخ رمضان قد استقر بيننا، واضعا أمامنا مخلاة بيضاء فيها المباهج التي سنعرفها في أيامه.
بقدوم رمضان يمكن لنا نحن الأطفال أن ننزل إلي الحارة لنلعب ليلا كما نشاء، في الأيام العادية تخلو الحارة من صياحنا وضجيجنا قبل الغروب، من أقوي الأسباب: الخوف من العفاريت التي تمرح وتسرح في العتمة مع
زول الليل، وكنا نسمع الحكايات التي تروي عنها
وأفواهنا مفتوحة خوفا ودهشة، وكان أشهر
العفاريت ما يظهر عند الفرن. الفرن الذي
يقع وسط الحارة. كان الفرن في الأيام العادية يغلق
أبوابه قبل الغروب، فيما عدا أيام رمضان التي يسهر خلالها حتي الصباح، لإعداد كعك العيد والبسكويت والغريبة، وكان الزحام يتعاظم أمام الفرن في النصف الثاني من شهر رمضان، مع قرب حلول عيد الفطر.
العفريت الذي سمعت عنه حكايات عديدة يظهر في زي شرطي وعلي كتفيه شارتان لونهما أحمر، يتقدم بأدب جم إلي عابر السبيل ويسأله عن عنوان معين، أو شخص ما، ويرد بالشكر في حالة إجابة الشخص سلبا أو إيجابا، وعندما يبدأ ابعاده، يسمع الإنسان وقع خطوات غريبة، يلتفت ليفاجأ أن العسكري له ساقا ماعز نصفه الأسفل حيوان، والعلوي إنساني، هذا عن أشهر عفريت، الذي كان يثير الفزع ويحدث الخضة عند الإنسان.
لكن الأخطر أمنا »الغولة« وهي وسط بين البشر والجن الشرير، تسكن الخرابات والمنازل المهجورة، وخطورة الغول أو الغولة أنها تخطف الأطفال لتلتهمهم، تأكلهم وتهضمهم.
في شهر رمضان يخلو الدرب من العفاريت والغلان والجان، ولا العفريت الشهير، ولا أي عفريت كان يمكنه الظهور، مثل هذه المخلوقات الشريرة تحبس ولا تظهر هكذا يصبح الدرب آمنا ويمكننا اللعب فيها بعد العشاء إلي قرب منتصب الليل، حيث تتعالي أصوات الآباء والأمهات، نعود إلي البيوت لنجد طبقا فيه المكسرات، البندق واللوز وعين الجمل، وما تبقي من مشروبات حلوة بدأنا بها قبل الإفطار. مع العودة إلي البيت يبدأ انتظار المسحراتي، كنت أغالب النوم مصرا علي السهر لأستمع إلي المسحراتي، إلي عم حسن، وكثيرا ما كان النوم يغلبني وأوصي أمي وأنا أبدأ الإغفاء أن توقظني عند مجيء عم حسن المسحراتي، غير أنني كنت في معظم الأحيان أستيقظ بمفردي من خلال منبه داخلي قوي، مازال يلازمني حتي الآن.
»اصحي يانايم.. اصحي يانايم
قوم وحد الدايم..«
لم يكن عم حسن يستخدم عصا وطبلة، إنما كان يمسك بعصا غليظة. يقرع بها أبواب الحارة. وكان صوته قويا رغم نحافة جسده، يبدأ قادما من بعيد، يتوقف أمام باب كل بيت بعد أن يقرعه بالعصا، ثم يذكر الأسماء فردا فردا.
»اصحي يا عم أحمد وحد الله
اصحي يأبو فلان وحد الله..
قوم يأبو فلان.. وحد الدايم..«
وينتقل إلي المنزل التالي، وهكذا، إلي أن يصل إلي باب بيتنا رقم أحد عشر، يقرع الباب، ويذكر الأسماء مناديا حتي يصل إلي اسم الوالد.
»اصحي ياعم أحمد ياغيطاني وحد الله..«
عندئذ ينتابني سرور، وكثيرا ما كنت اسأل أبي عن الوقت الذي سوف يذكر فيه عم حسن اسمي، كذلك اسم أخي إسماعيل، وأخي علي. لم يكن يذكر إلا أسماء الذكور، فيقول الوالد. ان هذا اليوم سيجييء عندما نكبر، ونصوم رمضان كاملا.
مع توالي الزمن واتساع المدينة اختفي المسحراتي، لم يعد دوره أساسيا، كما أن الفترة الفاصلة بين الإفطار والسحور اتصلت بفضل البرامج التليفزيونية والمسلسلات المتعاقبة المتنافسة علي شتي القنوات، قبل التليفزيون، وحتي نهاية الخمسينيات لم يكن هناك إلا مسلسل اذاعي واحد، ألف ليلة وليلة، والفوازير الرمضانية، واذاعة تلاوة القرآن الكريم مباشرة من مسجد مولانا وسيدنا الحسين، أما السهر فكان داخل البيوت، وفي المقاهي القاهرية القديمة وأهمها بالطبع الفيشاوي. كان الناس يجتمعون للحديث معا، يتناول الميسورون منهم المكسرات ويتواجهون أثناء الحديث سواء في المقهي أو البيوت، بعد ظهور التليفزيون، تراجع السمر والحوار، أصبحت الأنظار كلها تتجه صوب الصوت والصورة، من مسلسل إلي برنامج ومن برنامج إلي مسلسل، حتي حلت الفضائيات بتنوعها. فانتفي الوقت وصار أضيق من أن يستوعب المتابعة، الكل ينظر في اتجاه واحد إلي الشاشة، الكل صامت، يصغي وأحيانا يعلق، هكذا لم يعد هناك أيضا نوم بين الأفطار والسحور، أسمع في الضاحية الهادئة التي أسكنها الآن (المعادي) صوتا خافتا ضعيفا لمسحراتي واهن الصوت، يدق طبلة، وينادي بجمل عامة النائمين أن يستيقظوا، إنه لايعرف أسماء من يسكنون العمارات، وكيف يعرفهم إذا كانوا هم لايعرفون بعضهم البعض ولايتواصلون الا عبر تحية خاطفة إذا ألتقي أحدهم بالأخر صدفة فوق السلم أو عند المدخل، في الدرب القاهري القديم، كان التواصل قائما عبر التزاور والسهر، أو عبر تبادل أطباق الطعام بين الجيران، كانت الحيوات موصولة متقاربة، أما الآن فكل يحيط نفسه بسياج، جدار عازل، حتي في شهر رمضان، علي الجانب الأخر انتشرت في السنوات الأخيرة ظاهرة مآدب الإفطار الجماعية في النوادي والمطاعم والجمعيات والنقابات، في كل سنة قبل حلول الشهر الكريم أقرر ألا أفطر خارج البيت، ولذلك أسباب شتي منها ما يصيبني من إرهاق بعد الإفطار وضرورة الراحة، إلا أنني أفاجأ بمالايمكن رده أو الاعتذار عنه، سواء من جانب هيئات أعتز بالانتماء إليها، أو زملاء أعزاء، أو صداقات حميمة، تلك ظاهرة في حياتنا الاجتماعية، وفرة المآدب وثراء الطعام وضخامته، في نفس الوقت انتشرت ظاهرة موائد الرحمن في شوارع القاهرة، وأصبح بعضها مشهورا بجودة ما يقدمه من طعام، ومما يثير شجني جلوس البعض لمدة ساعات تحت شمس القاهرة الحارقة انتظارا للإفطار، يجيئون مبكرين لحجز بعض الأماكن، وعند مروري بهذه الموائد، ورؤية الجالسين فقط انتظارا لموعد الأفطار أشعر بضيق وقلق، موائد الرحمن كانت تقام في الماضي داخل المساجد، والبيوت الكبيرة، لم تكن للمظهرة أو للإعلان، أو ستار لغسيل الأموال وتحسين السمعة.
الفانوس
في بيت السحيمي الذي وصل إلينا من القرن السابع عشر الميلادي غرفة مخصصة لتلاوة القرآن الكريم، تطل عليها مشربيات داخلية تتيح للنساء الاستماع إلي التلاوة ولا تمكن الضيوف من رؤيتهن، هذا تقليد رمضاني قديم في القاهرة والريف، أن يأتي شيخ للتلاوة أو للغطة، في ليالي رمضان وغيرها، من سقف هذه الحجرة يتدلي فانوس رقيق رغم حجمه الكبير، من هذا الفانوس يمكنني استلهام منشأ فانوس رمضان، كانت البيوت تضاء بواسطة فوانيس كهذا، كذلك المساجد، اضافة الي المشكاوات التي تشكل فنا قائما بذاته، لكن مع حلول رمضان الكريم، ولدواعي السهر انتقل الفانوس من الثبات إلي الحركة، خاصة في زمن لم تكن المدينة مضاءة بعد، لا بالغاز ولا بالكهرباء، أصبح الفانوس في يد الأطفال والمسحراتي وارباب الحرف يذكر الاستاذ المرحوم حسن عبدالوهاب في مؤلفه الصغير، الطريف عن رمضان أن ابن ظافر الأديب المصري المتوفي سنة 316ه (6121م) قال: اجتمعنا ليلة في رمضان فجلسنا بعد انقضاء الصلاة للحديث، وقد اوقد فانوس السحور فاقترح بعض الحاضرين علي الأديب أبي الحجاج يوسف بن علي المعروف بالنعجة أن يصنع فيه، وإنما طلب بذلك تعجيزه فأنشد:
ونجم من الفانوس يشرق ضوؤه
ولكنه دون الكواكب لايسري
ولم أر نجما قبل طلوعه
إذا غاب ينهي الصائمين عن الفطر
اذن، فانوس رمضان ظاهرة قاهرية قديمة، وربما يعود عصره إلي العهد الفاطمي، وقد حملت الفانوس كثيرا ونزلت به للحارة، وكان »عادة« و»العادة« تعني شعيرة ما نحافظ من خلالها علي الذاكرة، لقد تغير شكل الفانوس في السبعينيات مع زمن الانفتاح الاقتصادي، اختفي التقليدي برشاقته وتناسقه، واختفي الشمع بالطبع، وحل مكانه الفانوس التايواني، المصنوع من البلاستيك والذي يضاء ببطارية صغيرة، عندما حل الزمن الذي أصبحت اشتري الفانوس لأبني وابنتي تماما كما كان يفعل الوالد، وحتي لاتنقطع العادة ففي انقطاعها الشؤم كله، غير أنني لم أكن مقتنعا بالفانوس في بلاد بعيدة، غير أنني كنت مضطرا، بدءا من منتصف التسعينيات ظهر الفانوس القاهري مرة أخري، أعني المصنوع في ورش السباكة الصغيرة، سعدت بهذا كثيرا رغم أن الشكل تبدل، فالألوان أصبحت زاعقة والأحجام صارت أكبر، لاشيء يعود تماما كما كان ولاشيء يبقي علي حاله، غير أن رمضان مهما تبدلت معالمه مازال هو نفسه علامة أساسية من علامات الزمن، صحيح أن حلوله الآن يذكرني بسرعة انقضاء المرحلة الخاصة بي في هذه الحياة الدنيا، خاصة أنني عشت قدومه في الشتاء منذ حوالي ثلاثين عاما، وهاهو يبتعد عائدا إلي الخريف وبعد سنوات سوف يصبح مواكبا للصيف، أحد عشر يوما في كل عام بالقياس إلي السنة الميلادية، غير أنني أشك كثيرا في أن أشهده مواكبا للشتاء!
رغم كل المتغيرات والعلامات والنوات، يظل رمضان شيخا طيب الملامح، أبيض الثياب، لحيته كثة، يجيء مثيرا للبهجة، وإذ يقارب علي الرحيل يتأجج الحنين، ويدركنا الأسي في العشرة الأواخر عندما نبدأ في الاصغاء إلي تواشيح الوداع.
ما أوحش الله منك
ياشهر الصيام..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.