تهفو نفسي إلي مكة.. اشتعل شوقا إليها.. يجافيني النوم أفكر فيها تغادرني روحي إليها.. تسبقني إلي هناك.. أهرول خلفها.. تسيطر علي هذه اللحظة التي أدخلها فيها فتحتضن عيناي مآذن البيت الحرام تتلألأ في الأنوار المقدسة.. أتقدم إليها شيئا فشيئا يخفق قلبي بعنف.. يهتز كياني ووجداني.. تفيض الدموع من عيني كأنني اختزنت فيها دموع الكون كله.. أقترب أكثر تجذبني قوة هائلة.. أدخل في عالم من الروحانيات أجهل كنهه.. أعجز عن تفسيره.. انني ذاهب إلي هناك أغسل ما علق بي من الذنوب.. أكفر عما بدر مني من الهفوات.. أترك الدنيا بأسرها خلفي بكل ما فيها.. لا أفكر في شيء إلا في لحظة أدخل فيها البيت الحرام أتلفت حولي.. أمامي.. خلفي فلا أري إلا هذا البيت الصغير المربع الأضلاع الذي يقصده كل الخلق من كل صوب وحدب يطوفون حوله.. يهللون ويكبرون ويدعون ويبتهلون ولا يتساءلون لماذا هم لذلك فاعلون؟ كلهم ايمان ويقين خالق الكون أمرهم وهم يطيعون لا علة ولا أسباب.. لا لماذا؟ ولا كيف؟ انها الطاعة العمياء لرب الكون.. لخالقهم.. انها لحظة يشكرونه فيها: يسبحون بحمده.. يهللون.. ويكبرون مقصدهم واحد الجنة امامهم يتقدمون يزحفون يناضلون علي أمل الوصول وهذا منتهي المراد انهم مؤمنون بان الذي خلقهم هو يهديهم وهو آمرهم وهم مطيعون من عند الحجر يبدأون الطواف وعنده ينتهون، يترقبون لحظة يصلون فيها إليه يقبلونه الزحام شديد والأمر بالالتزام إذا لم تستطع الوصول إليه فانظر إليه.. أشر إليه قبله واحتضنه بعينيك وانتظر اللحظة لعلك تستطيع ان تلمسه أهفو وأتطلع لأنتهي من الأشواط السبعة لأنتقل إلي شعيرة أخري.. لعل حلمي يتحقق وبدأ الرحلة إلي هناك »لبيك اللهم عمرة«. وأذهب إلي حيث ماء زمزم.. أنهل وأشرب كثيرا في طمع.. والخلق جميعا كذلك يشربون ينهلون ولا يشبعون.. وهل من مزيد، فماء زمزم لما شرب له هو معجزة لا يعلم كنهها إلا صاحبها.. عين صغيرة تفجرت بضربة قدم لأم تنفطر علي وليدها الذي يكاد الظمأ يقتله ويقتلها وهما في صحراء مترامية بلا ماء ولا طعام ولا راع.. الأم تجري هنا وهناك لعلها تجد نقطة ماء تطفيء بها ظمأ طفل يصرخ.. والأم لهفي فقد يموت الصبي ومن المؤكد ان عينيها كانتا معلقتين بالسماء وأعماقها تصرخ إلي رب السماء لينقذ وليدها.. لقد تركه وتركها أبوه ألم يفكر في مصيرهما؟ لابد انه فكر اذن لماذا يتركهما كذلك في هذا العراء اللانهائي؟ وتأتي الاجابة من الأم الولهانة حين أخبرها زوجها انه سيتركهما اتتركنا وحدنا؟.. نعم.. لماذا؟ لان الأمر الإلهي جاءني ولا اعتراض ولا بحث عن أسباب ولا نتائج وتسأله هل أمرك ربك؟ ويجيب نعم.. اذن لن يضيعنا ربك.. كانت قولة خالدة تحكم البشر ان الله لا يضيع أحدا. ولأن ماء زمزم لما خلق له فعند منبعه تتدفق اسرار البشر وكل منهم يطوي ضلوعه علي سره لماذا يشرب من ماء زمزم؟ هو وحده يعلم بعد خالقه.. ملايين الأسباب والدوافع ومليارات الزجاجات تحملها الطائرات والسفن والعابرات لتجيب عن سر في نفوس آخرين لم يكتب لهم ان يشربوا بأنفسهم فحمل لهم الآخرون ما يشربون.. سبحانك ربي وسعت كل شيء علما.