بعد مخاض عسير وصلنا لمشروع الدستور، وهذا ما يعد من إنجازات المرحلة الانتقالية، رغم أهمية الكثير من الملاحظات والظروف التي تبلور فيها مشروع الدستور، فالتحدي الذي يواجه الدولة يتمثل في الانتقال لمرحلة بناء مؤسسات ما بعد الثورة وفق أساس يستند لإرادة شعبية حرة ونزيهة. ولاشك أن الأزمة والمناقشات الدائرة حول مشروع الدستور ، سوف تلقي بظلال علي مستقبل الدولة والمجتمع، حيث تتقاطع الأزمة مع الاستقطاب الحزبي والنزاع ما بين مؤسسات الدولة، وهي حالة علي درجة كبيرة من الخطورة والتأثير، لكنه من المهم توافر وطرح المبادرات التي تساعد علي تقريب المواقف وتجنب المجتمع من تفاقم الأزمات. فالأزمة السياسية الحالية هي نتاج الارتباك السياسي الذي شهدته الفترة الانتقالية، ومن ثم فإن التخفيف من حدتها أو الخروج منها يتوقف علي قدرة الدولة علي الدخول في مرحلة جديدة يستقر فيها الأساس الدستوري وتتضح ملامح العلاقة بين الدولة والمجتمع. وعادة ما تواجه سياسات بناء الدولة والنظام الجديد صعوبات وتحديات تتعلق بالميراث السياسي والإداري من النظام السابق ، ومن ثم فإن القضية الأساسية هنا تتعلق بفلسفة واستراتيجية تكوين النظام الجديد وكيفية إجراء تعديلات علي الأوضاع الراهنة بما يحافظ علي مقومات التوازن بين السلطات واليم الأساسية للمجتمع، وأري أن التحدي الذي يواجه السلطة يتمثل في ضمان المناخ الآمن نحو تكوين نظام سياسي يستوعب ويلبي متطلبات الحكم الرشيد. فليس هناك مصلحة في تفكيك أو إهدار مؤسسات وسلطات الدولة، فإذا كانت الإطاحة بالسلطة التنفيذية من النتائج المباشرة ، فعادة ما تلازم فترات التحول والانتقال السياسي حالات الضرورة والاستثناء، بما تترتب عليها آثار ونتائج غير مرغوبة، كما يلازمها بعض السلبيات التي يمكن معالجتها في وقت لاحق من خلال وجود وثيقة أساسية دستورية تنظم شئون الدولة والمجتمع. ومن الملاحظ أن غالبية تجارب الفترات الانتقالية تشهد العديد من الصراعات المتنوعة علي المستويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وباعتقادي أنها ظاهرة طبيعية تلازم عملية التغيير الاجتماعي لفترة ما بعد الثوارت أو الحركات التصحيحية والإصلاحية، لكنه من خلال النظر لبعض التجارب يلاحظ أن استغراق الفترات الانتقالية في بعض الدول لمدة تقارب الأربع سنوات لم يؤد لتقريب المواقف السياسية حول المقترحات الدستورية، وهذا ما يرجع إلي تغير الأوضاع والمصالح السياسية والاقتصادية لمكونات الدولة، حيث تظهر مطالبات، من قبل بعض الأطراف ، بإعادة النظر في الوثيقة - الدستور الانتقالي وتعديله بما يعمق من الحلقة المفرغة للأزمة السياسية. لا يمكن بأي حال تجاهل أزمة الخلاف السياسي حول مشروع الدستور، لكن الوضع الحالي يقتضي التوجه نحو استكشاف الإرادة الشعبية في تقرير موقفها تجاه مشروع الدستور، ولعل نتيجة الاستفتاء تساهم ليس فقط في صياغة الملامح العامة للدولة ولكنها أيضا تثري التنوع الفكري والسياسي حيث تتوافر شروط النجاح في ظل تطوير وتكوين النظام الأساسي للدولة والمستند للإرادة الشعبية، وبهذا المعني، يعد السعي لمرحلة أكثر استقرارا شرطا ضروريا لطرح الكثير من الرؤي والنظريات لبناء الدولة. وسوف تساهم مرونة تعديل الدستور، بعد خمس سنوات، في إعادة تقييم الوضع الدستوري ومدي تلبيته لتطلعات الشعب، كما أن طريقة توزيع السلطات سواء بين الرئيس ورئيس الوزراء أو ترقية دور السلطة التشريعية سوف يساهم في حفظ توازن السلطات، وكان من المأمول أن يتجنب مشروع الدستور فكرة الاستبعاد (العزل السياسي) ويتركها للإرادة الشعبية. وعلي أية حال، يشكل مشروع الدستور قاسما مشتركا كبيرا بين تطلعات الأطراف المختلفة، سواء من حيث الإقرار بوجود التنوع الديني والسياسي والاقتصادي، أو من حيث إعداد الدولة للانتقال ما بين نظامين ؛ من النظام السابق للنظام الجديد بشكل تدرجي، ومن ثم توفر هذه الفلسفة إطارا للنقاش، خلال السنوات القادمة، حول التوجهات الاستراتيجية للدولة ومراجعة النظام التشريعي وطرح مبادرات للخروج من الأزمات السياسية.