يوما بعد الآخر يتأكد وبوضوح أن الدستور أولا هو الخيار السياسي الأفضل الذي كان علينا أن نبدأ به الهندسة السياسية للمرحلة الانتقالية الأولي, ولم يكن الأمر محض اختيار ذهني, أو أيديولوجي أو ممارسة لتمرين في التخطيط السياسي لتعليم السياسة للمبتدئين الذين خرجوا من أعطاف ظاهرة الموت السياسي الذي استمر طيلة ستين عاما مضت! كان اختيار التعديل الجزئي لبعض نصوص دستور1971, والبدء بانتخابات مجلسي الشعب والشوري, كاشفا عن أن النخبة السياسية في أزمة ومأزق تاريخي بامتياز لعديد الأسباب: أولها: أن جماعة الإخوان المسلمين وبعض القوي السلفية غلبوا مصالحهم السياسية الآنية في الوصول إلي أغلبية مقاعد مجلس الشعب والشوري, كقاعدة انطلاق لمحاولة صياغة الدولة وأجهزتها, والنظامين الدستوري والسياسي علي هواهم الايديولوجي. تغليب المصالح الايديولوجية الدينية علي المصلحة العامة للأمة والدولة المصرية, كان محرك تفاهماتهم وتواطؤاتهم في نظر بعض المراقبين مع السلطة الفعلية في البلاد, وقاموا بتحويل مرحلة الانتقال الأولي المضطربة إلي سجالات عنيفة لفظية وخطابية ودينية وإلي جدل حول الإسلام والهوية, وكأن الأمة الأكثر تدنيا في المنطقة لا تعرف لها هوية أو إيمانا أو ثقافة علي نحو يكشف عن غلبة العقل الاثاري الذي يرمي إلي إشاعة الضبابية والتخليط في أمور تحتاج إلي تحريرها من التزمت والتشدد في الرؤي, والسعي إلي التعلم من تاريخ فشل بعض الجماعات الإسلامية السياسية مصريا وعربيا وإسلاميا باستثناء بعض نجاحات العدالة والتنمية التركي , ومعرفة الخبرات العميقة لمعني الدولة الحديثة ومؤسساتها وكيفية التعامل مع مشاكل معقدة ومركبة تتأبي علي بساطة الأفكار الإيديولوجية ولغة الشعارات. ثانيها: أن غالب الذين نجحوا في انتخابات مجلسي الشعب والشوري وافدون جدد علي المؤسسة التشريعية, ولم يتلقوا تكوينا سياسيا وقانونيا ولو في حدود المبادئ العامة كي يستطيعوا ممارسة عملهم الرقابي والتشريعي, ومن هنا وجدنا ممارسة تتسم في بعض جوانبها بالخفة في فترة زمنية حرجة تحتاج إلي التبصر السياسي والحكمة والاستعانة بأهل الخبرة, لكن واأسفاه, ذهب بعضهم إلي محاولة الانقضاض علي بعض الإصلاحات الخاصة بحقوق المرأة والطفل, بديلا عن تمكين المرأة, لاسيما في ظل نزعة محافظة ترمي إلي تهميش أدوارها السياسية وفي المجال العام وحصر دورها في الوظائف التقليدية التي تعيدنا إلي أعراف اجتماعية سادت ما قبل الدولة والمجتمع الحديثين! ثالثها: أن الأغلبية البرلمانية بل معها عديد الأعضاء من القوي المسماة' بالليبرالية'! تتعامل مع مجلس الشعب وشرعية صندوق الاقتراع, وكأنها هي الشرعية الوحيدة في البلاد, ويحاول بعضهم أن يعتبر العملية الثورية المجهضة هي أحد أقنعة البرلمان! هكذا! ما الذي ترتب علي هذا الفهم الخطأ للشرعية السياسية واختصارها واختزالها وتأميمها لمصلحة الأغلبية البرلمانية الإسلامية السياسية؟ إن الأغلبية تتصرف سياسيا وإعلاميا وكأنها هي الحاكم الإمبراطوري الجديد للبلاد والعباد, وكأن البرلمان بكل تقاليده التاريخية ومواريثه في إنتاج التشريعات الأساسية هو الذي يوجه ويراقب ويشرع وينفذ ويفصل في المنازعات بين الناس, ويدير الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب, ويدير كل السلطات! قيل لهم كثيرا خففوا الوطء والغلظة وبعض الصياح عن الناس, واعتصموا بالحس والرؤية التاريخية والمسئولية السياسية وبعض الحكمة حتي نستطيع الخروج الآمن من حالة الفوضي النسبية والاضطراب والتشوش في الرؤي والسياسات والقرارات, لكن يبدو أن الأصوات المستقلة والجادة لا صدي لها لدي النخبة البرلمانية وما وراءها من جماعات وأحزاب, وكذلك لدي بعض السلطة الفعلية في البلاد, حتي أوصلوا البلاد والعباد إلي هذا المأزق التاريخي, حيث ينظر إلينا في المنطقة بإشفاق حينا, وتندر ووصل الأمر إلي سخرية مبطنة حينا آخر علي خيبات النخب المصرية والمقارنات بين ما كان يحدث في مراحل عز مصر الحضاري والسياسي, وقدراتها علي الإلهام! الأغلبية البرلمانية تتصرف خارج الإطار الدستوري المؤقت الذي توافقت عليه مع السلطة الفعلية, وأرادت طرح الثقة بالحكومة في حين أن التقاليد والمبادئ الدستورية العامة المستقرة قضائيا في دستور1971 سيئ الصيت لا تعطيها ذلك, ولا الإعلان الدستوري. صخب وضجيج سياسي ساهم مع السلطة الفعلية, وبعض ممارسات مرشحي الرئاسة, في تحويل مصر إلي مسرح للفرجة السياسية في المنطقة والعالم, كنتاج لقصر النظر السياسي, والميول الاستعراضية والتلفازية لنخب لا تراعي في خطاباتها وآراءها ومسلكها السياسي مسئولية أمة عريقة انكسرت وتفككت بعض عراها إلي فرق دينية ومذهبية وعرقية ومناطقية وبعضهم ليس لديه بعض من الحكمة لكي يقول لنا كيف نعيد بناء الموحدات الوطنية بين كل هذه المكونات في إطار ديمقراطي يجدد الدولة وسلطاتها, ومؤسساتها, ويحترم دولة القانون. هل البرلمان يتصور أنه هو الذي يوجه السلطة القضائية المستقلة وذات التقاليد والهيبة! هل بعض أعضاء البرلمان يريدون استخدام التشريع لعقاب المحكمة الدستورية العليا وإرهاب قضاتها والتأثير عليهم من خلال تعديل قانونها تحت دعاوي شتي؟! هل هي ضربة استباقية للتأثير علي نظر الطعن بعدم دستورية الإطار القانوني للنظام الانتخابي المختلط الذي تشكل في ضوئه البرلمان؟ هذا أمر لا يجوز, ويمس استقلال القضاء ويشكل تدخلا سياسيا في أعماله, وينتهك مبدأ الفصل بين السلطات! ما معني أن يحاول بعضهم وضع قانون للسلطة القضائية أو للمحكمة الدستورية العليا قبل وضع دستور جديد للبلاد يحدد شكل النظام الدستوري: برلماني أم شبه رئاسي علي النمط الفرنسي أو نظائره أم رئاسي؟ أليس وضع وشكل توازنات القوة وتوزيعها بين السلطات هو محصلة للتوافق الوطني حول طبيعة النظام الدستوري؟ لماذا كل هذا الصخب! إنها السلطة والهيمنة والعقلية الشمولية التي لا تزال تحكم حياة النخبة! وا أسفاه! المزيد من مقالات نبيل عبدالفتاح