لا يمكن لمنصف غيور أن يرتضي ما تفعله هذه النخبة الأنانية المغامرة بالوطن والثورة والناس، إنهم يرتهنون الدستور مقابل مطامع وطموحات غير مشروعة تعطل مسيرتنا وتفتت أواصر دولتنا وتجعلنا في مأزق لا يحسدنا عليه أحد. إن ما يطرح من الفرقاء جميعا لهو أمر يجافي العقل والمنطق وصحيح السياسة، ناهيك عن أنه يضرب قلب الوطن الموجوع في مقتل. إنه إحتراب في غير موضع ومحاولات لفرض الهيمنة والوصاية و"التكويش" من فريق كشفت عنه ورقة التوت وسقطت كل الأقنعة الزائفة فبدت وجوه سافرة تلعب بالوطن وأحلام الشباب وطموحات الجماهير. منذ قرابة عام وتحديداً في مايو 2011 كتبت في هذه الزاوية مقالاً بعنوان "حتي لا تضعوا العربة قبل الحصان" أقروا الماجناكارتا وخذوا كل المقاعد"، كان هذا في سياق ما يطرح بشأن تشكيل الجمعية التأسيسية لوضع الدستور والتي أصرت جماعات الإسلام السياسي أن تحوز فيها أغلبية مطلقة حتي وصل بهم الإستخفاف الي تعيين إبن أٌخت الدكتور محمد مرسي في الجمعية التأسيسية، وإكتشفنا أننا أمام مسرحية هزلية أوقفها حكم القضاء الإداري، يومها رأينا أن المشكلة لا تكمن في تشكيل اللجنة بقدر ماهي الخطوط العريضة والمبادئ العامة الحاكمة للدستور، ومن هنا نشأت فكرة التوافق علي مبادئ حاكمة للدستور، وكما في الوثيقة الإنجليزية "الماجناكارتا" التي استقرت لأكثر من سبعة قرون غير قابلة للتغيير، وقلنا في هذا الصدد إذا ما توافقنا علي مدنية الدولة والحريات العامة بما فيها حرية العقيدة وحقوق الإنسان والعدالة الإجتماعية والمساواة وتكافؤ الفرص واستقلال القضاء والفصل بين السلطات وتحديد إختصاصات رئيس الجمهورية التي تغولت الي ما يشبه صلاحيات مطلقة شبه إلهية، فإنه بمثل هذه المبادئ العامة الحاكمة للدستور والغير قابلة للإلغاء والتعديل، فلن يعنينا بعد ذلك تشكيل اللجنة حتي لو جاء أغلبه من تيارات الإسلام السياسي. بعدها طرح الدكتور البرادعي في يونيو مثل هذه الفكرة وصاغ علي غرارها د.علي السلمي مبادرته لكن زاد عليها صلاحيات للمجلس العسكري خرجت بها عن المستهدف من ورائها فأعطي زريعة لرفض المتأسلمين لفكرة المبادئ فوق الدستورية، فعلقوا الأمر وماطلوا فيه وكانوا يستهدفون من وراء ذلك أن يرهنوا كتابة الدستور إلي ما بعد إنتخابات الرئاسة، فإذا ما جاء الرئيس منهم فصلوا له صلاحيات مطلقة وإذا ما جاء الرئيس من خارج تشكيلاتهم وضعوا له العراقيل ليعيقوا مناط مسئولياته ومحاور عمله، ولا يزالون حتي اليوم يحاولون ذلك ويفتئتون علي المنطق والحق والعدل فيطرحون أفكاراً بدائية سطحية غير موضوعية عن أغلبية برلمانية حازوها ينبغي أن تشكل الجمعية التأسيسية علي نفس النسبة الغالبة لهم، ونسوا أن الدستور ليس جائزة لمن يحوز الأغلبية البرلمانية وأن هذه الأغلبية متغير غير ثابت لا ينبغي القياس عليه في كتابة الدستور الذي هو بطبيعته عقد إجتماعي توافقي بين الشعب والسلطة ينبغي أن تمثل فيه كل الطوائف والمهن والحرف من مفكرين وأدباء وفنانين وأساتذة جامعات وقانونيين وعمال وفلاحين وطلاب وفنيين وموظفين وعاطلين، شبان وبنات وسيدات وعاملات وغيرهن، أما الإصرار علي نسب التصويت التي استخدم فيها الدين للحصول علي أكثرية برلمانية فهذا أمر أثبتت الانتخابات الرئاسية عدم صحته وخطأ الاعتداد به، ذلك أن أغلبية تيارات الاسلام السياسي التي شكلت أكثر من 75٪ في البرلمان نزلت بها ممارساتهم الساذجة والتحكمية الي 25٪ فقط في الانتخابات الرئاسية. وإذا مانظرت إلي اعداد المصريين المنضوين تحت لواء الأحزاب السياسية فلن تجد تمثيلهم يجاوز أكثر من 3 الي 5٪ من أعداد المقيدين في الجداول الإنتخابية "51 مليون" وتقل النسبة لما هو أقل من 1٪ قياساً إلي عدد المصريين وتعداد السكان. فكيف نقبل بما يطرح في هذا الشأن من المتحدثين بإسم هذا التيار الذي يحاول وضع العمامة فوق رأس وطن بني أمجاده وحقق نهضتة عبر تاريخه في ظل دولة مدنية لم يغب عنها الدين أبداً ولكنه كان حاضرا بمقاصده وأهدافه وروحه وليس بطقوسه التي إنحرفوا بها إلي التشدد والشكلانية والبداوة. إنها المغالبة لا المشاركة كما يدعون ذلك أنهم لايعنيهم إلا تحقيق مصالح الجماعة حتي لو تعارضت مع رؤية كل ألوان الطيف السياسي الوطني لصالح الوطن ومستقبل إعادة بناءه ونهضته. قلنا هذا في موعده منذ عام وكالعادة لم يسمع أحد ولم يهتم أحد، ذلك أن النخبة المسيطرة بكل أنانية وشوفانية تحولت أشبه ما تكون ب "لوبي" يحرك الإعلام بشلليته وقصر نظره وضيق أفقه والمال السياسي الذي يوظف لتحقيق أهداف هذه التيارات المعادية للوفاق الوطني والدولة القومية المدنية الحديثة، فأختصورا مصر في حفنة من الشخصيات أوكل إليها أمور الحل والعقد واستبعدوا المأهلين وذوي الكفاءة وأصحاب الفكر لتخلوا الساحة لمجموعة من محدودي القدرات عديمي الخبرة ولكأننا في محاولة بائسة لاستنساخ نظام مبارك الذي قزم مصر وأساء اليها. إن تيارات الإسلام السياسي هي التي تعيد إنتاج نظام الحزب الوطني ودولة مبارك بكل حرفية الاستحواذ والاستكبار ومعاملة الشعب باعتباره فاقد الأهلية أو مجموعة من البسطاء والدهماء والسذج يزرعون في أدمغتهم مقولات كاذبة وخرافات مغرضة قافزين علي كل تجاربنا معهم ووعودهم الزائفة ومحاولاتهم المستميتة للضحك علي الناس وتخديرهم ثم إبتزازنا جميعا بتهمة "معاداة الإخوانية" تماما كما تعاملنا إسرائيل بتهمة "معاداة السامية". إنها قرصنة سياسية قال عنها روبرت فيسك "إن الإسلام السياسي لا يعترف بالديمقراطية إلا مرة واحدة، بعدها يصادر علي تداول السلطة"، فنحن لسنا أمام جماعة دعوية، إنه مشروع سياسي أممي توسعي معاد للدولة القومية الحديثة، وما الدولة المصرية المدنية فيه إلا حلقة يريدون تفكيكها وإضعافها ليجعلوا منها مطية للوصول إلي أهدافهم. ولمثل هذا يسكن الحزن قلب الوطن.