تعجبت كثيرا من الموقف الذي تتخذه معظم فصائل الإسلام السياسي من قضية المبادئ الحاكمة للدستور, باعتراضها علي هذه الفكرة, وتعبئة أنصارها لمقاومتها, وإعلانها استعدادها لتنظيم مليونيات غير هادئة لإجبار من ينادون بها ومنهم حكومة الدكتور عصام شرف, وأعضاء في المجلس الأعلي للقوات المسلحة علي العدول عنها, ومما يبعث علي الدهشة أن المتحدثين باسم هذه الفصائل لا يتطرقون أبدا لذكر مضمون هذه المبادئ, وما الذي يرفضونه منها, ويكتفون بعبارات عامة حول ان اقتراح هذه المبادئ هو اعتداء علي الارادة الشعبية, واغتصاب لحق أغلبية المواطنين في صياغة الدستور, وهم بطبيعة الحال يفترضون أنهم هم الذين يعبرون عن الارادة الشعبية, وانهم قد ضمنوا بالفعل أن أغلبية المواطنين تؤازرهم. وأن كل تلك القوي والشخصيات التي تؤيد هذه المبادئ, ومنها سبع وعشرون حزبا ومنظمة سياسية في التحالف الديمقراطي الذي ساهم حزب الحرية والعدالة, حزب الإخوان المسلمين نفسه في إنشائه ثم خرج عليه, كأن كل هؤلاء جميعا ليسوا من هذا الوطن, ولا يعبرون عن أي إرادة شعبية, بعد أن أصبح ممثلو هذه الفصائل يتصرفون بكل ثقة باعتبارهم هم الوحيدين المؤهلين للحديث عن الإرادة الشعبية ومواقف أغلبية المواطنين. وبعد اطلاعي علي كل صياغات هذه المبادئ الحاكمة للدستور, ووجدتها كلها تتضمن النص علي أن الإسلام دين الدولة, وأن مبادئ الشريعة الاسلامية المصدر الرئيسي للتشريع, وأن الأحوال الشخصية لغير المسلمين تنظمها عقائدهم, وهو نفس ما تدعو إليه الشريعة الاسلامية, بدأت اتساءل عن حقيقة الأسباب التي تدعو فصائل الاسلام السياسي إلي رفض هذه المبادئ. ولايعود سبب تعجبي من هذا الموقف إلي أي عداء لحق الإخوان المسلمين أو فصائل الإسلام السياسي الأخري من حزب الوسط والسلفيين والجماعة الإسلامية في أن تكون لهم أحزابهم, ولا للضيق من إعرابهم عن رؤيتهم لقضايا الوطن, ولكن فكرة المبادئ الحاكمة للدستور بدت لي كمخرج مناسب وحل موفق لإحدي القضايا الخلافية والتي احتدم النقاش حولها منذ استفتاء9 مارس 2011, فقد كان إصدار دستور جديد هو أحد مطالب الثورة التي جري التعبير عنها في ميدان التحرير حتي قبل سقوط حكم حسني مبارك في11 فبراير 2011, ولكن شاء المجلس الأعلي للقوات المسلحة أن يطرح هذا المطلب للاستفتاء في 19 مارس, وأن يطلب من المواطنين المفاضلة بين تعديل للدستور يعقبه انتخاب سلطة تشريعية تقوم هي باختيار جمعية تأسيسية تضع الدستور, أو المضي مباشرة إلي صياغة هذا الدستور الجديد, وانتهي الأمر إلي نتيجة الاستفتاء المعروفة, والتي لم تضع حدا لهذا الخلاف, والسبب في بقاء هذا الخلاف واضح ولا يجب التقليل من شأن الأسباب التي دعت إلي استمراره, فقسم مهم من المواطنين يضم غالبية النخبة المثقفة وشرائح واسعة من المواطنين يخشون أن تؤدي الانتخابات التشريعية إلي مجلسين للبرلمان يوجههما الاسلاميون علي احتمال أن يكونوا فيهما أكبر جماعة منظمة وإن لم تكن لها الأغلبية المطلقة, ومن ثم يختار هؤلاء جمعية تأسيسية لاتعكس علي نحو صحيح تباين الرؤي والمصالح والاتجاهات في الوطن, ومن ثم تخرج بدستور لا ينعقد حوله توافق وطني واسع. هذه مخاوف مشروعة, ولا ينبغي علي قادة كل من حزب الحرية والعدالة أو حزب الوسط وفيهم شخصيات تتمتع بالحكمة والحصافة السياسية تشرف كاتب هذه السطور بمعرفتها, لاينبغي لها التقليل من شأن هذه المخاوف, أو يتصوروا أنها شأن أقلية منحرفة حادت عن تعاليم الإسلام الصحيح, وليس بوسع قادة الفصائل الاسلامية الادعاء بأنهم وحدهم هم الذين يمثلون الإسلام الصحيح, فهناك ملايين من المسلمين في هذا الوطن لا يشاركون هذه الفصائل رؤيتها ويزعجها أن ينفرد الاخوان المسلمون وفصائل الاسلام السياسي الأخري بصياغة الدستور فالدستور تحديدا يجب أن يكون موضع توافق وطني عام ويجب ألا تفرضه جماعة علي كل المواطنين حتي ولو كانت هذه الجماعة تتمتع بالأغلبية. ولذلك جاءت فكرة المبادئ الحاكمة للدستور كحل موفق تتفق عليه كل القوي السياسية بمن فيها من الإسلاميين قبل الانتخابات, ومن ثم لا يهم بعد ذلك من تكون له الأغلبية في مجلسي البرلمان أو في الجمعية التأسيسية, لأن المبادئ الأساسية في الدستور قد جري الاتفاق عليها مقدما من جانب هذه القوي السياسية التي يفترض أنها هي التي ستخوض الانتخابات, خصوصا في ظل إصرار كل هذه القوي علي أن تجري الانتخابات التشريعية علي أساس القوائم الحزبية وبالتمثيل النسبي, والذي لا يسمح للمرشحين الأفراد بالتقدم للترشيح, أي أنه لن يكون هناك مرشحون آخرون من خارج تلك القوي التي توافقت علي هذه المبادئ, وقد كان هذا هو موقف حزب الحرية والعدالة والذي شارك في اجتماع مع أحزاب التحالف الديمقراطي الأخري التي هددت بمقاطعة الانتخابات إذا لم يأخذ المجلس الأعلي للقوات المسلحة باقتراحاتها بالنسبة لنظام الانتخاب, وفضلا علي ذلك يفترض أن يجري تضمين هذه المبادئ في الدستور الذي سيستفتي عليه الشعب, ومن ثم يكون أمام الشعب الاختيار بين قبول الدستور بما فيه هذه المبادئ, أو رفضه, ومن ثم لايكون هناك محل للقول بأن الاتفاق علي هذه المبادئ هو اغتصاب للارادة الشعبية, طالما أن الشعب هو الذي يقرر في النهاية ما إذا كان سيقبل الدستور الذي يضمها أم يلقي به في سلة المهملات. والواقع أنه من غير المحتمل أن ترفض أغلبية المواطنين هذه المبادئ فيما لو عرضت عليهم في استفتاء عام, اللهم إلا إذا تعرضوا للتضليل, فكلها تتعلق بمسائل موضع اتفاق بالفعل, مثل كون مصر جزءا من الوطن العربي, ولغتها هي العربية, ودينها هو الإسلام, أو تتعلق بالحقوق الأساسية للمواطنين. حجج الرافضين لفكرة المبادئ الحاكمة للدستور الملاحظ كما سبق ذكره أن الرافضين لفكرة المبادئ الحاكمة للدستور لا يناقشون مضمون المبادئ المقترحة, وإنما يطرحون حججا واهية لا تصمد أمام أي مناقشة موضوعية, وقد ذكرنا بالفعل أن الوثائق المقترحة لهذه المبادئ مثل وثيقة التحالف الديمقراطي التي أعلنها رئيس حزب الوفد أو وثيقة المجلس الوطني أو الوثيقة المنسوبة للدكتور محمد البرادعي كلها تتضمن بالفعل النص علي أن دين الدولة هو الاسلام, وأن مبادئ الشريعة الاسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع, ومن ثم لا محل للقول بأن من صاغوا هذه المبادئ المقترحة خارجون عن الاسلام. الحجة الأخري التي يطرحها المتحدثون باسم الفصائل الاسلامية هي أن الداعين إلي الأخذ بهذه المبادئ يرفضون الديمقراطية لأنهم يخشون الاحتكام إلي رأي الشعب في صياغة الدستور, وهذا القول مردود عليه من ناحيتين, أولهما أن الدستور باعتباره يحدد طبيعة النظام السياسي, ومقومات المجتمع, وحقوق المواطنين وواجباتهم والعلاقة بين السلطات يجب أن يكون وثيقة توافقية, تحظي برضاء كل من الأغلبية والأقلية معا, والديمقراطية لا تعني فقط حكم الأغلبية, ولكنها تعني في نفس الوقت احترام حقوق الأقلية, ولايمكن قبول أن كل ما يأتي من الأغلبية يتفق مع الديمقراطية بالضرورة, هل من الديمقراطية أن توافق الأغلبية علي حرمان الأقلية مثلا من الحق في التعبير, أو التنظيم أو حتي الحق في الحياة, إن الإصرار علي أن الديمقراطية تعني فقط حكم الأغلبية هو بكل تأكيد فهم قاصر لمعني الديمقراطية, وقد أدرك من صاغوا دستور3291 في مصر المعني الرفيع للديمقراطية, ومن ثم حرصوا علي تمثيل مختلف طوائف الأمة في لجنة صياغة الدستور, من مسلمين ومسيحيين ويهود وأرمن, وكانت هذه لجنة عينها الملك فؤاد. أفلا يليق بنا أن نسترشد بهذا المثل الرائع في فهم الديمقراطية وتجسيد الوحدة الوطنية وأن نتحلي بالمناسبة بروح ثورة الخامس والعشرين المجيدة التي أكدت بممارسات ميدان التحرير في أيام موجة الثورة الأولي هذه المعاني, ومن ناحية أخري فالمقترح أن يجري تضمين المبادئ الحاكمة للدستور في نصوص الدستور الجديد, وسيرد معظمها في الباب الخاص بحريات المواطنين, وسوف تعرض علي الشعب في الاستفتاء, وهذا يفي بشرط ديمقراطية عملية إقرار الدستور. والحجة الثانية التي يطرحها الناقدون لفكرة المبادئ الحاكمة للدستور هي أن هذه الفكرة بدعة, وكما يقولون فكل بدعة ضلالة, وليس ذلك صحيحا,. فكرة المبادئ الحاكمة تعني أن بعض نصوص الدستور هي نصوص جامدة لا يجوز تعديلها بنفس الأسلوب المعتاد في تعديل الدستور ذاته, وهناك أمثلة عديدة علي ذلك, وقد جري تحصين بعض المواد في كل من دساتير ألمانيا الاتحادية واليابان وجمهورية ايرلندا والهند وجنوب افريقيا, بل وحتي في دستور 1932 في مصر, وفي حالة ألمانيا فالمبادئ التي جري تحصينها ضد التعديل هي المذكورة في المادتين الأولي والعشرين وتتعلقان بطبيعة النظام السياسي وبالكرامة الانسانية وباحترام حقوق الانسان, أما في دستور المملكة المصرية في سنة 1932, فقد نصت المادة 165علي أن الأحكام الخاصة بشكل الحكومة النيابي البرلماني وبنظام وراثة العرش وبمبادئ الحرية والمساواة التي يكفلها الدستور لايمكن اقتراح تنقيحها بالتعديل أو الحذف أو الإضافة. فكرة المبادئ الحاكمة إذن ليست بدعة, وقد أخذت بها مصر مع دول أخري, وتتعلق أساسا بطبيعة نظام الحكم وبحقوق المواطنين, والنصوص المقترحة لهذه المبادئ تتضمن النص علي كون الإسلام هو دين الدولة, وأن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع, ولا أشك في أن قادة أحزاب الحرية والعدالة والوسط والنور وغيرها من فصائل هذا التيار يدركون ذلك وفيهم كثيرون من رجال القانون, بل وأساتذة القانون الدستوري, فلماذا يعترضون علي هذه الفكرة التي يمكن أن يؤدي قبولهم لها إلي تحقيق توافق وطني واسع وضمان أن يكون الدستور الجديد الذي قد تكون لهم يد طولي في صياغته دستورا يصون حقوق الجميع ويلقي ليس فقط القبول, ولكن أيضا الالتزام المتحمس من جميع الفصائل السياسية والمواطنين جميعا. لست أري سوي تفسيرين لاستمرار هذا الاعتراض, أولهما أن قادة هذا التيار يضمرون النية علي التوسع في تفسير مدلول الشريعة الإسلامية في الدستور, ومن ثم يقفزون من مجرد النص علي مبادئ الشريعة الاسلامية إلي ادخال نصوص أخري لا تلقي التوافق الوطني حتي الآن مثل الأخذ بفكرة الحدود التي نادي بها أحد قادتهم مثل قطع يد السارق ورجم الزانية, وهي فكرة لا يقبلها كثيرون من قادة الفقه القانوني من الإسلاميين أنفسهم, أو رفض فكرة المساواة الكاملة في الحقوق بين الرجال والنساء أو بين المسلمين وغيرهم, وهي فكرة لا يستريح لها الإخوان المسلمون, كما رفعت بعض أجنحة السلفيين نصا جاهزا لدستور دولة الخلافة, التفسير الثاني هو أن قادة هذه الفصائل يعرفون هذا كله, ولكنهم يجدون في فكرة المبادئ الحاكمة للدستور مادة جذابة للدعاية ضد خصومهم في الانتخابات القادمة, ومثلما جري قبيل الاستفتاء علي التعديلات الدستورية في مارس الماضي, سوف يخرج علينا أنصار الإسلام السياسي بالادعاء أن القائلين بهذه الفكرة هم أعداء الإسلام, ومن ثم لايجوز للمسلمين الأتقياء أن يعطوهم أصواتهم, ويأملون من وراء ذلك أن يثبت هذا التضليل للمواطنين فعاليته كما كان الحال منذ شهور خلت. أتمني ألا تكون تلك هي بالفعل الأسباب المسكوت عنها وراء اعتراض فصائل الإسلام السياسي علي فكرة المبادئ الحاكمة للدستور, فلا تصبح هذه الفكرة مادة للمناورات الانتخابية, وإنما تصبح أساسا لبناء توافق وطني واسع, هو أكثر ما نحتاج إليه في هذه الظروف الدقيقة التي يمر بها الوطن.