احترقت حقول روسيا.. فصرنا في أزمة قمح.. وتجدد الحديث عن ضرورة الاكتفاء الذاتي.. وفي العام القادم.. ربما تتغير الأحوال، ويزيد الانتاج العالمي.. فننسي الاكتفاء الذاتي.. كم مرة حدث ذلك في حياة جيلنا؟.. كم مرة ترددنا بين الموقفين؟ متي نتخلي عن سياسات رد الفعل.. ونتبني سياسة وطنية ثابتة.. ليست مرتبطة بأزمة مرة.. وانفراج مرة أخري؟ سياسة جوهرها حسن استغلال مواردنا الطبيعية من أرض ومياه.. ومواردنا البشرية من مزارعين توارثوا خبرة الفلاحة آلاف السنين.. وعلماء تكونوا عبر سنين من البحث والاجتهاد والابداع.. وايجاد الحلول لكل المعضلات.. كيف نشكو من أزمة القمح، وبيننا واحد من أنجب تلاميذ البروفيسور بارلوج، صانع الثورة الخضراء في العالم.. هو الدكتور عبدالسلام جمعة..؟ طبعا الاكتفاء الذاتي لن يتم في يوم وليلة. فجميع مقوماته مرتبطة بزمن: استصلاح أراض جديدة يحتاج لمياه.. والمياه لن تتوافر الا بتنفيذ تطوير الري، الذي سيستغرق عشر سنوات، والاستفادة من اكتشاف الخريطة الجينية الكاملة للقمح، لاستنباط أصناف غزيرة الانتاج أيضا سيحتاج سنوات غير قليلة.. وادخال الميكنة الكاملة لمحصول القمح، ثم لكل المحاصيل، أيضا أمامه وقت. لكن نحن علي أبواب موسم قمح يبدأ بعد أسابيع.. فهل نقف مكتوفي الأيدي حتي يحدث كل ذلك.. أم نبحث عن إجراءات عملية.. سريعة.. تحسن مركزنا القمحي.. بأي قدر ممكن..؟ مطلوب ان تشتري الحكومة القمح من الفلاحين بالسعر العادل. ودعونا من لعبة السعر العالمي. فالسعر العالمي يتضمن دعما من الدول لمزارعيها، ومضاربات، ومنافسات لاحتكار الأسواق، والسيطرة السياسية. ولذلك، فهو ليس مرجعا اقتصاديا بريئا. وهو يتقلب صعودا وهبوطا، بما يتحمله مزارعو الدول الكبري، الذين هم رأسماليون كبار، لديهم أراض شاسعة، وتنوع مناخي، ويزرعون علي المطر، بتكلفة أقل من تكلفة فلاحينا الفقراء، محدودي الامكانيات. السعر العادل هو الذي تراعي في تحديده ظروفنا، وتكاليف الانتاج عندنا. ولنضرب مثلا بما حدث العام الماضي. لقد حددت الحكومة 072 جنيها لاردب القمح، وقال وزير الزراعة ان الحكومة دفعت في هذا السعر مائة جنيه زيادة عن السعر العالمي، مما حمل الميزانية مليارا و006 مليون جنيه عبئا اضافيا، لدعم الفلاحين. هذا تصور الربط بالسعر العالمي، الذي يفترض، لو اخذ به بدون مجاملة، لكان السعر الذي يجب ان تدفعه الحكومة في الأردب هو 071 جنيها.. فقط. فماذا يقول الواقع؟ أمامي متوسط تكاليف فدان القمح في السنة الماضية. انها: 002 جنيه لجتهيز الأرض للزراعة - 052 جنيها للتقاوي والزراعة - 003 جنيه للري - 056 جنيها للتسميد- 003 جنيه لمقاومة الحشائش - 053 جنيها للحصاد - 004 جنيه للدراس - 051 جنيها مصاريف أخري - 0002 ايجار الأرض عن الموسم.. المجموع 0064 جنيه. فماذا حصد الفلاح من الفدان؟ كان متوسط الانتاجية العام الماضي، بسبب الحرارة الشديدة المبكرة، 51 أردبا * 072 جنيها للاردب= 0504 جنيها مع 2 طن تبن * 082 جنيها للطن= 065 جنيها، بمجموع 0164 جنيهات. وبذلك يكون الفلاح زرع وشقي طوال ستة أشهر، لكي يحصل من زرعة القمح، بالسعر العالمي الكريم جدا، علي عشرة جنيهات! أهذا معقول.. أهذا عدل.. أهذا اقتصاد؟.. أم استعباط.. واستغلال.. وإفقار.. وتأديب للفلاحين حتي لا يعودوا لزراعة القمح مرة أخري!؟ فإذا كان السعر هذا العام 003 جنيه، وفق تصريح لوزير الزراعة، وليس قرارا.. زاد عائد الفدان، علي العشرة جنيهات، 054 جنيها، وهو مبلغ زهيد جدا. فكيف يعيش الفلاح وأسرته، وكيف يزرع الموسم التالي، بهذا المبلغ الذي لا يبلغ معاش التضامن! بعض الخبراء يقترحون ان يكون سعر الأردب 053 جنيها، ليرتفع الفائض إلي 0121 جنيهات، وهو قليل أيضا، لأنه من الناحية الاقتصادية البحتة، يجب ان يكون العائد من العملية الانتاجية، كافيا لأن يعيد المنتج انتاج حياته وقوة عمله، لكي يعيد انتاج السلعة، ولذلك، فأنا أضم صوتي إلي صوت زميلي أسامة غيث، بأن يكون سعر الأردب 083 جنيها، حتي نشجع الفلاحين علي الزراعة.. والتوريد. وهو نفس ما قاله وزير التضامن. رفع انتاجية صغار الفلاحين الحال يكون أفضل، والأسعار يمكن ان تنخفض، إذا زادت انتاجية الفدان، في جميع الأراضي، فمتوسط الانتاجية الذي وصلنا إليه قبل هذا العام وهو 81 أردبا، يعني ان البعض يحقق أكثر، والبعض الآخر أقل والأقل طبعا هم صغار الفلاحين، الحائزون لمساحات صغيرة أو »قزمية« فمعروف ان 58٪ من أراضي الدلتا والوادي، مساحات صغيرة.. انتاجيتها، بسبب فقر أصحابها، وعدم قدرتهم علي استخدام الوسائل التكنولوجية الحديثة، متواضعة. وقد حذرنا منذ أكثر من 51 عاما، من اننا لا يمكن ان نزيد انتاجيتنا وانتاجنا زيادة كبيرة، اعتمادا علي كبار المزارعين فقط، بينما 4 ملايين و052 ألف فدان من الخمسة ملايين فدان التي لدينا، تزرع زراعة بدائية! وواقعيا، جاء بدراسة أصدرها مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء في ابريل 9002، بعنوان »استبيان بكمية القمح المنتجة في موسم 7002-8002.. ان الحائزين لأقل من فدان يمثلون 5.04٪ من جملة الحائزين، والذين يحوزون من أقل من فدان إلي أقل من 3 فدادين يمثلون 7.73٪ منهم. مما يعني ان الحيازات الصغيرة تشكل 87٪ من جملة الحيازات. ان جميع أصناف القمح لدينا طاقتها الانتاجية 52 اردبا للفدان. ويحقق هذه الانتاجية فعلا كل كبار المزارعين.. لانهم يزرعون بتقاوي منتقاة، ويحركون الأرض ويهوونها علي الوجه الأكمل. ويسوونها بالليزر، وينثرون السماد البلدي بالآلة الخاصة بذلك. ويزرعون بالسطارات. ويطهرون حقولهم من الحشائش بالأساليب الفعالة، ويحصدون بالكومباين. لكن كل هذه الامكانيات لا تتوان التجميع الزراعي تم بنجاح في الستينيات. والفلاحون تلقائيا يزرعون المحصول في تجميعات وحتي مع وجود الحيازات الصغيرة، والمتفرقة، نجحت ميكنة محصول القمح في تجربتين مسجلتين في وزارة الزراعة، قادهما وأشرف علي تنفيذهما عالم الهندسة الزراعية الكبير الدكتور زكريا الحداد، احداهما في الدلتا، والثانية في الأرض الجديدة. وفي التجربتين زاد الانتاج طنا كاملا من الحبوب، ومثله من التبن. فإذا أردنا فعلا زيادة الانتاجية والانتاج.. والسير بجدية خطوة في طريق تحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح، والغذاء عموما، فلابد من اشراك غالبية الفلاحين، أصحاب الحيازات الصغيرة في التحديث الزراعي، لزيادة انتاجية أراضيهم. ان هذا واجب اقتصادي، واجتماعي، واخلاقي، تتحمل مسئولية الوفاء به الحكومة كلها. وكفي ما لحق بهؤلاء الفلاحين الصغار من ظلم وافقار.. وهم الذين تحملوا عبر الزمن عبء تمويل كل خطط التنمية، ولا ينالون الا أقل القليل من ثمارها. لتحشد وزارة الزراعة كل ما هو متاح من الآلات الزراعية. وتقدم خدمة الميكنة، بتسهيلات ائتمانية يقدمها بنك الائتمان والتنمية الزراعية.. والارشاد الزراعي.. والجمعيات التعاونية للميكنة.. تتهيأ الميكنة المتكاملة لكل مساحة القمح، وبقية المحاصيل. الحكومة تشتري المحصول الاجراء الثالث، الذي تأخر كثيرا، هو ان تعلن الحكومة منذ الآن.. وان تتخذ التدابير اللازمة، انها ستشتري المحصول. فلا معني، ولا مصلحة اقتصادية أو وطنية، في ان يكون هدف التوريد الاسمي هو ثلاثة ملايين طن، وترك بقية المحصول، 5.4 مليون طن، للتجار، واستغلالهم للفلاحين في الميزان والسعر، ثم المضاربة علي المحصول، حين يشح. ثم تلجأ للاستيراد الواسع، خاضعة لتلاعبات الدول المصدرة، واستغلال المستوردين، الذين يأتون بأرخص وأردأ الأقماح.. وما شهده العام الماضي من مخالفات المستوردين، وكوارث شحناتهم، لا يزال ماثلا.. ولا أظن ان في العالم كله توجد حكومة تترك قمحها للتسويق العشوائي مثل حكومتنا، التي تحتاج، وملزمة بتوفير أكثر من 9 ملايين طن لرغيف خبز يعتمد عليه 79٪ من شعبها. خاصة وان قمحها هو الأجود، والأنسب لخبزها. لتنزل الحكومة مشترية لخمسة ملايين طن مبدئيا فذلك سيكون لصالح فلاحينا. واقتصادنا.. ويقلل وارداتنا الخارجية. والأمر ليس صعبا. فلديها الجمعيات التعاونية في كل القري، وشون بنك الائتمان الزراعي، وصوامع شركات المطاحن. أما التمويل الضخم لشراء هذه الكمية، فالحكومة ستدفعه .. ستدفعه، لكن للغير.. وفلاحنا أولي. أما ستدفع في مدي شهر واحد، بينما ثمن المستورد يدفع علي مدي زمني طويل.. فهذه أيضا ليست معضلة. فليودع وزير المالية المبلغ مقسطا لدي البنك المركزي طوال شهور الموسم، حتي إذا حان موعد الحصاد كان التمويل قد اكتمل. الاشكالية الحقيقية في هذا الصدد هي التخزين. فالسعة التخزينية، لا تستطيع استيعاب هذه الكميات الكبيرة دفعة واحدة وقد اقترحت منذ سنوات اللجوء إلي الحلول البسيطة، بإنشاء صوامع صغيرة سعة ثلاثة أو خمسة أطنان، تنشر في القري، للتسهيل علي كل الأطراف. هذا الأسلوب متبع في تونس. وتنتج هذه الصوامع الصغيرة الصين وتركيا. لكن إذا طرحت مسابقة لمهندسينا لابتكار الأكثر ملاءمة لنا. ولدينا من المصانع المتخصصة في التجهيزات الزراعية، قطاع خاص عريق متمركز في طنطا، وقطاع عام متمثل في المصانع الحربية والهيئة العربية للتصنيع.
ان تحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح، والغذاء عموما، يحتاج لعمل جاد.. كل يوم.. ومن كل أجهزة الدولة ومؤسسات المجتمع المدني.. لكن لنبدأ.. علي الأقل بتحسين مركزنا القمحي الآن.. ولا نضيع الوقت، الذي ضيعنا منه الكثير.. الكثير.. وان كنت أخشي ان تضيع هذه الأسابيع الحاسمة، في انشغال الوزراء بالانتخابات.. وجرجرة وزاراتهم وراءهم في مواكب النفاق المعروفة!!