انتهينا في المقال السابق بان التاريخ السياسي للمملكة السعودية يشف عن حقيقة تفاعلية هو ان الملكية تم بناؤها تاريخيا علي اساس ميكانيزم القهر والاجبار الناتج عن التفاعل المنظم بين ثلاث قوي - الوهابية والقبلية والسعودية- اجتمعت علي قلب مشروع سياسي. استمر المشروع حتي الان في محاولته الثالثة اكثر من قرنين من الزمان. هذا المشروع رغم غلالة القهر التي غلفته وخاصة خلال المرحلة الاولي في تجربة البناء الثالثة للدولة الا ان الفحص التاريخي يوضح لنا ان الدولة الثالثة اكتسبت من الاختلاف النسبي لاوزان بين القوي الثلاثة عبر الزمن مكنه تحويل السلطة بمكوناتها وعناصرها الثلاثه الي قدرة تنظيمية متجسدة في دولة سعودية قادرة وصالحة للاستقلال الذاتي في مواجهة مكوناتها الاولية الاساسية، وبالتالي نمت في الدولة قدرة علي التكيف من اجل استمرار الاستقلال الذاتي، فبزغت الحداثة كقيمة مضافة وكقوه جديدة لاستمرار التاريخ السعودي الحديث. بعبارة اخري، انه كتب علي السعودية، الآن ، التحديث المستمر لان فيه استمرار للدولة والسلطة السعوديتين. والجدل السعودي يظهر في انه كلما تحدثت الدولة السعودية كلما تغيرت هوية المكونات الاولية للسلطة السعودية تاريخيا فنشأ مواطن سعودي ابنا للدولة وصنيعة لها، وصار التاريخ الماضي مصدرا للتفهم والتعلم اكثر منه مشيرا الي توجهات السياسات العامة في الازمة الحديثة. بعبارة ثالثة، انقطع التاريخ المستمر للسلطة السعودية بنشأة الدولة السعودية الحديثة. ومن استمرار حداثة الدولة السعودية ينمو منطق التخصيص الديمقراطي للسلطة، فينقضي التخصيص السلطوي، وتنشئ الدولة سلطة جديدة لها ، وهي السلطة البيروقراطية التنظيمية من اجل التكامل الوطني. وربما كان تاريخ الملك فهد وعصر الملك عبد الله المستمر حتي الآن اكبر مؤشر علي هذة الانماط من التحولات المجتمعية والسلطوية : فمن التحالفات المتنافسة للمكونات الاولية التاريخية للسلطة السعودية الي الدولة الحديثة الي السلطة الحديثة في السعودية العربية. بان منذ عهد الملك فهد وتبلور بشكل اكثر حسما في عهد الملك عبد الله - الذي ساعده في ذلك تربيته البدوية الاولي وتقلده امارة الحرس الوطني، وولاية العهد في ادق عهود المملكة، واستمراره امينا علي الحكم في وقت الازمات الداخلية - بان الانقطاع في التاريخ السعودي اكثر من عوامل الاستمرار. الآن نخلص الي تقدير النمط العام لمدي نجاح التنوير في المملكة العربية السعودية؟ وقد افتراضنا وفق فهمنا لنظرية التنوير ان هناك ثلاثة مستويات مفهومية للتنوير مستمدة من الخبرات المقارنة: المستوي الاول ، وهو الذي يصل فيه التنوير الي اكتمال كافة استراتيجياته حتي يصل الي مستوي الحداثة، المستوي الثاني ، عندما يثبت عليه التشتت وعدم القدرة علي التراكم والاكتمال ، والمستوي الثالث: ينحصر في السمات التكوينية والاولية لعملية التنوير. خبرة لعالم العربي في الرحج يقع في المستوي الوسيط وهو الثاني ، وهو مستوي، وفق فهمي، قلق وربما تعرض لخطر التدهور ظهوربعض ملامح من المستوي الثالث والادني. نقول ان المملكة وفق ما عرضناه من مادة علمية عن انبثاق عمليات التنوير في السعودية تحتل منتصف المساحة ما بين المستوي الثالث والمستوي الثاني كحالة. هنا نحتاح الي شرح. قلنا في معرض مقالنا فيما سبق ان المملكة ربما تكون من اكثر الدول العربية المؤهلة للوصول للحداثة من خلال استكمال عمليات التنوير فيها ، فكيف نفسر ذلك مع قولنا انها في نقطة ما بين المستوي الثاني والثالث من المستويات الثلاث التنويه ، اخذا في الاعتبار ان المستوي الاول هو المستوي الدال علي الوصول الي الحداثة وانفتاح عمليات التراكم التلقائي التاريخي للحداثة بمعني اختفاء عمليات التشتت والتفتت والاختلال التاريخي. اعتقد انة لا تناقض في القول علي النحو التالي: اولا، عرفنا الاختلال التاريخي بانه عدم اتساق وتساوق للعمليات الثلاثة التالية : 1- زرع عقلانية تعمل علي تنمية السلوك القصدي والاستهدافي بين المواطنين، 2- العمل الثقافي علي قلع وقمع ثقافة الخوف العام، 3- تنمية وتعظيم التوجه النفسي والمعرفي ناحية طرح التساؤل العام بين الجمهور بمختلف انماطه. عند توافر هذه المعايير الثلاثة جميعها بشكل متواز ومتراكم يتم تطوير التنوير وتعميق وتوسيع المستفيدين منها علي المستوي الفردي والجمعي. هذا غير ثابت بشكل شامل في تجربة المملكة، ثانيا، بعبارة اخري، ان تجربة المملكة من الارجح فيها لن تمر بنفس بتجربة الاختلال التاريخي للكثير من البلاد العربية من حيث ان تجربة الاختلال التاريخي في العالم العربي ساهمت في عدم استكمال التنوير وعدم الوصول للحداثة، ثالثا، ان المملكة سيكون بامكانها ان تمر بشكل اكثر كفاءه من خلال ازمات التنوير والحداثة، هذا لطبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع، حيث رصدنا ان المملكة مرت من الناحية التاريخية بعمليات حدث فيها استيفاء واستغراق لتضاؤل العنصر المدني سواء المسلح او الديني لصالح تعاظم قوي السلطة المنظمة التي تأخذ شكل الدولة، هذا بخلاف مع معظم الحالات العربية التي نلاحظ في الكثير منها محاولات لنمو قوي المجتمع في مواجهة بيروقراطية الدولة المسيطرة، رابعا، في عبارة ثالثة، ان المملكة من الارجح ان تصل الي مستوي شكل من اشكال الملكية الدستورية عن طريق سيكون مختلفا عن مثيلتها وجارتها البحرين حيث ان الملكية الدستورية جاءت الي البحرين كآلية من آليات الخروج من ازمات الاختلال التاريخي للتنوير في مجتمع متعدد ، بينما المملكة السعودية ستصل الي شكل من اشكال الملكية الدستورية كنتيجة لانبثاق واستمرار التراكم التاريخي للتنوير الموصل للحداثة، خامسا: هذا لا يعني ان المملكة السعودية لا تعاني من التفتيت الآن، ولكن طبيعة التفتيت بها من شأنها ان يجعلها تلتئم ناحية التكامل، فالتراكم ، بشكل ايسر من غيرها من البلاد العربية ذات الملامح التعددية من الناحية المجتمعية. وها قد وصلنا الي نهاية فحص الحالة السعودية ، ننتقل في المقال القادم الي الحالة التونسية في التنوير بتعقيداتها وذواياها الخفية عن عين المراقب العادي.