ونستمر في الإجابة عن تأهيل قوي الدولة لنزع الصفة السلطوية عن منطق الدولة وممارساتها وبالتالي تجد الدولة مصادر جديدة لقوتها غير التسلط والقهر، وقد ذكرنا اشكاليتين أولاهما تم التعامل البحثي معها والاشكالية الثانية فترتبط ببناء قدرات توزيعية للنظام السياسي تسمح بتخصيص ديمقراطي مستمر من خلال فاعليات السياسة العامة. والإشكالية الثانية تتمحور حول كيف يمكن ميكانزم التخصيص السلطوي للقوة والسلطة يتحول الي ميكانزم تخصيص ديمقراطي للثورة والسلطة. والفرق بين النمطين من التخصيصين ان الأول يتعامل من القوة باعتبارها قائمة اساسا علي القهر والاجبار بينما الثاني يتعامل في موضوع القوة والسلطة بانها اساسا قائمة للاستجابة والتكيف مع مقتضيات السياسة العامة. دعنا ندخل في الموضوع. في السعودية ثلاث مؤسسات رئيسية وهي: 1- المؤسسة الأولي ، الدينية ، وهي المرجعية الشرعية المتمثلة في العلماء الذين يضطلعون بمهمة نشر الدعوة وتوضيح شرع الله كما تفهمها المذهبية الوهابية ، فالدولة تستمد شرعيتها من كتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام ومنهما تُستمد الأنظمة التشريعية ، 2- المؤسسة الثانية ، السياسية ، وهي نظام الحكم الملكي الذي يقوم علي الأسرة المالكة آل سعود ،3- المؤسسة الثالثة ، الاجتماعية ، وهي مؤسسة القبيلة التي كانت تمد الجيوش بالرجال والعتاد ، وتمنح المؤسسة الحاكمة التعاطف الاجتماعي والولاء السياسي ، سواء كانت من البادية أو الحاضرة . في عبارة اخري، لابد من البحث أي من هذه المؤسسات هي الاكثر استقلالا في مواجهة المؤسستين الاخريتين بحيث التحول فيها تتبعه تحولات هامة وحيوية في المؤسستين الاخرتين؟ في المملكة العربية السعودية كانت هناك تجربة مختلفة الي حدّ كبير عن غيرها من بلدان الشرق الاوسط ربما تتشابه في هذا مع المملكة المغربية، فهي دولة لم يطأها المستعمرون الغربيون، ولم تنشأ أجهزتها عبرهم، كما هو الحال في كل دول الشرق الأوسط العربية، وهي وإن كان البريطانيون قد ساهموا سياسياً ومالياً في ظهورها فقد اتخذت سياسات مختلفة تجاه القبيلة بناء علي تجربتها الخاصة بها. فالمملكة هي الدولة الوحيدة التي كان للقبائل دور بارز ومركزي في نشأتها من الناحية العسكرية عبر مشروع الإخوان وتوطينهم في (الهجر). في العادة تنشأ السلطة المركزية أو أنويتها في مركز حضري ثم تتوسع تلك السلطة وتتعزز بخلق الأجهزة الأمنية والعسكرية وتمدّ سلطانها الي خارج المراكز الحضرية لتصل الي القبائل في الصحراء فتتصارع معهم وتخضعهم وتجذبهم اليها. أما في المملكة، فإن الذي حدث شيء معاكس تقريباً. فقد نشأت السلطة في مركز يتسم بالتصدع السياسيً، ولم يكن كثيف السكان، ولا يحمل أهمية استراتيجية من نوع ما. وكانت المشكلة التي واجهت هذا المركز - الرياض نجد - هي الإمتداد وإخضاع المراكز المدنية الأكثر أهمية في الشرق والغرب مثل الأحساء والقطيف والحجاز ، بشكل خاص، عبر التوسع والاحتلال العسكري. لهذا السبب، كان لا بدّ من وجود قوّة عسكرية تقضي علي دولة الحجاز، وعلي إمارة الشرق التي يسيطر عليها العثمانيون، هي لم تكن موجودة بل يصعب إيجادها. هنا جاء توظيف ثنائية الدين والقبيلة لخلق جيش بدوي عقائدي قادر علي ازالة القوي المحلية الصغيرة في نجد ومجابهة الجيوش المنظمة في الشرق والغرب. كان وجود جيش الإخوان ضرورة لخلق الدولة السعودية، ولم يكن بالإمكان إخضاع القبائل بالقوة وحدها، وإنّما بسلطة الدين، فكانت الوهابية الوعاء الأيديولوجي للتوسع وتكوين المملكة. كان لا بد من وجود عقيدة تسمو فوق القبلية، وإن مؤقتاً، تستهدف من الناحية السياسية التوسع، ومن الناحية الدينية نشر "العقيدة الصحيحة" أي "الوهابية" بحيث تعطي للقبلي البدوي هدفاً أبعد ذاته، فأعطي للقتال معني أفضل، وهدفاً أسمي، وغاية أكثر قوةً. تقبل البدو هذه الإيديولوجية الوهابية، بعضهم اقتناعاً، وبعضهم رغماً عنه كقبيلة العجمان مثلا تحت طائلة التهديد بالقتل، وبعضهم طمعاً في المغنم الاقتصادي. لكن القوي السياسية التي أدارت معركة تشكيل البنيان العسكري للقبائل ضمن سلك الإخوانية لم تكن تستهدف الغاية الدينية بالمعني الحصري، بل كان الحافز السياسي يلعب دوراً فاعلاً في توجيه المعركة. هذا لا يلغي حقيقة ان الأهداف المذهبية كانت حاضرة لدي علماء المذهب، فقيام سلطة توسعية يحقق الغرض الديني وينشر العقيدة "الصحيحة". لكن لكي تكون العقيدة مرتكزاً أساسياً بحيث تعطي أكلها، لا بدّ أن تعطي تفسيرات حادّة متطرّفة جامحة وإلاّ فقدت قدرتها علي الحشد والدفع والاستبسال. وكان المذهب الوهابي مهيأ لأن يلعب هذا الدور نظراً للبيئة الاجتماعية والجغرافية التي نشأ فيها والظروف السياسية والتاريخية والفكرية التي أحاطت بمناطق ظهوره. ولهذا كان لا بد للمذهب الحاضن أن يبطن عقيدة التوسع في صورتها الحادّة، وأن تحقن أتباعها بالمشاعر الدينية المتحفزة نحو تحقيق الغايات السياسية الكبري.. ويستمر التحليل.