الحالة الثالثه للدراسة التنوير في العالم العربي التي نأخذها اداة للمقارنة والتصنيف، بعد التعرف الاولي لحالتي السعودية وتونس، هي الحاله السورية. تاريخيا نبعث التنوير في سوريا كعملية للتحرر من طائفية الدوله العثمانية، فالتنوير والطائفية ضدان لا يلتقيان، في عبارة اخري، نهض التنوير السوري من خلال نقد الممارسات المجتمعية السلطيه في المقام الاول، وهذا وفق فهمنا يعتبر الاستراتيجية الرابعة لانبعاث التنوير وممارسته. فالتنوير له مصادر ومسارات متعددة، ومعضله كل حاله، هو كيف يستكمل شروط الاستراتيجيات الثلاثه الاخري ، ويتم التراكم التاريخي وتبعث الحالة الخامسة، وهي الحداثة في الفعل والقول يدا بيد ، فسيستوي التنوير وطنيا في الدولة والمجتمع. حاول بطرس البستاني ،الذي يمكن اعتباره رائدا من رواد التنوير العربي السباقين ،باقتراح حل المشكلة الطائفية التي كانت تعصف بالمنطقة آنذاك مثلما تعصف بها حاليا ،عن طريق طرح الشعار: "الدين لله والوطن للجميع". واتخذ من هذه العبارة شعارا يضعه علي رأس الجريدة التي أسسها عام 1860 تحت عنوان: »نفير سوريا«. انتشرت هذه العبارة لاحقا وأخذها عنه الزعيم الوطني سعد زغلول لتوحيد كلا شقي مصر الإسلامي والمسيحي، كما أخذتها مختلف الاحزاب التقدمية العربية. ولكن للأسف فان الشعار ظل شعارا فارغا غير قادر علي الترسخ في الارض، وظلت العصبيات الطائفية والمذهبية هي سيدة الموقف وتهدد الوحدة الوطنية بالحرب الأهلية في كل لحظة. هذا لا يعني ابدا ان الشعار خاطئ، ولكنه لا يزال سابقا لأوانه حتي بعد مائة وخمسين سنة علي اطلاقه من قبل البستاني، وقد كان لبطرس البستاني الفضل في تأليف الموسوعات والقواميس العربية وادخال العرب في الحداثة التربوية، فكان أول من دعا الي تعليم البنات. ثم جاء بعده يعقوب صروف الذي أسس مجلة المقتطف التي لعبت دورا كبيرا في ادخال النظريات العلمية والفلسفية الي العالم العربي، من خلال هذه العملية تم النقل الواسع وتغذية للغتنا العربية بالمصطلحات والكلمات والتراكيب الجديدة التي كانت بأمس الحاجة اليها. اسس صروف المقتطف في عام 1899 مع فارس نمر، وعلي صفحاتها خاض يعقوب صروف مع آخرين معركة الحداثة الفكرية ضد المنغلقين علي أنفسهم داخل عقلية العصور الغابرة. أفهم العرب انهم لن يدخلوا العصر ولن تكون لهم مكانة بين الأمم اذا لم يأخذوا بأسباب المنهج العلمي التجريبي الذي صنع مجد اوروبا وتفوقها.. أما فرح أنطون فقد كان من أبرز التنويريين العرب في ظل الدولة العثمانية التي كانت بلغت ذروة الاستبداد والتخلف في نهاية عهدها. تأثر انطون بأفكار ونظريات أقطاب التنوير الاوروبي من أمثال: جان جاك روسو وفولتير ومونتسكيو وارنست رينان وكل الذين دشنوا الحداثة الفلسفية والسياسية وأخرجوا أوروبا من عصر الجهالات والاصولية المسيحية المتعصبة. فرح انطون لم يكن ملحدا علي عكس ما أشاعوا عنه لانهم ، كاليوم، لازالوا لا يعرفون الفرق بين الالحاد والعلمانية. كان فرح انطون منفتحا علي الاسلام وتراثه العقلاني والأدبي من خلال تأثره بامثال ابن رشد والغزالي وابن الطفيل وعمر الخيام وآخرين عديدين. هذه البداية التكونية لنمط واستراتيجية التنوير مازالت تمسك بتلابيب الثوب السوري، فذكر اعمال الكثير من العلماء والمبدعين السوريين في الاعوام السابقه يجعلنا نقول بهذا التأكيد ، فهناك علي سبيل المثال نزار قباني وعبد السلام العجيلي، ومحمد الماغوط وعبدالمعين الملوحي وعبدالكريم اليافي وسعدالله ونوس وممدوح عدوان ومحمود درويش لبوعلي ياسين والياس مرقص وهاني الراهب ومحمد جمال باروت ، حيث دارات معظم اعمالهم حول معاني التحرر من هيمنه الاخر بالمعني القومي والاجتماعي. ربما لهذا يبرز صادق جلال العظم وادونيس والياس شوفاني وحليم حنا اسمر ومحمد شحرور وهاشم صالح وبرهان غليون علي راس قلة تريد ان توغل في المسارات الثلاثة الاخري ولكن دون نجاح مجتمعي كبير، فالدولة السورية لازالت اسيرة لظروفها السلطوية. حتي ان شاعراً كبيراً ينتمي إلي جيل الستينيات، هو علي الجندي الذي جاء لاجئا إلي دمشق في أوائل السبعينيات دار في نفس الفلك، حيث لازالت اثار وتجليات وتداعيات نكسة يونيو 1967 تغيم علي الوعي السوري وتظلم طرقاته. بعد العرض الاولي للحالات الثلاثه للتنوير في العالم العربي نخلص الي التالي: اولا، ان التنوير في العالم العربي يعاني من تمزق وتفتت وعدم تكامل وعدم اكتمال تاريخي، وليس انسدادا تاريخيا ، بمعني ان التنوير السوري مازال اسير مرحلة النضال ضد الطغيان السياسي والسلطوية وتحرير الوطن، بينما التنوير التونسي مازال لم يشبع من النقد التاريخي للنص، والتنوير السعودي لازال يخطو الخطوات الاولي في نقده، وبوجل شديد، للممارسات المجتمعية السلطوية. هذا مع اعتراف بأن هناك ملامح اولية لمظاهر من الاستراتيجيات الثلاثة الاخري، ثانيا، السؤال البحثي الكبير الان كيف نبحث في حالات غير مكتملة ومفتته وغير ناضجة، بمعني عدم وصولها للحداثة الكامله بشكل يساعدنا من الانتقال من مرحلة التفتت الي مرحلة الاكتمال والنضوج لخيره التنوير في العالم العربي ؟ اقترح الخطة التالية: 1- البحث في العوائق التي تعيق وتأسر الصراع الاجتماعي العام من اقامة اتصال مدني فعال بين الدولة والمجتمع، 2- البحث في ابناء الفرص التاريخيه لاصلاح العلاقة بين الدين والسياسة بحيث لا يتم استعمال احدهما كشرط للاخر او مبرر له ، 3- البحث في اعادة تأهيل قوي الدولة لنزع الصفة السلطوية عن منطق الدولة وممارساتها ، وبالتالي تجد الدولة مصادر جديدة لقوتها غير التسلط والقهر . في اطار هذه الخطوط الثلاثه يستمر التحليل ويتطور.