التنوير من حيث المبدأ هو قدرة الفرد علي التعبير، بصرف النظر عن مستوي او شكل التعبير، عن الوعي المختلف عمليا او نظريا عن الاخرين، بصرف النظر ايضا عن مستوي الوعي ومظاهره . الوعي ليس مجرد مسألة إدراكية أو تصورية أو مفهومية فحسب، ولكن ايضا مسألة مرتبطة بالممارسة في الواقع سواء كانت الممارسة بقصد او بالتبعية. في قول اخر، التنوير هو عملية رؤية وسبر التعقيد المتخفي في ثياب التبسيط القولي او الفعلي او العملي. الكشف عن التعقيد ورسم معالمه، وتعرجاته، وتموجاته، وتحولاته هي اللبنة الاولي في بناء المجال التنويري. الخطوة الثانية تتمثل في اعادة بناء التعقيد، الذي صار مفضوحا، من خلال تطويره ليعبر عن احتواء مستوي جديد من التعقيد. فالتنوير، إذن، عملية كشف وفضح مستمر من اجل ميلاد متجدد لتعقيد ارقي عمليا او فكريا او كلاهما. في هذا السياق لدينا خمس استراتيجيات للتنوير، ونقصد بمفهوم استراتيجية التنوير هو الطرائق والمنهجيات المختلفه للتعامل مع عملية اعادة الميلاد المستمر لعمليات الرقي المعبر عن، والمتجاوز الي تعقيد جديد ومختلف : الاستراتيجية الاولي، هي التنوير من خلال معادة قراءة النص، والثانيه، التنوير من خلال نقد النقد، والثالثه، التنوير من خلال آليات وفاعليات السياسه العامه، الرابعة، التنوير من خلال نقد الممارسات الاجتماعية السلطوية العامه، الخامسة، التنوير من خلال بناء نموذج عام اكثر حداثة في الكتابة والفعل يدا بيد. دعني اشرح كل استراتيجية بشكل مبسط قبل الانتقال الي التعرف الاولي علي حالتي تونس وسوريا. الاستراتيجية الاولي تعمل علي توسيع حدود النص الي اقصي حد ممكن، ولكن مع المحافظه دائما علي منطق نصية النص، الامر الذي يسمح للنص ان يعاد تفسيره المستمر لغويا، او سياقيا، او مضمونيا ، او تاريخيا او غيره، دون ان يسمح باعاده تركيبه وصياغته. الاستراتيجية الثانية، تتلخص في اربعة مبادئ: 1- الاعتداد بدور القارئ/الناقد في قراءة النصوص النقدية وتحليلها، 2-النظر الي النشاط النقدي بوصفه ميدانا لطرح اسئلة متوالية عن هوية وادواته ومجالاته، 3- مراجعة الناقد لمنطلقاته النظرية واطروحاته التفسيريه مراجعة دائمة تفضي الي تعديلها بصور شتي. في قول آخر، هنا ننتقل من النص وتفسيره الي منطق اعادة بناء نقد النص، فينحل النص ويتواري ويتقدم الصراع حول المنهجيات المختلفة في بناء نقد مختلف للنص. والخلاف بين الاستراتيجية الاولي والثانية يكمن في ان الاولي تركز علي فهم النص وتفسيره، بينما الثانيه تركز علي اعادة بناء جديد لكيفية نقد النص، في الاولي يظل النص مغلقا ومحافظا علي تماسكه النصي والتغيير فقط يحدث في إعادة هيكلة رؤيه قيم النص، اما الثانية فيفتح النص بدمج نقده المتجدد في معناه ومغزاه فيتغير معناه ومستهدفاته. نقد النقد في نهاية الامر هي استراتيجية لدمج مستوي إدراك وتصور القارئ في قيم النص المفترضه بيخلق نصا جديدا من خلال نقد النقد، الاستراتيجية الثالثه، وتركز علي التنوير من خلال تفاعل فعاليات السياسة العامة، ويقصد بذلك الاهتمام بالمشاكل العامة في المجال العام فيتم تعريف المشكلة في سياق الاحتياج المجتمعي العام سواء علي مستوي المجتمع العام او جماعة او الفرد، فيتلوها بدائل لكيفيه صياغة واختيار السياق العملي من اجل ترتيب اوليات المشكلة، ثم يتلوها بناء بدائل والاختيارات لصياغة قرار السياسة العامة بغرض حل المشكله، فيتلوها التنفيذ وتقويم التنفيذ، وهو الامر الذي يتطلب التواضع علي محكات ومؤشرات لاثبات صحة التنفيذ وفاعليته. بعبارة اخري، هذا النوع من التنوير يهدف الي التنوير من خلال الاشتراك في حل المشاكل العملية لان هذا النمط يسمح للمجال العام ان يفعل في مخرجات تنويرية للصالح العام في الواقع الملموس . هنا يمكن لاستراتيجيتي نقد النص او نقد النقد ان يثبتا نفسيهما كالايتين ناجعتين في ترشيد الحوار حول البدائل والمحكات والمؤشرات، علما ان دورة السياسات العامة هي دورة مركبة تحتوي علي عدد من النقاط المفصليه التي تسمح بالمراجعة واعادة التقويم للاختيار علي طول الدوره، الاستراتيجية الرابعة، التنوير من خلال نقد الممارسات الاجتماعية السلطوية العامه، وتنتمي هذه الاستراتيجية أيضا الي التنوير العملي، والذي يهدف الي بناء حركات احتجاجية تستهدف في المقام مصالح مجتمعية جزئية، والتي بطبعها وعند تجميعها تخلق سياقا عاما من الحركة. والانتقال من التجميع للمصالح الي الاطار العام للمصالح هو جوهر عملية التنوير الحركي. نقد الممارسات الاجتماعية لابد ان يقاد بمبادئ نظرية ذات محتوي تطبيقي، ويقصد بذلك انها مبادئ تسمح بالتفاوض والحلول الوسط والتمرحل، ولكن علي اساس نظرة ذات تصور نظري في سبيل بناء جمهور عام مستنير، بمعني جمهور قادر علي النقد والنقد الذاتي، الامر الذي يقول لنا ان التنوير العملي يخرج مفهوم الجمهور من اعتباره كتلة شعورية لها اتجاهات شعبوية الي مفهوم الجمهور الواعي الناقد المستهدف مصالح مدنية للمجتمع ككل، والاستراتيجية الخامسة، التنوير من خلال بناء نموذج اكثر حداثة للكتابة وللفعل معا، وهو النموذج الوحيد الذي يحمل في جوفه تفاعل القدرتين النظرية والعملية، بحيث تكون الكتابة فعلا والفعل كتابة، الامر الذي يولد جدل التنوير الشامل، المشكله ان هذا النموذج لا يمكن الوصول اليه بانقلاب سياسي او ثورة عسكرية كالتي شاهدناها في دول العالم الثالث بل من خلال بناء دولة مدنيه، فالاستراتيجيه الخامسه هي استراتيجية تطورية، ولكن تأتي في كثير من الاحيان في شكل غير سلمي، لانه ليس صحيحا عمليا او نظريا ان كل النظريات التطورية هي نظريات تعبر عن مناحي تطورية هادئة، بل لدينا نماذج من حالات تطورية صاحبها عنف وغضب شديد . اذا رتبنا استراتيجيات التنوير من حيث الشمول والفاعلية سنجد الاستراتيجية الخامسة هي الاعلي وتنزل تدريجيا الي الرابعة فالثالثة فالثانية في الاولي. في العالم العربي نلاحظ تعدد مظاهر من هذه الاستراتيجيات الاربع الاولي، فالتنوير في العالم العربي لا يعني من انسداد تاريخي و فشل تاريخي، ولكن من تمزق وتفتت وعدم اكتمال وعدم تكامل تاريخي. وهذا يتضح بشكل جلي من التعرف الاولي علي حالتي سوريا وتونس. وقد تعرفنا علي الحالة السعودية اوليا في المقال السابق. ويستمر التحليل.