كمدخل للحديث عن الحالة التونسية الحديثة والمعاصرة للتنوير في اطار مقارن لابد لنا ان نأخذ في الاعتبار عوامل التشابة ومقاديره المختلفة وعوامل الاختلاف وتجلياته المتغيرة بين الحالات المختلفة، اي بعبارة اخري ، ان استراتيجيتنا البحثية في المقارنة تتعامل مع ديناميات وعوامل التماثل والاختلاف في سياق بحثي واحد، وليس كاستراتيجيات معروفة اخري في علم نظم الحكم، التي تقيم التشابه من منظور الاختلاف او بالعكس تحسب الاختلاف من منظور التشابة. نحن هنا نعتبر كلا من العوامل التماثل والاختلاف مستقله بذاتها في مواجهة العوامل الاخري. الامر الذي يسمح لنا استنتاج مدي التشابة والاختلاف الحقيقي للحالة التنونسية مع الحالة السعودية، ومن بعده التشابه والاختلاف الحقيقي بين الحالتين السعودية والتونسية من جانب والحالة السورية من جانب ثان، فنصل في محصلة الامر الي صورة كلية لمدي اتزان ديناميات التفاعل التنويري لكل حالة من الحالات الثلاث. حددنا السؤال الاول في استراتيجتنا البحثية في البحث في العوائق التي تأسر الصراع الاجتماعي العام من اقامة اتصال مدني فعال بين الدولة والمجتمع. وللإجابة علي هذا السؤال صممنا ثلاث مجموعات من المتغيرات يتم الاستعلام عنهما، اولها مرتبطه بثقل التاريخ علي حياة الافراد والجماعات، وثانيها مرتبطه بحجم القوي المحافظة الساندة للنظام السياسي والتي تعطي له سمت الاستقرار والاستمراريه، وثالثها مرتبطه بقدرة العمليات السياسية الحالية علي تفادي الاجبار علي التغيير الشامل غير المرغوب. بعبارة اخري، الفرضية الاساسية ان الحاجة المجتمعية للتنوير ينبع من القدرة علي الاتصال المدني الفعال بين قوي الدولة وقوي المجتمع . بالنسبة لمجموعة المتغيرات الاولي المرتبطه بثقل التاريخ علي حياة الافراد والجماعات فلابد لنا ان نعلم ان منطق التنوير الذي يمهد للاصلاح فيقود الي الحداثة هو جزء لا يتجزأ من العملية التاريخية في بناء الدولة والمجتمع بتونس. وظهر هذا مع ثلاث شخصيات محورية في التاريخ التونسي، وهم: خير الدين التونسي ومحمد بيرم الخامس والشيخ سالم ابو حاجب. هذه الشخصيات اسمت بسمات كالتي ذكرهاعبد الرحمن الكواكبي في كتابه المشهور : "طبائع الاستبداد " عند قوله: "ان الحاكم المستبد يخشي العلم ... الحاكم المستبد لا يخشي علوم اللغة والاداب ولا علوم الدين المتعلقة بالعاد، بل هو يستخدم العلماء من هذا القبيل لتأييده في الاستبداد، يسد افواههم بلقيمات من فتات مائدته، انما ترتعد فرائصة من العلوم العقلية ودراسة حقوق الامم والعلوم السياسية والاجتماع والتاريخ المفصل والقدرة علي الخطابة ونحو ذلك من العلوم التي تنير الدنيا وتثير النفوس علي المظالم وتعرف الانسان ما هو الانسان وما هو حقيقته وكيف يطلبها وكيف ينالها وكيف يحفظها، فان المستبد سارق والعلماء من هذا القبيل يكشفون السرقة". في قول آخر، بدأت تونس تاريخها السياسي الحديث بوعي يلهب ظهرها سياط التنوير. بل يذهب حسونة المصباحي الي القول ان اشراقات قصة التنوير التونسي بدأت مع القس توماس الاقويني الذي نشأ ونما وترعرع في ارض تعتبر الان تونس في نهاية العصر الوسيط. بفضل خير الدين ومناصريه من الشيوخ العلماء امثال محمود قابادو وسالم بوحاجب ومحمد بيرم الخامس ومحمد التونسي وغيرهم استقبلت تونس الافكار المستنيرة ، فكان هناك تعاون وثيق بين رجال السياسة المناصرين للتنوير من خلال الاصلاح والاصلاح الديني الذي تمثل في قيادات من علماء الزيتونة. فانشأت مدرسة "الصادقية" للانفتاح علي علوم العصر، ساهمت هذه المدرسة علي تنوير الفكر الديني. ولكن لاسباب دولية متعلقة بالمسألة الشرقية والاطماع الاوربية وثقل طموحات التنوير فوق صدر النخبة التنويرية، لا نقل ان التجربة فشلت، ولكن نقول انها تراجعت للكمون لظرف اكثر مناسبة. واتي هذا مع نهاية القرن التاسع عشر مع ظهور الصحافة وبزوغ حركة الشباب التونسي هي حركة وطنية تونسية ذات طابع علماني. سعت أن تكون صوت سكان تونس الأصليين في وجه المستعمر. تكونت الحركة من خريجي المدرسة الصادقية الذين واصلوا تعليمهم بالخارج وفي مقدمتهم علي باش حامية" و"عبد الجليل الزاوش" وخير الله بن مصطفي إلي جانب زيتونيين مثل الشيخ" عبد العزيز الثعالبي. في 7 فبراير 1907 صدرت جريدة لوتونزيان، "التونسي" ، ورأس تحريرها علي باش حامبه. صدر آخر عدد منها في 13 مارس 1912 عندما حدثت مصادمات مع الجالية الإيطالية إثر حادث قتل تونسي علي يد مقيم إيطالي. في سنة 1912 أضرب التونسيين عن استعمال التروماي الذي كان تسيره شركة إيطالية. اسند الاهالي لجنة الإشراف علي الإضراب إلي علي باش حامبة. فواجهت السلطات الاستعمارية بقيام الاضطراب، فنفت زعماء حركة الشباب التونسي إلي الخارج او داخل البلاد، أعلنت السلطات الاستعمارية حالة الطوارئ التي رفعت بعد نهاية الحرب العالمية الأولي في سنة 1921. لم تعمر حركة الشبان التونسيين أكثر من خمس أو ستّ سنوات، لكنها جمعت نخبة تونسية، تحملت مسئولية الحديث باسم الأهالي والتعبير عن مطالبهم الإصلاحية. مهدت كتاباتها وأنشطتها وتضحياتها الطريق لتأسيس أول حزب سياسي بعد الحرب الاولي . وتبلور مشعل التحرر الوطني في نهاية الامر إلي آلية وطنية وهي الحزب الحر الدستوري التونسي بزعامة الشيخ عبد العزيز الثعالي الذي شاركت في تأسيسه ثلة من التونسيين جلهم ينتمي إلي حركة الشباب التونسي. ويستمر التحليل.