بقلم : د. جهاد عودة تهدف هذه السلسلة من المقالات الي بناء اطار منهجي جديد لتحليل العمليات التنويرية باعتبارها عمليات معيشية مطمورة في الواقع العملي الجزئي وفي كثير من الاحيان مفارقة او غير متبلورة بوضوح في حديث او متسلسله في مقولات التنويرية. يتبني هذا الاطار، الذي سوف نشرحه بشكل تفصيلي في المقالات القادمة، القول بان في العالم العربي انماط من التنوير، وكما قلت في مكان اخر وهو مجلة المصور الغراء عند بناء استرايجية لاستئناف التنوير المصري، بانه ليس هناك انسداد تاريخي في وجه التنوير. ربما كانت الرغبة العارمة في البحث عن نمط تنويري مسيطر شامل لكل البلاد العربية هو السبب في القول بان هناك انسدادا تاريخيا عربيا ضد التنوير. ولكن اذا رجعنا الي حقيقة ان العملية التاريخية التنوير نبتت في بيئات قومية متعددية، وساهمت فيه فئات من أصول مختلفة لغوية ودينية واجتماعية فظهر لنا مفهوم المجال الوطني للتنوير، باعتباره المجال الذي ظهرت وتلاقحت فيه العمليات التنويرية، ونمت وتطورت في ظل قيود معيشية ودولية محددة. بعبارة اخري ، يعبر التنوير عن اعادة اكتشاف الذات والهوية الوطنية بشكل يصل تحديد الحاجات اليومية بالعقل، ويصل العقل بالاخلاق باعتبارها قيما وآليات للتميز المعرفي والاجتماعي، ويصل الاخلاق بالممارسة المتوالية في واقع معين ، باعتبار الممارسة المتوالية هي الخالقة لنمط الحياة الحي المتجدد والمتغير والمجددة لعناصر ومكونات الهوية الوطنية. كل سياق وطني يصنع تفاعله الخاص لهذه السلسلة من المتواليات. بعبارة ثالثة، ان التنوير في العالم العربي يتسم بتعدد الخبرات الوطنية التنويريه ، وليس هناك زعم نظري ان هناك نقطة نهائية للتنوير، ولا زعم اخلاقي ان التنوير في العالم العربي علي نفس المستوي الذي نشاهده في البلدان الاوربية. فليس هناك زعم ايضا بان الخبرات التنويرية يمكن قياسها بمعايير التفضيل المطلق ، ولكن يمكن قياسها بشكل يعتمد الفاعلية السياقية كأساس للمقارنة. وسنفرد حوارا متعمقا لاشكالية قياس التنوير، الاختبارات ومحكات التي تبين ملامحه واحتمالات تطوره من منظور سياقي وطني. الهدف النهائي لهذا المشروع هو الوصول الي تصور لاستراتيجية للمقارنة بين الخبرات التنويرية العربية، لان الوصول الي هذه الاستراتيجية سيسمح تحديد الاختلاف والتكرار والتمايز والتشابه والتفرد في الخبرات التنويرية العربية . في هذا السياق سنفحص بعمق الخبرات التنويرية في ثلاث دول محورية في العالم العربي، وهي خبرات السعودية وتونس وسوريا. هذه الدول الثلاث تعتبر مركزا ثقافيا في منطقتها من الناحية التاريخية ، ومصدرا للخبره العملية والدولية والثقافية العامة. هذا فضلا عن ان اشكاليات التنوير خطت خطا مختلفا من دولة عن اخري من الثلاثة. النسبة للعربية السعودية ظهرت علي الساحة الفكرية متزامنة مع وهج الانفتاح الإعلامي العولمي- أطياف متعددة لرؤي تجديدية. كان من أبرز هذه الرؤي حضوراً هو " التيار التنويري " أو " العقلاني " ذو الثقافة والفلسفة الإسلامية، وقد حمل إرثه الإصلاحي طليعة من المثقفين السعوديين، وطرح الاشكاليات التالية: 1- أن هذا الفكر مازال جديدا لجيل الشباب ومعالمه مازالت لم تهضمها ثقافتهم وبناؤهم المعرفي السابق، مع شدة حماسهم لاطروحاته التجديدية، يبرز سؤال مدي الاستيعاب المجتمعي؟ 2 - الغلو في نقد المدرسة السلفية التقليدية وإظهار جمودها وانغلاقها علي الواقع المعاصر مما حدا بكل الناقمين عليها والمخالفين لها أن ينتظموا في خندق هذا التيار مع تباين أطيافهم وانتماءاتهم الفكرية، ويري البعض بانه لولا النقد للسلفية بتجلياتها المجتمعية وردة الفعل من المقابل لما اجتمعوا علي هذا التيار في الخندق؟ 3- الصراع بشان الاعتماد في تفسير النصوص الشرعية والأحكام الثابتة علي العقل المجرد والمصلحة الذوقية وتأويلها وتنزيلها علي الواقع من خلال هذه الرؤية باعتبارها الأوفق لحياة الناس المعاصرة ، هذا فضلا عن زياده نقد الكثير من القواعد الأصولية بحجة تضييقها لمساحة المباح والعفو في الشريعة الإسلامية؟ 4- الدعوة لتجديد الفكر الإسلامي وتأطيره من جديد ، وربط النهضة بالمشروع الحضاري الشامل بالمفهوم الحداثي المعاصر؟ 5 - نقد التيارات الإسلامية الحركية من غير تمييز واتهامها في مقاصدها بتسييس الدين لصالحها ووصمها بالانتهازية وربطها أحيانا بالعمالة لدول أجنبية؟ 6- مدي الاحتمال المجتمعي في التأكيد المستمر علي خيار الديمقراطية في الإصلاح ، والعمل علي إقامة دولة المؤسسات وتحقيق مفهوم المجتمع المدني من خلال المنظار الليبرالي التقدمي ؟ 7- نشر الدعوة ل" الإسلام المستنير " كمخرج من الجمود والتقليد الذي تعيشه بعض المجتمعات الإسلامية الخليجية وكمفهوم للدين يتوافق مع ديمقراطية الغرب ومباديء المجتمع المدني ، فيبرز السؤال حول قابليته للتشكل لأي صياغة ليبرالية تطلبها توازناتهم المعقده؟ 8- تجلية التاريخ الإسلامي- بدأ من عهد الخلفاء الراشدين بدراسة سلبياته وإيجابياته وأسباب انحرافاته السياسية والفكرية, وتمجيد الأفكار والحركات الباطنية والاعتزالية والفلسفية كنوع من التحرر الفكري والنهوض الثوري في وجه الرجعية التراثية ، فهل يتطلب الامر فهم جديد يتجاوز هذة القطبية؟ ونتابع التعريف الاولي لحالتي تونس وسوريا المقال القادم.