انتهينا الي ان استراتيجيات التنوير في العالم العربي خمس استراتيجيات والاخيرة تتمثل في التنوير من خلال بناء نموذج عام اكثر حداثه في الكتابة والفعل يدا بيد، اي في قول اخر، يقصد بها القدرة المجتمعية الشاملة للتعبئة والممارسة المستمرة وبالتالي التراكم المتصل من اجل التنوير والحداثة. في اطار التعرف علي الحالات الثلاث للمقارنة تم التعرف الاشكالي الاولي علي حالة التنوير في السعودية ، الان نتحول الي الحالة التونسية والحالة السورية . علي اساس هذا التعرف سنبدأ في بناء سلسلة من المقولات النظرية والعملية القائمة علي الفحص النقدي من اجل بناء تنميط لحاله التنوير في العالم العربي آخذا هذه الحالات الثلاث كمداخل ودلائل ومؤشرات. بالنسبه للحالة التونسية فنلاحظ انها أولا من انضج الحالات العربية مع استبعاد الحالة المصرية لانه يتم التعامل معها في مكان آخر، كما انها الاكثر تاريخية في التعامل مع اشكاليات التنوير واستراتيجياته، ولكن ليس بالضرورة الاكثر نجاحا في الوقت الحاضر ولكن لديها بالتأكيد الطاقات الكامنه لتكون النموذج الاعلي والمثال العربي العام . ربما كان الباحث السوري المقيم بباريس هاشم صالح من أكثر المعجبين العرب بمدرسة التقاليد التنويرية التونسية، والذي قال عنها في 12- 8 - 2009 في احد حواراته: ".. هناك "المدرسة التونسية" التي تعمل علي تخفيف الإسلام من كل هذه الأثقال التي ترهق الإنسان المسلم وتشده عن الانخراط في العالم". علي اية حال المدرسة التونسية هي مدرسة برزت وتراكمت في مجالي نقد النص والسياسات العامة ، وخفتت بشكل كبير بالنسبة لمجالي النقد من ناحية، وبناء حركة سياسية اجتماعية للتنوير، من ناحية ثانية، الامر الذي ادي الي سيتضح خلال التحليل المتعمق فيما بعد لمسألة الحداثة التنويرية كحركة مستمرة ومتصلة ومتراكمة. في تونس خلال فترة "الحبيب بورقيبة" (حكم بين 1956 - 1987) الرئيس الأول لتونس، ورائد "رائد الحداثة التونسية"؛ تميزت بسمتين مستمرتين : اولاهما، هيكلة مؤسسة جامع الزيتونة الشبيه للازهر في مصر ، ثانيهما، وضعه لمجلة الأحوال الشخصية (قانون الأسرة) عصري علي اساس غير تقليدي. غير أن حداثة بورقيبة توصف بأنها "حداثة" نظام سلطوي قائم علي حزب واحد مع استبعاد خصومه السياسيين؛ حيث بدأ الاستبعاد السياسي في مواجهة اليسار التونسي منذ بداية الستينيات ممثلا بحركة آفاق (تجمع الدراسات والعمل الاشتراكي التي تأسست بباريس سنة 1963) ثم توسعت الدائرة التي شملت الحركة النقابية فيما عرف بالمواجهة مع الزعيم النقابي الحبيب عاشور في أواخر السبعينيات، ثم شهدت بداية الثمانينيات حملات امنية متتالية ضد الإسلاميين، خاصة حركة "الاتجاه الإسلامي بتونس" (تأسست في يونيو 1981) والتي تحولت فيما بعدت إلي حركة النهضة التونسية وخاصه في ضوء تأثرها باتجاهات اقليميه انقلابيه ورغبتها في تغيير المعالم الاساسية للحداثة التونسية. وفي الفترة نفسها -الثمانينيات- بدأت تخرج إلي العلن أولي الدراسات التي تنتمي إلي "مدرسة الإسلاميات التونسية" في شكل مقالات وبحوث متفرقة علي أعمدة مجلة "حوليات الجامعة التونسية" (تأسست سنة 1963) وهي النشرة التابعة لكلية الآداب، وظهرت هذه الأبحاث الأولي من قبل أساتذة كلية الآداب والعلوم الإنسانية بمنوبة، والتي تعتبر أحد المعاقل الرئيسية التابعة للفصائل الفكرية التنويرية مستفيدة من آليتين: الأولي: "علمية بحتة"، وهي تبني اليسار الطلابي مبدأ الحرية الفكرية، وضرورة ضرب عقلية التحريم الديني وكسر "الثالوث المحرم"، علي حد تعبير "ياسين الحافظ"، في مواجهة خصمها السياسي الذي بدأ يبث ما تعتبره "دراسات ومفاهيم ماضوية" في المجال الجامعي ، خاصة الاتجاه الإسلامي بفروعه الطلابية الناشئة آنذاك في الجامعات التونسية. وأما الآلية الثانية: فهي توظيف السياق السياسي في الصراع بين الإسلاميين وبورقيبة من أجل توسيع رقعة ما يسمي في الأدبيات البحثية "بالحفر في التراث"، لانه لا تنوير من غير كشف عميق لحدود التراث وقيوده. علي هذا الاساس تم بناء التحالف السياسي - الأكاديمي بين النظام السياسي التونسي و"مدرسة الإسلاميات" . يقول "عبد الرزاق الحمامي" الأستاذ الجامعي في كلية الآداب بمنوبة عن هذا المنعطف السياسي والأكاديمي الذي شهدته الجامعة التونسية: "برز اتجاه أكاديمي حفل بدراسة الإسلام في مجال التاريخ والفلسفة وعلم الاجتماع والحضارة، وأسهمت هذه الدراسات إلي جانب ما أنجزه الزيتونيون في بلورة مدرسة تونسية في دراسة الفكر الإسلامي متعددة الاختصاصات تعتمد مناهج العلوم الإنسانية قاطبة، وتنظر إلي الإسلام من زوايا متعددة في ظل الحياد والموضوعية لتحقيق نتائج تبدو فريدة في الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر"، ويضيف الحمامي رابطا بين ولادة هذه المدرسة ونظام الرئيس بن علي القابض علي جمر وراعي تنوير النص والسياسات العامه ، داعيا في نفس الوقت إلي مضاعفة الجهود. ونستمر في التحليل.