"صفعة" كانت كفيلة بإيقاظ العرب من سباتهم وحضّهم على المطالبة بحقوقهم ووضعهم داخل ساحات وميادين "التغيير" وجهاً لوجه أمام الطغاة. هي رياح لفحت المنطقة وثورة غيرت معالم الخريطة السياسية للعالم العربي، قادها محمد البوعزيزي بكرامته التي فضّل أن يصونها على الخضوع والخنوع امام من استهتر بدم الشعب التونسي. قبل أشهر عدّة لم يكن ذاك البلد القابع على الساحل الشمالي للقارة الإفريقية سوى منتجع لرجال الأعمال ومكان يحاول السياح التعرف على حضارته، لم يكن أحد يدرك آلام التونسيين والظلم الذي عانوه من حكم دام أكثر من ثلاثة عقود، تنكيل بالمعارضين والمفكرين وأصحاب الرأي، شعب يعيش على هامش الحياة وإزدياد في المعاناة الإقتصادية، مقابل إطلاق للحريات الإجتماعية ولو بصورة شكلية. هكذا كان المشهد التونسي قبل أن تفوح رائحة " ثورة الياسمين" لتذكّر أبناء قرطاجوتونس وصفاقس وغيرها ب " إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بدّ أن يستجيب القدر". بدا الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي أقل الحكّام جشعاً وطمعاً بالسلطة لكن الصورة سرعان ما توضحت معالمها، فأطنان الذهب التي حمّلت لحظة هروبه إلى السعودية وفساد عائلة بن علي وأقرباء زوجته ليلى الطرابلسي قلبوا الرأي العام العربي والدولي على من كانوا يعتبرونه حتى الأمس القريب شريكاً في محاربة "الإرهاب"، ولم يجد الرئيس المخلوع، بعدما رفض القادة الأوروبيون وعلى رأسهم فرنسا استقباله على أراضيها سوى الحضن السعودي الذي أسماه البعض ملجأ الرؤساء الهاربين بعدما عرضت الرياض على الرئيس المصري حسني مبارك إستقباله لحظة إندلاع ثورة "25 يناير"، ليمضي أيامه بمعاناة نفسية داخل قصور "الاوهام". مرحلة جديدة تقف تونس على أعتاب مرحلة جديدة تتحدد معالمها وفق إرداة الناخبين الذين يتوجهون إلى صناديق الإقتراع في انتخابات تاريخية، نتائجها غير معروفة سلفاً للمرة الاولى، لإنتخاب 217 عضواً في المجلس التأسيسي الأول بعد بن علي. وبين الأحزاب الإسلامية والتيارات النقيضة لأفكاره يقرر التونسيون أين ستميل دفة الميزان. ويرى بعض المراقبين في هذه الإنتخابات قفزة في المجهول في حين يعتبرها آخرون فصلاً بين عهديّ الإستبداد والديمقراطية. وأهمية هذا الحدث ليست خافية بالنسبة إلى "الربيع العربي"، فنجاح الانتخابات في تونس مهد الإنتفاضة من فشلها، سيشكل إشارة حاسمة لباقي الشعوب العربية التي ثارت على الإستبداد بعد نجاح الثورة التونسية. وتتمثل مهمة النواب المنتخبين في وضع دستور جديد يحل محل دستور العام 1959 وتولي التشريع وتقرير السلطات التنفيذية خلال المرحلة الانتقالية الثانية التي تلي الانتخابات ولحين تنظيم إنتخابات جديدة في ضوء الدستور الجديد. ويتمّ الإقتراع بنظام اللوائح النسبية، وهو نظام أختير بهدف توفير فرص أفضل للتشكيلات السياسية الصغيرة ولقطع الطريق أمام هيمنة حزب واحد على البلاد مجددا.ً الإسلاميون تركّز التيارات الإسلامية التي وبحسب المراقبين لا تنال التأييد الشعبي المطلق أو حتى الأغلبية التونسية كما هي الحال في مصر أو في ليبيا، على تاريخ نضالها ضد النظام السابق وما رافق ذلك من تهديد لكوادر الأحزاب الإسلامية وقمع منذ الإستقلال عن فرنسا. وتحت عنوان "الإنتقام من الديكتاتورية" يحضّ رئيس الهيئة العليا للإنتخابات والمعارض التاريخي لحكم بن علي، كمال الجنبودي التونسيين على المشاركة بكثافة للتعبير عن رأيهم. ومن أهم الأحزاب المرشحة، حزب "النهضة" الذي حصل على ترخيص العمل القانوني بعد الثورة، وأعاد تنظيم صفوفه سريعا معتمداً على إمكانيات مادية مهمة يؤكد أنها تعود لكثرة أنصاره وسط اتهامات من خصومه بتمويل خارجي خليجي اساسا. ويقدم " النهضة" الغائب عن المشهد السياسي التونسي العلني منذ سنوات، نفسه خلال الانتخابات في صورة حزب "الايادي النظيفة" و"الحامل لقيم واخلاق" بعد عهد بن علي الذي تميز بالعنف والفساد. وهو يعلن قربه من النموذج الاسلامي التركي. وقد سعى للطمأنة واعدا بالخصوص بعدم المس بقوانين المرأة. الحداثيون وفي المقابل بدا "الحداثيون" القلقون من المساس بالحريات ومن سرقة النصر على الديكتاتورية بعد نضال إستمر سنوات ضد بن علي، منقسمين. ولم ينجح الحزبان المتننافسان التكتل من اجل العمل والحريات بزعامة مصطفى بن جعفر والحزب الديمقراطي التقدمي بزعامة احمد نجيب الشابي، في الاتفاق على اقامة جبهة ضد الاسلاميين. وفي حين يؤكد حزب الشابي خلال حملته انه مستعد للتحالف مع اي طرف "باستثناء النهضة" فإن حزب بن جعفر يفضل إنتظار نتائج الإنتخابات للتفاوض ويرفض الاستقطاب الثنائي في الساحة السياسية التونسية. من جهته دعا "القطب الديمقراطي الحداثي" وهو تحالف من خمسة تشكيلات حول حزب التجديد (الشيوعي سابقا) الى اليقظة في مواجهة الاسلاميين وأيضا أنصار الحزب الحاكم سابقا، ورفض فكرة أي تحالف قبل الإنتخابات. ويراهن انصار الحزب الحاكم الذي كان تم حلّه في آذار الماضي بقرار قضائي، على وجودهم لعقود بلا منازع في دواليب الدولة وشكلوا عدداً كبيراً من الأحزاب تناهز الأربعين من نحو 120 حزباً سياسياً في تونس. ثورة ثانية ويؤكد هادي التونسي المقيم في لبنان بأن "لا خوف من الإسلاميين إذا وصلوا إلى الحكم فممارسات بن علي كانت فظيعة إلى حدّ لا يطاق، والإسلاميون هم الفئة الأكثر تضررا على مدى عقود متواصلة". وبالنسبة إليه فهو يرى بزعيم حركة "النهضة" راشد الغنوشي رجلاً قادراً على نقل تونس إلى مرحلة الديمقراطية والتطور والإنفتاح، كما أنه يريد أن يطبق النموذج التركي الذي إتبعه حزب "العدالة والتنمية" بزعامة رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان في تركيا. وأشار إلى "أنه سعيد بالثورات العربية لأن الوقت قد حان للتحرر من الطغاة والسير على نهج الدول الغربية"، ويعتبر أن "هذه الإنتخابات الأولى التي لا تعرف نتيجتها مسبقاً، فقد إعتدنا في السابق بأن يفوز حزب الرئيس بالإنتخابات وبنسبة خيالية تصل إلى 98 في المئة". ويتابع " نشعر بالحماسة وسنصوت ونبدي رأينا ونتمنى الخير لتونس لأن تجربتها ستشكل دافعاً لكل الشعوب من أجل الإنتفاض لإستعادة كرامتهم". وتعتبر التونسية رافيت غريتلي أن " الإنتخابات هي أهم نقطة في التحول الديمقراطي ولذلك نرى الحماس لدى الشباب التونسي"، ولكنها لم تخف خوفها من تكرار تجربة الجزائر مع الإسلاميين والحرب الأهلية التي إندلعت قبل وصول بوتفليقة الذي برأيها لم ينجح في تعزيز وحدة أبناء بلده بل إعتمد سياسة القمع، وتضيف "لست خائفة من وصول الإسلاميين إلى الحكم فبعد الثورة باتت الاحزاب كافة تدرك أن للشعب صبرا قد ينفد في أي لحظة، إذا ما انحرف القادة عن المسار الديمقراطي الذي سقط من أجله الشهداء"، وتؤكد أن "الشعب التونسي مستعد للنزول مرة جديدة إلى الشارع، لا يمكن أن نقبل بحكم ديكتاتوري تحت أي شعار كان، هذا مستحيل مستعدون لان نُحرق ونموت في سبيل الوصول إلى هدفنا" وختمت " نحن شعب يستحق الحياة، وهذا استحقاق مهم ومن واجبنا كمواطنين أن نثبت أن ثورتنا عظيمة ومن يحاول التعدّي عليها سينال عقابه". وتبدو تونس في أبهى حللها إستعداداً للإحتفال "بعرس الديمقراطية" الذي انتظره أبناء قرطاج منذ عقود، في ظل حماسة غير معهودة ومنافسة يتوقّعها الكثيرون أن تكون نموذجاً يحتذى به، فغداً إمّا تحيا الثورة وتكون عبرة لباقي الدول الثائرة، وإمّا تترحم تونس على أيام بن علي وأتباعه. ومهما كانت نتيجة الإنتخابات فالتصويت غداً يبقى تجربة ديمقراطية ناجحة بكل المقاييس.