من بين ما أثبتته وثيقة الفاتيكان التي تجعل الكنيسة الكاثوليكية هي الوعاء الوحيد الصحيح للعقيدة والعبادة المسيحيتين أن السلفية بمعني إحياء خلافات الماضي وصراعاته السابقة علي عصور التنوير والثورة الصناعية والحداثة ليست ردة مقصورة علي أجزاء العالم الواقعة خارج أوروبا والولايات المتحدة أي الأجزاء التي لم تدخل بعد بالكامل الي التنوير والتصنيع والديمقراطية. هي إذن ظاهرة تاريخية عالمية تشمل المتقدمين وتشمل المسيحيين والمسلمين واليهود وتزدهر أيضا عند أصحاب الديانات غير السماوية كالهندوس الذين تذكروا بعد ما يقرب من عشرة قرون أن المسلمين غزاة وأن التاريخ يجب أن يصحح مساره بإعادة بناء معبدهم مكان مسجد بابر وهناك أيضا السيخ في الهند نفسها و الفالونج في الصين والشنتو في اليابان.. إلخ. علما بأننا لا نرفض التدين ولكن نتحدث عن الصراع تحت عباءة الأديان. فإذا كانت السلفية, بمعني إحياء صراعات الماضي ذات الأصول الدينية لتتصدر قضايا السياسة والاجتماع وطنيا ودوليا قد صارت بهذا القدر من الشمول والعالمية فلابد من البحث عن تفسير لها يتسم أيضا بهذا القدر نفسه من الشمول والعالمية دون إغفال التفسيرات الثانوية الخاصة بكل ثقافة علي حدة أو كل دين بعينه أو كل دولة أو دائرة حضارية بذاتها وعلي الأرجح فإن هذا التفسير لابد أن يبدأ من رصد الأسباب التي جعلت تلك الخلافات والصراعات القديمة تتواري أو تحتل مكانة ثانوية في اهتمامات البشرية في القرنين أو القرون الثلاثة الأخيرة. طوال تلك الحقبة شغلت البشرية وسيطرت علي حركة التاريخ التحديات الضخمة التي فرضتها الثورة الصناعية ومقدماتها من الكشوف الجغرافية إلي ظهور البرجوازية فانهيار الاقطاع وتبلورت ثلاث قضايا كبري مترابطة دائما ومتعاقبة أحيانا, وهي: - قضية الحرية السياسية أو الديمقراطية - وقضية العدالة الاجتماعية - وبجانبهما قضية الوحدة القومية والتحرر الوطني لمتخلفين كانت هذه القضايا الثلاث هي مصادر الإلهام للفكر السياسي الحديث ومحور حركة التاريخ والنخب والجماهير كما أنها كانت مرتبطة بوقائع ومصالح الحياة اليومية للأفراد والطبقات والمجتمعات ومن ثم أصبح النضال الإنساني من أجلها عامل توحيد للاتجاهات والأفكار تأييدا ورفضا فالديمقراطي الكاثوليكي يري الديمقراطي البروتستانتي حليفه في النضال ضد الرجعيين من كلا المذهبين والاشتراكي المسلم يري الاشتراكي غير المسلم حليفه في النضال ضد الاستغلال بصرف النظر عن الانتماء الديني للمستغلين بكسر الغين وفتحها.. وهكذا فالمناضل من أجل تحرير وطنه من الاستعمار الأجنبي أو توحيده يري أن الوحدة مع بني الوطن المناضلين من أجل الاستقلال والتكامل القومي أولي من الوحدة مع أتباع دينه الذين يناصرون المستعمر, أو لا يؤمنون بقضية القومية والاستقلال. أين موقع هذه القضايا الكبري الآن من حركة التاريخ؟ لقد نجحت البشرية وبمعني أدق القوي الفاعلة التي تقود التاريخ في تسوية كل هذه القضايا علي النحو الذي حقق الغايات المرجوة, وبصياغة أخري فقد أنجزت البشرية الثورات الثلاث الكبري, الديمقراطية, والاجتماعية والوطنية, وكان انهيار الاتحاد السوفيتي هو الإعلان النهائي للانتصار في هذه الجبهات الكبري الثلاث ذلك أن هذا الانهيار كان يعني زوال أكبر كتلة عالمية تحتضن الاستبداد السياسي, والقهر القومي باسم العدالة الاجتماعية, ومن ثم انتصر النموذج المزاوج بين الديمقراطية السياسية والعدالة الاجتماعية فيما يعرف باسم الدولة الوطنية للسوق الاجتماعي ومع انتهاء الحرب الباردة لم يعد أمام الغرب الديمقراطي الاجتماعي مسوغ للاستمرار في مساندة نظم رجعية وعنصرية ومستبدة لمجرد أن السوفيت يناصرون خصومها, وهكذا اكتملت أيضا حركة التحرر الوطني من الاستعمار الذي انبثق عن الثورة الصناعية ومقدماتها بسقوط النظام العنصري في جنوب افريقيا, مع استمرار الجيب الاستعماري في الأراضي الفلسطينيةالمحتلة بعد عام1967. بالطبع ليس كل شبر في الكرة الأرضية تسوده الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وبالطبع نحن ندرك مثل غيرنا أن منجزات حركات التحرر الوطني مهددة بمخاطر كبيرة من الداخل والخارج معا ولكن الاتجاه العام في كل هذه الميادين قد حسم وبلا رجعة بحيث أن ما يتبقي هو مسألة وقت علي الإصلاح الديمقراطي في مناطق مثل الصين والدول العربية.. وغيرها وبحيث أن عملية إعادة إنتاج الاستعمار التقليدي قد سقطت سقوطا مزريا في العراق علي سبيل المثال. نعود فنلخص: فلقد نجحت البشرية في تسوية المعضلات الكبري التي فرضتها الثورة الصناعية والتي أدت طيلة القرون الأخيرة إلي اختفاء أو تضاؤل أهمية الصراعات السابقة عليها وكانت في أغلبها صراعات دينية ثقافية ولم تكن هذه الصراعات قد وضعت لها تسويات نهائية مقبولة من أطرافها وكل الذي حدث هو أنها جمدت أو أجلت بسبب التحديات الجديدة التي قلنا إنها انبثقت عن الثورة الصناعية وعليه فإن عودتها للظهور الآن بكل هذا الاتساع والإلحاح تبدو طبيعية في غيبة إيديولوجيات جديدة مجمعة للاتجاهات السياسية وملهمة لحركة التاريخ والجماهير وهذه شهادة أيضا بإخفاق كل الأيديولوجيات حديثة الاختراع في العقدين الأخيرين كالعولمة أو صراع الحضارات أو ما بعد الحداثة وتقدم وثيقة الفاتيكان التي بدأنا الحديث بها الدليل الدامغ علي ذلك الفش, فعلي سبيل المثال تري نظرية صراع الحضارات أن الكاثوليك والبروتستانت ينتمون إلي دائرة حضارية واحدة موحدة في مواجهة بقي الدوائر كالأرثوذكس الروس والمسلمين وبقية الآخرين في حين أن وثيقة الفاتيكان تري أن التناقض الأساسي إلي حد نفي الصفة الكنسية كلية هو مع البروتستانت وليس مع الأرثوذكس. المعني أن البشرية تعيش في طورها الراهن مرحلة فراغ أيديولوجي كما أنها تعاني أزمة قيادات فكرية وسياسية قادرة علي وضع حلول عملية بغض النظر عن الأيديولوجيات للتناقضات المتبقية من فترات الاستبداد والاستغلال والاستعمار كما هو الحال في فلسطين مثلا كقضية وطنية أو كما هو الحال في مشكلة الفقر في إفريقيا لتجد هذه التناقضات وغيرها في تراث الماضي الديني والثقافي مصدرا ومبررا للتعصب والتطرف والعنف الأمر الذي ينشر العدوي في بقية أنحاء العالم ثم وهذا هو الأهم فإن العالم لا يزال يعاني منذ عصر التنوير والثورة الصناعية الديمقراطية العلمانية الافتقار إلي إطار نظري ومنهج عملي يحقق للبشر التوازن بين ما هو روحي وما هو سياسي ومادي.