تابعت عن قرب قمة العرب الأخيرة بالعاصمة القطرية, التي جاءت في ظروف استثنائية يمر بها العالم العربي, حيث الإطاحة خلال العامين الماضيين بعدد من القادة من أمثال حسني مبارك, ومعمر القذافي, وزين العابدين بن علي, وعلي عبدالله صالح, واستبعاد بشار الأسد, وحيث المخاوف التي تنتاب عددا آخر من القادة, وحيث غياب البعض الثالث, إما لظروف المرض, وإما لعدم الاهتمام لعدم الجدوى. إلا أنه وفي كل الأحوال, وحتى إذا تبدلت كل الأسماء والوجوه, فقد بدا واضحا أن القضية الفلسطينية سوف تظل القاسم المشترك في كلمات القادة, وتظل الجملة العتيقة دولة فلسطين وعاصمتها القدس الشريف هي حجر الزاوية في هذه الكلمات, حتى إن كان بعض من يرددونها ربما لا يعرفون موقع القدس على الخريطة, وبالتالي فقد لا تدرك الأغلبية كيفية تنفيذ ذلك, ومن هنا لا نرى على الأرض أي تحرك على هذا الصعيد, سياسيا كان أو عسكريا. وعلى الرغم من أن القادة العرب يلتقون في قمم من هذا النوع على مدى 67 عاما- أي منذ قمتهم الأولى في أنشاص عام 1946- فإن ما تحقق بين دولهم ودويلاتهم من تكامل على أرض الواقع, قد لا يتناسب مع حجم ما ينفق على هذه القمم, على الرغم من العوامل المشتركة والروابط التي حباهم الله بها, من حيث وحدة التاريخ والجغرافيا واللغة والدين والأصول والفروع والأنساب, وحتى التقاليد والأعراف والثقافات. فمازالت حركة الشعوب في الانتقال بين دولة وأخرى تحتاج إلى كثير من الجهد والأختام, ومازالت حركة التجارة البينية تحتاج إلى الكثير من الإخلاص, حيث لم تتعد 10% من المعاملات مع الآخرين, ومازالت العملات في دول العالم العربي بعدد هذه الدول, بل مازال في النفوس الكثير خاصة بين القادة, على الرغم من حرارة اللقاء, وسخونة القبلات والأحضان.. إلا أن ما يثير التفاؤل هو أن الشعوب مازالت قلوبها تنبض بالعروبة, وعقولها ترنو إلى التكامل, أملا في استقلال حقيقي, بمنأى عن الوصاية أو التبعية. فحين الحديث عن قضية فلسطين, لن تجد أبدا في الخطاب الرسمي العربي من يتحدث عن حرب, أو حتى سلام, وبالتالي لن تسمع أي ذكر لدعم المقاومة الفلسطينية على سبيل المثال, أو حتى ضغط سياسي لتحرير فلسطين من خلال المفاوضات, أو من خلال تنبيه أصدقاء إسرائيل إلى أهمية هذه القضية, أو أهمية إيجاد حل لها, ومن هنا تحولت هذه القضية إلى مكلمة في الميكروفونات, وتحصيل حاصل في البيانات والتوصيات, مع انشغال كل عاصمة عربية على حدة بقضاياها الداخلية الشائكة, وأهمها تلك الفجوة الواسعة بين الحكام والشعوب, وتوارت قضية العرب الأولى, حتى أمام المنظمات الدولية, مما جعل دولة الاحتلال تفرض المزيد من سياسات الأمر الواقع على الأرض, ببناء مزيد من المستوطنات, واعتقال مزيد من الأبرياء, وسفك مزيد من الدماء, ولم نعد نملك سوى بيانات الشجب والاستنكار, وأقصى أمانينا هو أن تشجب المنظمات الدولية وتستنكر هي الأخرى, دون استخدام حق فيتو من هنا أو هناك. وحين الحديث.. عن استثمارات عربية, فسوف نجد أن الجزء الأكبر منها قد ذهب بغير رجعة إلى دول غير عربية, بمقدار 14 تريليون دولار سواء من خلال العواصم أو الأشخاص, والتي كان يمكن أن تجعل من التنمية في عالمنا العربي نموذجا لو تم استغلال نصفها أو ربعها بالداخل, وهو الأمر الذي كان يجب أن يتصدر جدول أعمال أي قمة عربية, أو أي تجمع عربي من أي نوع, إلا أن أمر التكامل العربي قد توقف عند وديعة هنا أو صندوق للدعم هناك لإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل السقوط الذي يمكن أن يلقي بظلاله على الجميع, ومن هنا كانت دعوة الشيخ حمد بن خليفة, أمير قطر, في كلمته للقمة إلى ضرورة دعم مصر في هذه المرحلة العصيبة التي تمر بها, وكان من المهم أن يبرر ذلك أيضا بأن مصر قد وقفت في السابق مع الجميع, ولها فضل على الجميع, ولها أياد بيضاء على الجميع في محاولة لإقناع الحضور بأهمية هذه الدعوة التي يشكر عليها, في كل الأحوال, في ظل هذه الظروف التي تنكر فيها البعض لمصر وأهلها لأسباب مختلفة. إلا أن الحديث عن مصر, هنا, سوف يفتح ملفا في غاية التعقيد الآن, وأخطر أوراقه هو ما حذر ونبه إليه الرئيس محمد مرسي في كلمته من التدخل في الشأن المصري, في إشارة بالغة إلى أن هناك بين الدول المشاركة من يحاول ذلك, بل من فعل ذلك, وهي حقيقة واضحة سواء بدعم مادي للغوغاء ومثيري الفوضى, أو بإيواء مارقين, أو بالتطاول على القيادة السياسية بها, وكلها أمور غريبة عن العلاقات العربية العربية, وبصفة خاصة حينما يتعلق الأمر بمصر, التي سوف تظل ركيزة الأمن القومي العربي مهما اعتراها من عثرات, ومهما كان الآخرون يرون في القوى العظمى ملاذا آمنا من النكبات, أو في مواجهة التهديدات الإقليمية والدولية, وذلك لأن مصر هنا تنطلق من مسئوليتها التاريخية والعربية والدينية, أما الآخرون فلديهم حساباتهم المتعلقة بالمكسب والخسارة, والمرتبطة بلعبة التوازنات, وهو الأمر الذي لم يعه حتى الآن, أطفال وعملاء وبلهاء, دفعوا بالمنطقة إلى حافة الخطر. ولأنه.. لم يعد هناك الكبير أو من يقوم بدور الكبير في حل النزاعات العربية بعيدا عن ساحات المحاكم والتحكيم, فقد حملت دولة قطر على عاتقها أيضا محاولات التوفيق والتوافق من خلال إمكاناتها المادية الهائلة, وجاءت دعوة الأمير لعقد قمة مصغرة بالقاهرة بين الفصيلين الفلسطينيين المتناحرين لتأكيد هذا الدور, وإن كان اختيار القاهرة هنا لاستضافة هذه القمة كاعتراف بأهمية الدور المصري نحو هذه القضية تحديدا, إلا أنه لم يظهر في الأفق ما يشير إلي محاولات من أي نوع لاحتواء الموقف بين القاهرة وعواصم أخرى انتاب العلاقات معها بعض الفتور فيما بعد الثورة, نتيجة ممارسات لم تكن متوقعة, أو ليس هناك ما يبررها, بل إن الأمور آخذة في التفاقم مع تأكيد معلومات تتحدث عن تهريب أموال مصرية طائلة إلى إحدى هذه العواصم عقب الثورة, علاوة على استضافة هاربين يجاهرون بالعداء للسلطة بل التخطيط للنيل منها. ولذلك.. فإن قرار إنشاء مجلس أمن عربي لحل النزاعات العربية لا يمكن أن يكون أبدا وسيلة مثلى, في ظل ما ينشده المواطن العربي من علاقات قائمة على الثقة المتبادلة, والأخوة, والمصير المشترك, وإلا فإن روح العداء سوف تتفاقم من خلال ساحات حل النزاعات هذه, وتظل الأموال العربية في حالة هجرة دائمة, وخاصة إذا علمنا أن الفوائض المالية في موازنات دول الخليج العربي (موازنات عام 2013 -2012) من المنتظر أن تزيد على 300 مليار دولار متأثرة بأسعار النفط المرتفعة وزيادة الصادرات النفطية, ناهيك عن أثر هذه الحالة على استقدام العمالة من الدول التي تعتمد في موازناتها على تحويلات مواطنيها من الخارج, وأثر ذلك أيضا على زيادة التوتر بالمنطقة, وحدة نبرة الخطاب الإعلامي المستخدم الآن, مما سمح للمزايدين من المشارب المختلفة باستغلال الموقف أسوأ استغلال لأغراض شخصية أحيانا, ولخدمة أهداف خارجية في معظم الأحيان. يجب أن نعترف بأن الموقف العربي من الأزمة السورية, وحتى بعد إقرار تمثيل المعارضة السورية في القمة, مازال يكتنفه العديد من اللغط, وذلك لأن هذا التطور لم ينل إجماعا من القادة, أو من جميع الدول الأعضاء بجامعة الدول العربية, حيث رآه البعض تسرعا ينذر بعواقب وخيمة مستقبلا على دول أخرى, قد ترى المعارضة فيها أنها الأحق بتمثيل بلادها, بينما رأى البعض أن عمليات المصالحة على الساحة السورية كان يجب أن تبذل جهودا أكبر, إلا أن الدعوة إلى تسليح المعارضة هناك جاءت هي الأخرى بمثابة قفز على كل هذه المحاور, لتؤكد أن الأزمة السورية سوف تدفع خلالها كل الأطراف ثمنا باهظا من الدماء, والأرواح, والدمار, في حال استمرت هذه الأزمة داخل الأراضي السورية فقط, والسؤال الآن هو: ماذا لو تعدت الأزمة الحدود إلى دول أخرى مجاورة؟!.. كان من المهم مع التطورات الدولية في علاقات التجمعات الإقليمية, ومع ما حدث في منطقتنا تحديدا من تطور بالغ الأثر على الحكام والمحكومين في آن واحد, أن يبدأ التجمع العربي صفحة جديدة من علاقات قائمة على الإحساس بالمسئولية وبالخطر في آن واحد, ففي الوقت الذي لم يعد فيه مكان في العالم للكيانات الفردية, بدت الأطماع الخارجية تطل برأسها من جديد على المنطقة, بل بدت هناك أطماع إقليمية في ثروات الدول الصغيرة, كما أن محاولات فرض النفوذ والهيمنة بدت واضحة, في الوقت الذي تم فيه استدراج الجميع لأزمات طائفية ومذهبية كنا في غنى عنها, وقت أن كانت هناك أولويات أكبر من ذلك بكثير, وهو الأمر الذي يتطلب إعلاء مصلحة الشعوب في هذه الآونة التي أصبحت فيها المنطقة مهددة بالتقسيم من جديد, وأصبحت خطط التقسيم والتفتيت معلنة بوضوح, ولن يسلم منها لا الشمال ولا الجنوب إن استمرت الأوضاع كما هي الآن. على أي حال.. مازالت الفرصة سانحة الآن لعالمنا العربي كي يثبت أنه رقم صعب في العلاقات الدولية, وليس مجرد مصدر ثروات يستفيد منها الآخرون بلا مقابل, ومازالت الفرصة سانحة لأن يحقق القادة العرب تطلعات شعوبهم بالتقدم والازدهار بعد عقود طويلة من التخلف والقهر, ومازالت الفرصة سانحة لوئام عربي يتناسب مع العوامل المشتركة التي كان يجب استغلالها في الوحدة ولم الشمل, وأعتقد أن ما يحدث الآن من حراك مجتمعي وسياسي كان يجب أن يصب في تحقيق هذه الأهداف, وليس العكس, أما وإن ظلت القمم العربية مجالا خصبا للخطابة والاستشهاد بأبيات الشعر القديم, وآيات الذكر الحكيم, دون ترجمة ذلك على أرض الواقع, فسوف نظل ندور في الحلقة المفرغة نفسها من جلد الذات والنحيب والبكاء على الأطلال, في وقت تتسارع فيه نهضة العالم من حولنا بتجمعات حقيقية توحدت فيها السياسات, والعملات, باقتصاد موحد, واستثمارات مشتركة, وحدود مفتوحة, ومن ثم تطلعات لا تتوقف عند حد. على هامش القمة جاء لقاء الرئيس محمد مرسي, على هامش القمة العربية بالدوحة, سواء مع منتدى الأعمال المصري- القطري, أو مع الجالية المصرية هناك, بمثابة رسالة طمأنة إلى هؤلاء وأولئك بأن مصر على الطريق الصحيح, وأن أحداث القلق والتوتر المتفاوتة لن تؤثر بأي حال على المسيرة التي انطلقت. واستشهد الرئيس على ذلك بأن هناك 17 مليونا يعملون بالقطاع الخاص, ويذهبون إلى أعمالهم يوميا بالإضافة إلى ستة ملايين يعملون بالقطاع العام, كما أن هناك ثلاثة ملايين فلاح يتعاملون مع الأراضي الزراعية بطريقة مباشرة ويذهبون أيضا إلى حقولهم يوميا, وقد أسهموا بصورة واضحة في زيادة الإنتاج الزراعي, ومن هنا فإن مشعلي الحرائق وإطارات السيارات هم فئة محدودة تفعل ذلك مقابل مبالغ مالية تصل إليهم بالدولار, وقد تعدى دورهم إلى حرق وتخريب المنشآت. وقد جاء حديث الرئيس في اللقاءين وسط غضب واضح من الحضور, الذين هاجموا بشدة هذه المظاهر, مطالبين بالضرب بيد من حديد على كل من يقف وراءها, كما هاجموا بشدة أيضا وسائل الإعلام التي رأوا أنها تدعم الفوضى في الشارع المصري, مطالبين أيضا باتخاذ موقف حاسم حيالها, إلا أن الرئيس استخدم تعبيرا لافتا وهو "الغضب من الشيطان", مشيرا إلى أن التعامل الآن سوف يكون بالقانون, وحتى لو كان بالقانون عوار على حد قوله فسوف نصبر. لقد عشت سنوات طويلة مغتربا, وأعي مشاعر المواطن تجاه بلده وهو في الغربة, وكيف أنه يتألم كثيرا حينما يسمع خبرا سيئا عن بلده, ولذلك كنت أدرك حالة الثورة والحزن في عيون وعلى وجوه الحاضرين, وهم يطالبون الرئيس باتخاذ موقف حاسم تجاه مثيري الشغب في مصر, وتجاه المحرضين, سياسيين كانوا, أو إعلاميين.. وللمصريين في دولة قطر خصوصية, فهم الذي أطلقوا مبادرة "ادعم اقتصاد بلدك, وحول من مدخراتك إلى مصر", ولنا أن نعلم أن تحويلات المصريين من الخارج قد ارتفعت بالفعل خلال الشهور الأخيرة. ومن خلال التناول الإعلامي الفضائي, على امتداد الليل, للأوضاع في مصر, تخيل كل مقيم في الخارج أن مصر مشتعلة, وأن شوارعها لم تعد تصلح للحياة, وأن الوضع الأمني لم يعد قابلا للعلاج, وأن الجوع أصبح القاسم المشترك بين أفراد الشعب, وأن الدولة على حافة السقوط, وبالتالي فإن العودة إلى مصر تصبح مستحيلة حتى لو كانت لقضاء إجازة سنوية, ولذلك فقد استخدم الرئيس تعبير "أرجو أن تنظروا إلى مصر نظرة المطمئن الذي يدرك أن هناك مشاكل, إلا أنها قابلة للحل, حتى لو كان في مصر شيطان يعبث كما هو الحال الآن, بضيق بصيرة, وضيق صدر". وربما كانت ممارسات النخبة السياسية في مصر لم تضع المصريين بالخارج في الاعتبار حال تعاملها مع الأزمات, كما لم تضع نظرة العالم الخارجي ككل في الاعتبار, وهو ما أثر بدوره على الاقتصاد والاستثمار والسياحة وكل شيء, وإذا كنا سنظل نلقي بمسئولية الأحداث الراهنة على البلطجة والبلطجية, فمن المهم ومن الضروري أن تكشف الأجهزة الرسمية عمن يقف وراءهم ويمولهم, وخاصة أن الرئيس قد أكد أنه لا يتهم أحدا من فراغ, وإنما هناك أدلة وحقائق مسجلة وموثقة في هذا الصدد, وخاصة من جهات خارجية تعبث بالمشهد المصري, وقال: "إن هذا مجرد تحذير, حرصا على عدم إحداث مزيد من الشقاق بين الأشقاء في الوطن العربي". إلا أنه, ومن خلال هذا الحوار, أرى أن المشهد في مصر الآن يحتاج إلى قوة وعدم تردد في التعامل معه, وخاصة إذا تعلق الأمر بأمن المواطن وأمانه, أو باستقرار الدولة ومستقبلها, أما إذا استمر عشرات البلطجية يعبثون بالميادين والمنشآت, كما هو الوضع الآن, دون تدخل حاسم من الأجهزة الرسمية, فالأمر سوف يخرج عن السيطرة عاجلا أو آجلا, ولن يستطيع أحد أن ينظر لا إلى الحاضر ولا إلى المستقبل نظرة المطمئن التي يدعو إليها الرئيس. وإذا كان الرئيس قد أكد في حديثه أن فرص الاستثمار في مصر متعددة وذات عوائد متميزة على حد قوله وإذا كان قد دعا رجال الأعمال القطريين والمصريين على السواء للاستثمار في مصر, فإننا سوف نظل نؤكد أن ذلك لن يتحقق دون عودة الهدوء إلى الشارع, حتى لو كان الانفلات الحاصل من صنع مجموعة صغيرة من البلطجية, أو من صنع مجموعة محددة من القوى السياسية, أو بتمويل من جهة معينة خارجية, ولن يقبل الشعب أن تظل مقدراته رهنا بهؤلاء أو أولئك, ففي النهاية مصر هي التي تدفع الثمن, وشعب مصر هو الذي يتألم, ولن يسجل فصيل سياسي تفوقا على حساب آخر أبدا في ظل هذه الظروف التي يمكن أن يحترق بنارها الجميع. نقلا عن جريدة الأهرام