كان الطريق إلي شرم الشيخ صعبا علي غير العادة, فبسبب ظروف العمل قررت السفر إلي المدينة الجميلة لحضور القمة الاقتصادية العربية صباح يوم انعقادها, ولكن حينما وصلت إلي مطار القاهرة في الخامسة صباحا كان ضباب هائل قد أغلق الملاحة الجوية. ولولا أن وعدا جاء بأن إعلانا آخر سوف يأتي في السادسة ببيان جديد ما انتظرت وعدت أدراجي من حيث جئت. ولكن الإعلان جاء مبشرا ببداية فتح المجال الجوي وبدأت الطائرات تنطلق حسب ترتيبها. وهكذا بدا مستحيلا اللحاق بالمؤتمر في الموعد المحدد حيث الترتيبات الأمنية تمنع دخول أحد إلي قاعة المؤتمر بعد الساعة العاشرة صباحا. ولكن جماعة مصر للطيران نجحت في منحي الفرصة علي طائرة متقدمة فوصلت في التاسعة والنصف, وتولي بعد ذلك رجال الأمن دفعي حتي وصلت إلي داخل القاعة قبل إغلاقها بدقائق. كل هذا الوقت لم يكن ضائعا علي أية حال; وكما كان هناك ضباب كبير يغلق المجال الجوي كان هناك ضباب آخر يجري علي القمة الاقتصادية العربية التي جاءت في توقيت يحاول اختراق حجب كثيرة. فمن ناحية كانت أحداث تونس الأخيرة قد فرضت قائمة أعمالها الخاصة علي الأنباء, والسياسة العربية في العموم. ومن ناحية أخري فقد كان الحديث عن التعاون الاقتصادي العربي بينما يجري الانفصال في السودان, وتتعرض اليمن للتقسيم, والعراق للتفكيك, ولبنان لكل ما لا يحمد عقباه, ويحرق الناس أنفسهم في عواصم عربية شتي, كما لو كان الأمر كله غير مناسب لمقتضي الحال. ومن ناحية ثالثة فقد بدا أن الحديث, علي مستوي القمة العربية, عن التعاون العربي, والاقتصادي خاصة, وكأنه ينتمي إلي عصر آخر جرت فيه أقوال عن العمل العربي المشترك وربما حتي الوحدة العربية دون أن تسفر شيئا إلا مزيدا من التفكك والانقسام ليس فقط بين الدول كما كانت الشكوي دائمة, وإنما أيضا داخلها. ومع ذلك فإن الوقت في مطار القاهرة لم يكن ضائعا تماما في نظرة متشائمة, ولا كان الضباب كافيا لحجب ما للقضية من أبعاد, أو يمنع رؤية الموضوع من زاوية أخري. فإذا كان البدر يفتقد في الليلة الظلماء فإنه في أيام السياسة الصعبة تكون الحاجة كبيرة إلي أفكار البناء والتعمير والنظرة إلي مشكلات قابلة للحل بمزيد من الجهد والعمل. ومما أعطي للموضوع نكهة متفائلة أن قمة الكويت الاقتصادية التي انعقدت منذ عامين قد وضعت أطرا للتعاون العربي الاقتصادي تبدو معقولة وممكنة وملحة في آن واحد. وإذا كان الاتحاد الجمركي العربي فيه من الشعارات أكثر مما يتناسب مع الواقع, فإن موضوعات محددة مثل الأمن الغذائي والمائي ومكافحة البطالة والفقر تبدو ملحة علي صانع القرار العربي ليس فقط لأسباب اقتصادية وإنما سياسية أيضا. فالمسألة ببساطة لم تعد تقع ضمن دائرة التنمية فقط وإنما امتدت بقوة إلي دائرة الأمن القومي والبقاء السياسي لدول ونظم. وهكذا, وضمن هذا الإطار, جلس القادة العرب في دائرة وخلفهم وفودهم يبحثون في الأمر المعقد كما لو أن الضباب راح, والسحب انقشعت عن سماء شرم الشيخ العامرة بالسلام والتنمية وصفاء العقل والنية. وببساطة كان المؤتمر محاولة أخري علي طريق البناء, واستدعاء من زمن آخر لما يجب أن تكون عليه الأحوال حتي لو بدا الواقع صعبا والحقائق مؤلمة. كان الوقت في المطار, حتي في الفترة القصيرة للسفر كافيا لمراجعة الأحوال الاقتصادية العربية ومحاولة فهم ما يحدث فيها. فقد وصل حجم التدفقات النقدية والاستثمارية بين الدول العربية, حسب تقديرات المكتب الدائم لمجلس محافظي المصارف المركزية ومؤسسات النقد العربية, إلي نحو200 مليار دولار سنويا, تتوزع علي بعض المجالات مثل الاستثمارات والتجارة البينية وتحويلات العاملين. فيما بلغ حجم الاستثمارات البينية العربية, وفقا لبعض التقديرات,20 مليار دولار خلال الفترة الأخيرة بزيادة مقدارها عشر أضعاف عما كان عليه قبل عشر سنوات. ولكن ذلك لا يشير إلي وجود تعاون اقتصادي قوي أو تبادل تجاري مميز بين الدول العربية, خصوصا أنه لا يقارن بالإمكانيات والموارد الاقتصادية الكبيرة والمتعددة التي تتمتع بها الدول العربية, كما لا يقارن بحجم الاستثمارات العربية في الخارج. واللافت في هذا السياق هو أن مشكلة ضعف وتدني التعاون الاقتصادي بين الدول العربية لا تكمن في عدم وجود أطر مؤسسية منظمة لهذا التعاون, فمنذ تأسيس جامعة الدول العربية, طرحت مبادرات ووقعت اتفاقات عديدة لتدعيم التعاون الاقتصادي بين الدول العربية, لكنها لم تؤد إلي تحقيق طفرة كبيرة في هذا المجال تسهم في تدعيم العلاقات الثنائية بينها. وفي يناير عام2005, دخلت اتفاقية التجارة العربية الحرة التي تضم17 دولة عربية حيز التنفيذ, ورغم أن ذلك قد أدي إلي زيادة معدل التجارة البينية بين الدول العربية من نحو8% إلي نحو12%, لكنها نسبة ليست كبيرة وتؤشر إلي أن ثمة عقبات ومشكلات عديدة باتت تواجه عملية تفعيل التعاون الاقتصادي العربي. أولي هذه المشكلات, تتصل بتشابه الهياكل الإنتاجية في اقتصادات الدول العربية, وهو ما يقلص إلي حد كبير من أهمية وحيوية عملية التبادل التجاري بين الدول العربية, وهو ما يتطلب اتخاذ خطوات لتقليص التداعيات السلبية لهذا التماثل وعدم التنوع, منها الاعتماد علي الجودة وفرض قيود شديدة علي الممارسات التي تضر بالمنافسة الاقتصادية. أما ثانية هذه المشكلات, فتتعلق باعتماد أغلب اقتصادات هذه الدول علي بعض الإيرادات الرئيسية من الجمارك والضرائب لاستخدامها في سد احتياجاتها المالية وتحقيق أهدافها التنموية, وهو ما قلص إلي حد ما من التداعيات الإيجابية المحتملة للاتفاقات التجارية التي وقعت في الفترة الماضية. أما ثالثة هذه المشكلات فتتعلق بالافتقار إلي البنية التحتية اللازمة لتدعيم عملية التبادل مثل نقص وعدم جودة خطوط النقل لاسيما الخطوط الجوية والبحرية والسكك الحديدية, بشكل يؤثر بالسلب علي عملية الانسياب السلس للسلع والاستثمارات بين الدول العربية, فضلا عن فرض عقبات عديدة أمام المستثمرين العرب للوصول باستثماراتهم إلي مناطق مختلفة من الدول العربية. وترتبط رابعة هذه المشكلات بالعقبات التي تواجه تفعيل دور القطاع الخاص في عملية التبادل التجاري بين الدول العربية, نتيجة المشكلات البيروقراطية الخاصة بكل دولة, مثل طول المدي الزمني اللازم لتخليص السلع من الجمارك, والحصول علي التراخيص الخاصة بالاستيراد, والقيود المتعددة المفروضة علي التحويلات النقدية, فضلا عن المزايا التي يتمتع بها القطاع العام في العديد من هذه الدول والتي تمثل خصما من مشاركة القطاع الخاص, حيث يمتلك القطاع العام في بعض الأحيان صلاحية استيراد عدد كبير من السلع من الخارج. كذلك يواجه الأفراد القائمين علي ترويج السلع في الدول العربية تعقيدات إدارية إضافية, مثل الصعوبات المتعلقة بعملية الحصول علي تأشيرات طويلة المدي. هذا فضلا عن وجود انطباع سلبي في العديد من الدول العربية تجاه المستثمرين ورجال الأعمال العرب, الذين يتم اتهام بعضهم بعدم الجدية وبالاستثمار في المجالات قليلة الأهمية التي تحقق أرباحا طائلة لكنها لا تنتج مردودا قويا علي الاقتصاد الوطني. أما خامسة هذه المشكلات, فتتصل بتباين الأساس الأيديولوجي للاقتصادات الوطنية في الدول العربية بين اقتصادات تتبني نظام السوق وتسعي إلي انتهاج سياسة اقتصادية مرنة تستطيع من خلالها جذب أكبر قدر من الاستثمارات الخارجية لتحقيق طفرات في عملية التنمية, وبين اقتصادات ما زالت تعتمد علي الفكر الاشتراكي وتضع حيزا كبيرا للدولة في إدارة الاقتصاد, بشكل يضعف إلي حد كبير من دور القطاع الخاص في المشاركة سواء في عملية التنمية أو في إطار التبادل التجاري بين الدول العربية. وتتعلق سادستها بعدم وجود مرجعية قانونية تستطيع حسم الخلافات المحتملة التي يمكن أن تنشب بين المؤسسات الاقتصادية العربية, بشكل لا يؤدي إلي هروب رأس المال العربي إلي الخارج. وبهدف التغلب علي هذه المشكلات ومعالجة تداعياتها السلبية المحتملة بشكل ينتج تداعيات إيجابية علي التعاون الاقتصادي العربي, طرحت دراسة اقتصادية صادرة عن المنظمة العربية للتنمية الإدارية خمسة بدائل منها توحيد القواعد القانونية والتشريعات التي تحكم الأنشطة الاقتصادية بين الدول العربية, بشكل يعطي دفعات قوية يمكن عن طريقها تفعيل منطقة التجارة الحرة بين الدول العربية, واتخاذ الإجراءات الكفيلة بتسهيل عملية مرور السلع بين الدول العربية وتذليل العقبات القائمة أمامها, بشكل يسهم في تدعيم دور القطاع الخاص في التعاون الاقتصادي بين الدول العربية, وتحسين كفاءة التجارة والاستثمارات البينية العربية من خلال التركيز علي المجالات الأكثر أهمية التي تفيد الاقتصادات الوطنية للدول العربية, وانتهاج سياسات تعليمية فعالة تستطيع سد الفجوة القائمة بين المناهج التعليمية ومتطلبات سوق العمل, بشكل سوف يؤثر حتما بالإيجاب علي جودة السلع ويخلق مجالا للتنافس الاقتصادي بين الشركات والاستثمارات العربية الأمر الذي يمكن معه تحقيق الهدف المنشود. المشكلات إذن علي صعوباتها قابلة للحل, بل إنه جري التعامل بنجاح معها من قبل في تجارب أوروبية وآسيوية, وأخيرا في أمريكا الجنوبية; وعلي أية حال كانت هذه المشكلات تحديدا هي ما كان علي المؤتمر أن يتعامل معها من خلال منتديات لرجال الأعمال, والغرف التجارية العربية, والمجتمع المدني العربي, والشباب. مثل هذه المنتديات لم تكن واقعة ضمن تقاليد القمم العربية حتي أرستها قمة الكويت ورسختها قمة شرم الشيخ التي جاءت كما لو كانت نقطة ضوء في ظلام حالك. *نقلا عن صحيفة الاهرام