«مع ذلك لا يمكنني التوقف عن التفكير في الخلود - في تعليق لبانة علي حائط من النسيان - كجندي باسل يعلق شارته - أو حارس عقار - لايريد أن يزعجه المفتاح أثناء النوم» يبدو محيرًا أن الشاعرة رنا التونسي كلما تقدمت في تجربتها تحركت من العام نحو الخاص وليس العكس، الوحدة والحب والمخاوف تتنازل عن عموميتها لترتدي أسماء الأشخاص المقربين والتجارب الخاصة، هنا في ديوانها الخامس «قبلات» (دار ميريت) لا نري العالم الذي سعت إلي الخروج إليه إلا بقدر ما يبين من نوافذ البيت «مفتاح حياتي قذفت به من النافذة» تقول ليس لتبرير العزلة، بل للتدليل علي أمل شاحب في أن «أترك كل شيء - في سيارة تعبر مسرعة - تجاه أمل لا أسيطر عليه»، تتساءل في مكان آخر «هل تعرف أين يمكنني أن أصنع أجنحة؟»، نقرأ فنجد أنفسنا إزاء عالم شبه طفولي رغم الرغبات التي تلوّنه من حين لآخر، في عالم كهذا لا يجب أن نتوقع تصويرًا فاجعًا للخيبة، بل يكفي أن نعرف أنها « كلما أحببت مطعمًا - أغلق لأسباب صحية"، ليس غريبًا إذًا أن يكون لرغبة البداية من جديد ذات السمت الطفولي «أختفي مثل بطلة - بينما أزيز باب خيالي يصاحب مشيتي»، الألفة والرعب كذلك يمتزجان في صيغة تنتمي للغة الحواديت «فمك المرسوم بقبلة سحرية - في حجارة تبتسم من الخوف»، كما أن «السنين الطويلة تفتح لك فمها تبتلعك مثل تمساح كبير»، وهي نفس الرغبة الطفولية في العثور علي «حنين لا يلوح إلي البيت»، ولو كان للبيت من ضرورة «لتركت زرعًا أخضر اللون يسلم علي العابرين من الشباك - ينزل من علي السلم - لصنعت لك مفتاحًا إضافيًا ولتململت من نومك جواري - لو كان لي بيت - لتركت البيت كله لك - المفتاح - الجيران - والكنبة - لشربت قهوتي علي الرصيف - قرأت الجريدة في الشارع». كما نري فإن الشعر هنا ليس مستهدفًا في ذاته دائمًا، بل تتحرك التونسي في سرد ذاتها حتي تصيب شحنة شعرية قد تجيء بسرعة، أو تتأخر، فالشاعرة تتحرك في نفسها وكأنها تجلس «علي قطار بضائع ممتلئ يهتز بي - لا أعرف وجهته»، وقد يعطل ذلك الشعر في مقاطع لكنه قد يفاجئنا بحضور قوي في مقاطع أخري، بل إننا نجد الشعر في الجزء الأكثر نثرية في الكتاب بعنوان «نثار - صوت أمي»، ربما بأكثر مما نجده في جزء القصائد الحرة، في « نثار» نقرأ الشاعرة بضمير الجمع «نمشي في إحدي الحارات مترنحين لا بهدف البقاء في القصيدة ولكن لأنا رأينا أنفسنا في الهواء الذي يهب علي تسريحة الشعر ولمسة اليد الرقيقة. مكثنا هناك، تركنا الخيول تهز رؤوسها معرفة في المكان وحاولنا أن نمسك الضوء بالكاميرات الصغيرة»، نتعرف مع النص إلي المكان وإلي العجز عن التقاط الصورة لعازف الكمان، ليس عجز الصورة فقط بل عجز البصر «خائفة من أن تكون نظرتها التي بقيت هناك ظلت تجرحه»، أما الكتاب كله فبحث عن حرية تنتظر من يمد يده لها «أجلس في المكان المقابل لباب الطائرة - شخص ما فتح الباب - ونسي - نسي تمامًا أن يركلني».