بعد أربع ساعات من الوقوف أمام الكاميرا، وأيام من الإعداد للحدث، يرى البعض أن مناظرة الرئاسة بين السيد عمرو موسى والدكتور عبد المنعم أبو الفتوح لم تضف إلى رصيدهما الشعبي كثيرًا، إن لم تكن في الواقع قد خصمت منه. فكيف يمكن تفسير ذلك؟ ربما كان السبب الأساسي لهذه النتيجة هو تحول المناظرة إلى سجال. فالمناظرة هي نقاش يسعى فيه طرفان أو أكثر لعرض وجهات نظرهم حول موضوع معين، بهدف التعريف بهذا الرأي، وضمان درجة من الشعبية له، وبالتالي يكتسب صاحب الرأي قبولا واقتناعًا بشخصه. أما المساجلة فهي حرب كلامية يسعى فيها كل طرف ليس لمناقشة رأي خصمه أو تفنيده، بل إلى هدم الرأي وتشويه الخصم.
يمكن تقريب الفرق بين المناظرة والمساجلة بواسطة تشبيههما بألعاب رياضية. فالمناظرة أشبه بمضمار الجري الذي يتبارى فيها العدَّاؤون؛ حيث يكون لكل عدَّاء مسار خاص يسير فيه، ويركز اهتمامه في أن يُحقق هو السبق على الآخرين، قد يضيِّق عليهم الطريق، ويدفعهم إلى بذل مزيد من الجهد إن أرادوا تجاوزه، لكنه لا يتعمد أبدًا عركلتهم أو منعهم من مواصلة السباق. أما المساجلة فهي أشبه بحلبة للملاكمة، حيث يسعى كل طرف إلى إسقاطه الطرف الآخر على الأرض بالضربة القاضية. ولتحقيق ذلك لا يتورع عن توجيه كل الضربات، حتى ولو كانت غير قانونية أو تحت الحزام. ولأن المناظرة الرئاسية المصرية الأولى تحولت إلى ملاكمة فقد خرج منها الطرفان وهما ينزفان.
إن تحول المناظرة إلى مساجلة أمر عادي في سياق الحملات الانتخابية الرئاسية الغربية، خاصة الأمريكية. فقد أظهرت بعض الدراسات أن الثقافة الأمريكية تميل إلى استخدام ما يُعرف بالحجاج المضاد Counter-argumentation، الذي يبدأ بملخص يختاره المتكلم من رأي خصمه، يتبعه رأي مضاد، ثم البراهين التي تحدد أسس المخالفة، وفي النهاية يأتي الاستنتاج. وفي المقابل فإن الثقافة العربية تميل إلى استخدام ما يُعرف بالحجاج المساير؛ Through-argumentation، الذي يعرض فيه كل طرف وجهة نظره، ويدعمها بالحجج والبراهين، وصولا إلى الاستنتاج، وذلك دون أن تكون هناك إشارة مباشرة إلى وجهة نظر الخصم.
إن شيوع استخدام الحجاج المساير في الثقافة العربية يعكس رغبة أكبر في الحفاظ على التناغم الاجتماعي، وإيثار الحفاظ على العلاقات الاجتماعية. وعلى العكس من ذلك، يعكس شيوع استخدام الحجاج المضاد في النصوص الغربية ميلاً إلى الاشتباك مع وجهات النظر المخالفة، والتعبير الواضح عن النزعة الفردية. وفي الحقيقة فإن ما حدث في المناظرة المصرية يتجاوز مسألة تفضيل الحجاج المضاد على الحجاج المساير، بل يتعداه إلى اعتماد المرشحَين، على نوع من الحجاج يُسمى الحجاج بالهجوم على الشخصية Ad Hominem Argument، وفيه لا يفنِّد الشخص رأي الآخرين بمناقشة الرأي نفسه، بل بواسطة مهاجمة شخصية صاحبه.
مما زاد من التأثير السلبي لتبني أسلوب هجوم كل مرشح على شخصية الآخر، طبيعة الانتقادات التي وجهها كل مرشح للآخر. فقد كانت بعض الانتقادات أشبه بقنابل الدخان، التي لا تستند إلى أدلة موثقة، بل إلى شائعات أو أقوال مرسلة أو تأويل مبالغ فيه. ومن هنا لم يكن من الغريب أن كل طرف اتَّهم الآخر بتحريف كلامه أو عدم فهمه أو إساءة تأويله أو اقتطاعه من سياقه أو حتى "الكذب". وقد استخدم كل مرشح طرق في الرد، بعضها لا يخلو من تلاعب. فعلى سبيل المثال، وجه الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح اتهامات للسيد عمرو موسى من بينها أنه جزء من نظام مبارك، سواء بالمشاركة أو الصمت، وأنه مسئول عن الإضرار بمصالح مصر الاستراتيجية في دول حوض النيل، وأنه مسئول عن سوء معاملة المصريين في الخارج أثناء فترة تولي حكمه. وقد رد السيد عمرو موسى على هذه الاتهامات باستخدام أسلوب شهير في المساجلة، عادة ما يتم شرحه بواسطة هذه الحدوتة؛ لنتخيل أن لدى جارك في السكن كلب يحرس بيته، وأن هذا الكلب عض ابنك، وأردت أن تحصل على تعويض منه بسبب هذا الضرر. ولكي يتهرب من هذا الاتهام ولا يدفع التعويض، قال جارك إن الاتهام غير صحيح لأن كلبه أليف ولا يعض، ثم أراد أن ينفي الاتهام أكثر فقال إن كلبه دائمًا مربوط ولا يخرج من المنزل، ثم أمكنه نسف الاتهام كلية بقوله إنه أصلا ليس لديه كلب، وحين يصل إلى هذه النقطة يمكنه أن يتهمك بأنك تقذفه بالباطل، وأنك تتعمد الإساءة إليه، وأنه سيقاضيك على ذلك ويحصل منك على تعويض. ومن المؤكد أن مثل هذه الحيل المبنية على التلاعب بالكلمات وأساليب التضليل تتيح -إذا تم أداءها بدهاء- نسف الاتهام، حتى لو كانت دماء ابنك تسيل على الأرض، وكان الكلب يهز ذيله وأنيابه ملوثة بالدماء أمام عيون الجميع.