"مباراة ملاكمة بالكلمات". هذا هو الوصف الدقيق لمناظرة الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح والسيد عمرو موسى. في هذه المباراة حاول كل طرف استعراض عناصر قوة برنامجه الانتخابي ومصداقية شخصيته وثراء تاريخه، وقام في نفس الوقت بتوجيه ضربات قوية لشخصية الخصم وبرنامجه وتاريخه. وكعادة مباريات الملاكمة لم تخل المناظرة من نغز سياسي وضربات تحت الحزام ودفع الخصم إلى ركن الحلبة تمهيدًا للقضاء عليه. لم تكن الأسئلة التي وجهها من أداروا المناظرة هي الفيصل في حسم نتيجتها. فقد كانت هذه الأسئلة معروفة مسبقًا، ولابد أن كل مرشح تناقش باستفاضة مع معاونيه ومستشاريه في أفضل الإجابات الممكنة لكل منها، وربما حفظ الأجوبة عن ظهر قلب، أو تمرَّن على أدائها مرة بعد أخرى، قبل أن يؤديها للمرة الأخيرة أمام شاشات الكاميرا. أما العنصر الحاسم في المناظرة فهو الصورة التي حاول كل منهما رسمها لنفسه ولخصمه أمام المشاهدين، مستخدمًا كل ما يستطيع من أساليب الإقناع والتأثير النفسي، لتحسين صورته وتقبيح صورة الآخر. وسوف أحاول توضيح كيف استطاع كل منهما تحقيق ذلك. ولأن المناظرة بدأت بكلمة افتتاحية للدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، فسوف أبدأ تحليلي به كذلك.
الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح استطاع الدكتور أبو الفتوح تصوير المناظرة على أنها صراع بين مرشح الثورة ومرشح الفلول. ونجح إلى حد كبير في ترسيخ هذه الصورة طوال المناظرة بإشاراته المستمرة إلى "جرائم" نظام مبارك، وحديثه المتصل عن الثورة وشهدائها ومطالبها. كما تكررت تعبيراته التي تضع السيد عمرو موسى في سلة نظام مبارك وفلوله، وتضعه هو في سلة الثورة ورجالها.
حاول الدكتور أبو الفتوح كذلك تصوير المناظرة على أنها مناظرة بين مرشح إسلامي ومرشح غير إسلامي. وحقق ذلك من خلال استخدامه لآيات من القرآن الكريم والأحاديث النبوية. كما كان سؤاله للسيد عمرو موسى بخصوص تعبير "المبادئ العامة للشريعة"، الذي ورد في كلامه، محاولة لتصوير نفسه على أنه يدافع عن الشريعة في مقابل من يحاول الانتقاص من دورها في الدستور.
يكشف إلحاح الدكتور أبو الفتوح على استخدام ضمير الجمع "نحن" بدلا من ضمير المفرد "أنا" في الجزء الأكبر من المناظرة، عن رغبته في إنكار الذات لصالح التركيز على فريق العمل. وينسجم هذا الاستخدام مع تصوره لمنصب الرئيس على أنه "خادم للشعب" بحسب تعبيره، يعمل ضمن فريق عمل تكون مهمته التنسيق بين أفراده.
السيد عمرو موسى حاول السيد عمرو موسى تصوير المناظرة على أنها مبارة بين رئيس (عمرو موسى) ومرشح للرئاسة (عبد المنعم أبو الفتوح). فقد تحدث السيد عمرو موسى بلغة أقرب إلى لغة الرئيس الفعلي منها إلى لغة مرشح الرئاسة. فهو يستخدم أفعال الماضي والمضارع وليس المستقبل في حديثه عما سيفعله في حال كونه رئيسًا، مثل قوله "لم أنتظر أن أصبح رئيسًا" ردًا على سؤال حول ما كان سيفعله في أحداث العباسية لو كان رئيسًا، أو قوله أثناء حديثه عن الأجور "أنا ملتزم أمام 6 مليون موظف"، وليس "أنا سوف أكون ملتزمًا أمام 6 مليون موظف". كما أن استخدامه المفرط لضمير المتكلم "أنا" يدعم هذا الصورة، لأنه يتشابه مع إفراط الرؤساء المصريين السابقين في استخدام نفس الضمير، بما يوحي به من معاني الاستئثار بالسلطة، على حساب ضمير الجمع "نحن"، الذي يشير إلى مؤسسة أو جماعة. وقد يكون هذا الاستخدام المفرط لتعبير "أنا"، علامة على تفضيل السيد عمرو موسى للأسلوب الفردي في ممارسة السلطة، وهو الأسلوب الذي يتجلى في تعبير "أنا الدولة، والدولة أنا Je suis l'etat. L'etat, c'est moi" الذي ينسب إلى لويس الرابع عشر (1643-1715) ملك فرنسا.
حاول السيد عمرو موسى تقديم نفسه على أنه المرشح المدني للرئاسة في مقابل المرشح الإخواني. وضغط بأساليب متعددة على مسألة انتماء الدكتور أبو الفتوح للإخوان المسلمين؛ ووجه سؤالا مباشرًا عن بيعته للمرشد، وتلميحات عديدة توحي باستمرار ارتباط الدكتور أبو الفتوح بالجماعة؛ مثل استخدام السيد عمرو موسى لتعبير "إخوانك"، بدلا من تعبير "أفراد حملتك الانتخابية"، أو "معاونيك"، وذلك أثناء إجابته عن سؤال الدكتور أبو الفتوح بخصوص تأييد السيد عمرو موسى لترشُّح مبارك لفترة رئاسة أخرى. وقد استخدم الدكتور أبو الفتوح وسيلة التشكيك في أهلية المصدر لمواجهة هذه الاتهامات؛ حين قال بأنه يبدو أن السيد عمرو موسى لا يتابع الأخبار، لأنه استقال من الإخوان المسلمين منذ أكثر من عام.
لقد أظهرت المناظرة بعض المفاجآت في شخصية كلا المرشحين. فقد أبرزت ميل السيد عمرو موسى إلى التصيد والاعتداد المبالغ فيه بالذات الذي يكاد يصل إلى حد النرجسية، والاعتماد على تشويه الخصم بدلا من تقديم أفكار وآراء أصيلة. بينما بدا أبو الفتوح متحرزًا وهادئًا، ولم ينجح في توظيف إشاراته الحركية أو نبرات صوته بالبراعة التي ظهر بها في خطب سابقة.
لقد كانت مناظرة السيد عمرو موسى والدكتور عبد المنعم أبو الفتوح حدثًا استثنائيًا في تاريخ الخطاب السياسي المصري والعربي. وعلى الرغم من كل ما شابها من عوار، فإننا نأمل أن تفتح الطريق أمام خطاب سياسي عربي جديد، يقوم على التحاور والنقاش والاعتراف بالآخر، ومقارعة الحجة بالحج