واحد من آثار الشوارعيزم( التي يعتنقها بعض رجال الطابور الخامس في الإدارة وبعض رجال الأعمال المتمولين وإرهابيو الصوت والقلم من الإعلاميين والصحفيين المأجورين) علي الحياة العامة والسياسية في بلدنا هو النزوع إلي الأمركةAmericanization. من دون ربطها بالتحديث أو العصرية, أو فهم اختلاف طبيعة الثقافة السائدة في بلد له درجة نمو اقتصادي اجتماعي معينة, وبلد آخر لا علاقة له بتلك الدرجة أو انعكاساتها السياسية والإعلامية. هناك فوارق بين بلد متعدد الأعراق والأجناس والطوائف, فكريا ومزاجيا, وقيميا, الأمر الذي يضع المرشح الانتخابي هناك في موقع يفرض عليه توليف برنامج يراعي المطالب الفئوية لجماعات واعية بمصالحها, وقامت بتحميل تلك المصالح علي منصات هياكل وأوعية تنظيمية هندستها وشكلتها, خصيصا لذلك الغرض( سود آسيويون بيض هسبان لاتينيون سكان أصليون.. بالإضافة إلي جماعات اليهود والمرأة وغيرها). وأظن أن طبيعة بلد كمصر تفرض علي المرشح تبني سياسات وبرامج تميل إلي كونها تعبيرا عن مصالح( قومية), باعتبار أن الفئات المختلفة( حتي علي المستوي الاجتماعي) لم تفرز بعد تعبيرات تنظيمية عنها, ولو حتي علي المستوي الحزبي, بما لا يجعل المناظرات التليفزيونية أمرا له جدوي من ناحية استكشاف إرادة المجتمع التصويتي, أو مساعدة الناخب علي الاختيار الصحيح بين بدائل, وبرامج, ومرشحين. وأذكر أن( أم الديمقراطيات) بريطانيا, ما دمنا نتحدث عن محاكاة الغرب, ظلت مترددة طويلا في الموافقة علي إجراء مناظرات تليفزيونية قبل الانتخابات العمومية البرلمانية الأخيرة(6 مايو الفائت), علي الرغم من أن البريطانيين والأمريكيين أبناء ثقافة واحدة( أنجلوساكسون), وعلي الرغم من أن درجة النمو الاقتصادي والاجتماعي متقاربة. وربما, في بريطانيا وأوروبا عموما, يكون الناخب أكثر تعقيدا نظرا لانخفاض المستوي الثقافي للناخب الأمريكي, وبالذات المهاجرون من مجتمعات محدودة النمو. أينعم وافقت بريطانيا علي إجراء المناظرات التليفزيونية في انتخابات هذا العام بين دافيد كاميرون( محافظون), ونيك كليج( أحرار ديمقراطيون), وجوردون براون( عمال), ولكن ليس هناك ما يؤكد نجاح تلك التجربة فيما ادعي أصحابها أنهم صمموها من أجل تحقيقه, وليس هناك كذلك ما يضمن توافقا بريطانيا علي انتهاج ذلك الأسلوب في المرات المقبلة. بريطانيا, علي الرغم من نزوع متواصل نحو الأمركة والتجارية, يحاول تغيير ملامحها بدءا من( مطاعم الوجبات السريعة الشهيرة), إلي( سلاسل الديسكوهات العالمية), إلي( طرز وأنواع ملابس الشباب) تظل متمسكة بتقاليدها, وبكل نظامها السياسي, وقد قاومت الأمركة سياسيا في أمور ثلاثة هي:( حملات التلطيخ الانتخابيةSmearing-Campaigns), و(الدور السياسي المتزايد لزوجة الرئيس), و(المناظرات التليفزيونية). وأذكر أن الرئيس الأمريكي الديمقراطي الأسبق بيل كلينتون زار بريطانيا في ديسمبر عام1998 من أجل إطلاق عملية سلام أيرلندا, الشمالية التي قيد لها السيناتور جورج ميتشيل ذو الأصول الأيرلندية( وقد بات في عهد أوباما مبعوث الإدارة إلي منطقتنا لتشابه المعضلتين الأيرلندية والفلسطينية في كثير من الملامح), وفي تلك الزيارة حضر كلينتون جلسة في برلمان قلعة ستورمونت في أيرلندا وقال: لا أظن أن بريطانيا تحتاج إلي المناظرات التليفزيونية لأن سياسييها من الأحزاب المختلفة يتواجهون, ويقومون بتقطيع بعضهمEntranching في البرلمان في جلسات سؤال رئيس الوزراءPrimeminster-QuestionTime أسبوعيا!! أما عن( حملات التلطيخ) فقد أبدي المجتمع البريطاني كله انزعاجه من ذلك النزوع, وبخاصة حين صمم قطب الإعلان الكبير لورد ساتشي لحزب المحافظين حملة دعائية بعنوان( عيون الشيطانDemon-Eyes) مجسما عينين حمراوين في ظلام موحش ليخيف الناخب من توني بلير, وهو ما انتفض البريطانيون إزاءه غاضبين( من جميع الأحزاب), وبخاصة مع حضور الرمز الديني( الشيطان) في تنميط توني بلير من جانب المحافظين, وقد أوقفت تلك الحملة ولم تكتمل, ويرجح البعض أنها كانت واحدا من الأسباب الرئيسية لسقوط حزب المحافظين في انتخابات1 مايو1997. أما دور زوجة الرئيس, فعلي الرغم من أن بلير حاول, مع نزوعه إلي الأمركة, تعظيمه, فإن المجتمع لم يقبل بذلك كثيرا, وظلت زوجته المحامية شيري بلير محل انتقاد الصحافة, كلما أوغلت في ظهور يتجاوز ما هو( اجتماعي) أو( إنساني). نهايته.... كتبت ما سبق لأشير إلي الضجة المفتعلة والمبالغ فيها حول المناظرات التليفزيونية التي استبقت انتخابات رئاسة حزب الوفد الأخيرة( الجمعة 28 مايو الفائت), إذ علي الرغم من اتسام تلك الانتخابات التي انتخبت فيها الهيئة الوفدية الدكتور السيد البدوي شحاتة رئيسا بالديمقراطية والنزاهة والعدالة, وبالرغم من أنها أسست لسابقة محترمة جدا في الحياة الحزبية المصرية, فإن حالات المناظرات التليفزيونية التي استبقتها( بين محمود أباظة, والسيد البدوي) جاءت وكأنها خارج السياق, لأنها, أولا, كانت موجهة إلي مشاهد لن يشارك في الانتخابات( إذ يشارك أعضاء الهيئة الوفدية فقط 2035 عضوا), كما أنها, ثانيا, حاولت استيفاء الشكل الأمريكي دون المضمون المفصل والواضح, وأنها, ثالثا, لم تظهر فوارق كبري بين المرشحين علي المستوي البرامجي, ومن ثم فقد حصرت المفاضلات علي أسس شخصية. وما يجعلني أنبه مبكرا, إلي ضرورة التحفظ إزاء الهرولة نحو المناظرات التليفزيونية الانتخابية في مصر هو أمور ثلاثة أرجو أن يكون كل ما سبق تمهيدا مناسبة لفهمها واستيعابها: أولا: إن مثل تلك المناظرات تعتمد علي مهارات ليست لها علاقة بالسياسة, ضمنها التمثيل, وأذكر, في سياقها, أن مرشح الحزب الديمقراطي الأمريكي( آل جور) لم يحظ بقبول أمام المرشح الجمهوري( جورج دبليو بوش) في المناظرات التليفزيونية عام2000, لأن عدد تنهيداتهNods كان كبيرا علي نحو أفقد الجمهور الثقة فيه!! في حين كان أهم ما ترسب في أذهان المشاهدين الأمريكيين( المقصود العاديين وليس أعضاء النخب والمثقفين) عن أداء جورج دبليو بوش, أنه كان يكرر علي نحو ببغائي عبارة:( مهلا.. انتظر لحظة),Waitamoment يعني ما بقي في أذهان الناس هو( النكتة) أو( الإفيه) وليس المضمون. ثانيا:( التجارية).. فقد قادت محطة سكاي نيوز الإخبارية المملوكة للملياردير الاسترالي/ الأمريكي روبرت ميردوخ حملة الدعوة إلي السماح بإقامة المناظرات التليفزيونية الانتخابية البريطانية, وانفردت سكاي ببث إحداها, في حين أذيعت الثانية في(ITV), والثالثة في(BBC). وصحيح أن الشروط المنظمة للمناظرات قضت بمنع تخلل الإعلانات لبث المناظرات منعا للتأثيرات التجارية, إلا أن تلك التجارية تحققت بطرق أخري غير مباشرة, إذ أن جزءا من بناء صورة القناة لدي المشاهد يعتمد علي انفرادها بنقل حدث معين بما يؤدي إلي زيادة نسبة المشاهدة, وهو ما يفضي, في التحليل الأخير, إلي زيادة إقبال المعلنين عليها. ثالثا:( الخداع) ويحدث, في تقديري, خداع المجتمع السياسي والتصويتي, عبر المناظرات في درجتين: الأولي: ما ذكرت, آنفا, عن التمثيل, وهو ما دفع سير أليك دوجلاس هيوم مرشح حزب المحافظين إلي مخاطبة هارولد ويلسون مرشح حزب العمال عام1964( بعد مطالبة الأخير بالمناظرات) قائلا: ستكون ياهارولد أشبه بأحد مطربي البوب.. ففي مثل تلك المناظرات الممثل الجيد هو الذي سيفوز. والشيء المدهش أن هارولد ويلسون نفسه اقتنع لدرجة أنه رفض, بعد ذلك, إجراء مناظرة تليفزيونية, في انتخابات أخري بينه والمرشح المحافظ إدوارد هيث. أما الدرجة الثانية للخداع فتتعلق باستطلاعات الرأي التي تلي المناظرات وتقول أي المرشحين كان الأكثر إقناعا للناس, إذ شهد كل من المجتمعين البريطاني والأمريكي جدلا واسعا حول دقة وحيدة الاستطلاعات, ومدي نزاهة تأثيرها في تشكيل الرأي العام لمصلحة طرف دون آخر, مع أن الجهات المشرفة عليها في كثير من الأحيان هي مراكز كبري, وصحف أو محطات تليفزيون شهيرة. إذ يمكن, بكل بساطة, وعن طريق اللعب في اختيار العينة, أو الانتقائية في طرح الأسئلة, أو عدم وضوح الاستطلاع للمبحوثين أن تتحصل جهة الاستطلاع نتيجة تريدها بالتحديد للقفز إلي استخلاصات غير دقيقة, وإشاعتها في المجتمع كحقيقة لا تقبل النقاش. أضف إلي ذلك أن مجتمعات كمصر( فيها نسبة أمية عالية, وجوانية تسعي إلي حجب الحقائق عن الباحثين, واستخدام مغالي فيه للهاتف في إجراء الاستطلاعات) مرشحة باستمرار إلي كثير تأليف وتزوير ولكلكة في موضوع نتائج الاستطلاعات, وهو ما أرصد استشراء كبيرا له في مصر علي جميع المستويات الآن. ................. أظن أن اندفاع قوي الشوارعيزم للتهليل حول روعة المناظرات الانتخابية التليفزيوية يحتاج إلي بعض المراجعة, وعدم الانسياق الجاهل خلفه, فالغرض, حين يكون حديثنا عن الديمقراطية, هو المضمون وليس الشكل. وأجدني ميالا إلي استرجاع شطرة شعرية لصديقي الراحل الأستاذ نزار قباني: لقد لبسنا قشرة الحضارة.. والروح جاهلية!!