نظرة واحدة علي إجمالي المشهد الصحفي والإعلامي في البلد, تشي بنذر خطر كبير, ليس فقط علي المستوي السياسي أو الوطني, ولكن علي المستوي المهني كذلك. وبداية لم أكن متحمسا إلي تفعيل تلك القسمة المصطنعة التي حاول البعض عبرها الإقرار باستقطاب حاد بين( الجرائد القومية)و( الجرائد الخاصة), أو بين( إعلام الحكومة) و(الإعلام الخاص), لا بل علي العكس, كنت من أكبر المتحمسين لنشأة وسائط الإعلام الخاصة, متصورا أنها دعم للنظام الإعلامي المصري في كليته, وطريق يفضي بنا إلي تطوير حال الصحافة والإعلام, بعد ما طال بهما الجمود لعقود وانعزلا تماما عن مسايرة ما يجري في الدنيا من أحداث أو ما يلحق بالمهنة من تطورات. وربما يلزم هنا وقبل أن أواصل إشارة مهمة أرجو حضورها في الإفهام والأذهان, حين الاشتباك مع هكذا مواضيع, وأعني أن التقدم المهني ليس استخدام تقنية متقدمة فحسب ولكنه تحميل تلك التقنية بأفكار متقدمة ومضمون متقدم. إذ لا يعنيني في هذا السياق تلال أجهزة الكومبيوتر في صالة جريدة ما, أو إمساك هذا المحرر أو ذاك بمؤشر البحث, جالسا مبحلقا في الشاشة طيلة اليوم, أو منخرطا في دردشات الشات, أو منضويا في روابط الفيس بوك التي تناقش مضمون صحيفته أو مقالاته, أو مراقبته للتفاعل مع مطبوعته عبر بوابة اليكترونية. كل تلك مظاهر صحية وطيبة, وهي تعني بقول واحد التقنية أما المضمون فهو شيء آخر. ولقد أشرت غير مرة إلي أن المضمون السائد في الجرائد والأقنية التليفزيونية الخاصة يشوبه قدر كبير من التشويش, واختلال الأولويات, والجري وراء التجارية, والإلتحام بقوي هي بطبيعتها ضد النظام القانوني العام الذي ظهرت وسائط الإعلام الخاص في إطاره وحضنه. نحن أمام حالة فادحة لغياب( الدولية) والإغراق في( المحلية), وهو الأمر الذي يجعل من وقفة إحتجاجية لموظفي مكتب بريد بميت غمر أهم عند تلك الجرائد من تطورات الاوضاع في أفغانستان, وإيران, والعراق, ولبنان( بما لها من تأثير مباشر علي المصالح المصرية), وبالتدريج تتآكل تلك الاهتمامات الإقليمية والدولية وتتلاشي, لتتمدد التغطيات المحلية المختلفة بقدر كبير من المبالغة والتحريض, وتصنيع الكذب, واختلاق مواقف للحشد حولها, وخلفها. مرة أخري صارت تلك الوسائط الإعلامية الخاصة تستهدف النظام العام في البلد. ثم بات أحد المصادر الأساسية للأنباء في تلك الوسائط الخاصة هو مواقع جماعة الأخوان المسلمين, أو غيرها من الجماعات الإحتجاجية والمناهضة. وذلك في حد ذاته, ليس مشكلة, علي أن تتم الإشارة إلي المصدر الذي إستقت منه الصحيفة أو القناة التليفزيونية مادتها, وإلا فإن الإخفاء هنا يعني محاولة تقديم سنادة خفية للمشروع السياسي لهذه الجماعة, أو تلك المجموعة. لا بل إن بعض كتاب وإعلاميي الصدفة, مجهولي النسب المهني والمعرفي في الجرائد الخاصة, أو الأقنية الخاصة, يتبنون طروح جماعة الإخوان في مقالاتهم ورسائلهم, مدعين أنهم يهاجمونها, وتلك عملية أشبه ببناء السواتر في العمل الأمني والمخابراتي. والمدهش أنهم في صياغاتهم تلك لرسائلهم الأعلامية, يخاطبون مؤسسات دولة, محاولين إقناعها بأنهم يكتبون لصالحها ودفاعا عنها وأن صحف وكتاب الجرائد القومية يتسببون لها في خسارة كل معاركها, وهو نفس ما يفشيه بعض بارونات الإعلام الخاص في شقشقاتهم, وزقزقاتهم بأروقة أجهزة أمنية يخيفوننا بعلاقاتهم اليومية بها. المستهدف الأساسي واضح, وهو إرعاب الدولة من المواجهة, وإقناعها بأن كل محاولة تصدي لتمدد سياسي من جانب خصومها, تصب في نهاية النهار في مصلحة أولئك الخصوم. كل السطور السابقة وردت في رسائلي الإعلامية والصحفية بصياغات مختلفة, طوال سنوات, ولكن ما أريد التوقف عنده هو استهداف الجرائد القومية, ووسائل الإعلام الرسمية من جانب بعض كتبة الإعلام الخاص ومالكيه, والتي بلغت قدرا من العلانية والانكشاف أثار دهشة وتساؤل المجتمع المهني والسياسي في مصر, حين بدأ هؤلاء تسويق مقولة أن الناس تذهب عكس كل ما يرد في إعلام الدولة وجرائدها. لقد كنا نسمع مثل تلك الآراء من أحد بارونات الإعلام الخاص الذي احترف النميمة الإجتماعية ضد إعلام الدولة, وجرائدها القومية, وبالذات جريدتي التي أكتب لكم فيها الآن, وهو ما كان الرجل مخادعا ينفيه بحرارة في أية مواجهة, وفي أحاديث صحفية علنية, مؤكدا أن جريدتي هي النموذج الذي يحتذيه ويحترمه. ولكننا نواجه الآن وربما للمرة الأولي هذا الشكل العلني والمباشر للهجوم علي وسائل إعلام الحكومة عبر الكتابات المريرة في إحدي الجرائد الخاصة, وهو ما نحتاج بالقطع الي دراسة أسبابه وبواعثه, بخاصة أنه يقترن بتخويف الدولة من استخدام إعلامها الرسمي, أو جرائدها القومية في مواجهة الإخوان. لقد كنا نسمع كثيرا, لا بل ونقرأ ما يؤكد الذي سمعناه عن ارتباط بعض الصحف الخاصة, وبعض بارونات الإعلام من مالكيها, وبعض كتبتها( مهما كان تواضع مستوياتهم) بجماعة الإخوان, وهذا من حقهم لأننا من أنصار حرية الارتباط الفكري بأية مجموعة أو تيار( ولو كان دينيا) شريطة عدم خلط الدين بالسياسة. ولكن ما لم نتصوره هو أن يسعي أولئك وبكل تلك العلنية والمباشرة إلي ضرب الصحافة القومية والإعلام الرسمي علي هذا النحو, وكأنهم يشعلون في البلد حربا أهلية صحفية بين( إعلام دولة) و( إعلام خاص) مفترض أن يتكاملا في نظام إعلامي واحد, يلتزم الحفاظ علي إستقرار البلد ومؤسساته. واللافت أن تلك المحاولة الجديدة لضرب صدقية الصحافة القومية, والإعلام الرسمي, التي صيغت في عبارة خبثية ومدهشة عن أن( الناس يذهبون عكس ما يدعو إليه إعلام الدولة وصحفها القومية) لم تتعلق بجريدة بالذات, وإلا كنا فهمنا أنها اعتراض علي نهج صحفي بعينه, ولكنها كانت ضد منظومة الصحف القومية علي بعضها. هذا نذير خطر كبير, لا يوحي بإقرار قواعد أخلاقية للتنافسية, أو للالتزام الوطني, ولكنه يعني اعتبار بعض تلك الجرائد وكتبتها لأنفسهم بديلا عن الجرائد القومية يستهدف ضربها وتصفيتها. وربما تؤكد تلك المعاني مهاتفة دارت بيني وأحد بارونات الإعلام الخاص منذ أشهر أربعة ودونت ملخصها كاملا بعد إنتهائها تحت وطأة إحساس كبير بالدهشة, ولأهميتها في إبراز بعض أهداف القائمين علي الصحافة الخاصة في مصر اللحظة الراهنة. إذ قال لي الرجل إن وزيرا سياديا كبيرا دعاه, ورئيس مجلس إدارة إحدي المؤسسات الصحفية القومية إلي غداء, تخلله نقاش شمل نواحي عديدة سياسية وإعلامية, وأنه( أي بارون الإعلام الخاص) قال لرئيس مجلس إدارة الصحفية القومية إن توزيع صحيفته الخاصة يقارب الآن توزيع الجريدة القومية التي يرأسها رفيق ذلك الغداء, ومع ذلك فإن دخل الجريدة القومية الإعلاني يقرب من المليار ومائتي مليون جنيه سنويا, في حين دخل جريدته الخاصة من الإعلان هو بضعة ملايين بسيطة. وبالطبع بصرف النظر عن دقة معلومات الرجل الرقمية فقد إضطررت إلي إعطاء مهاتفي محاضرة مطولة مجانية في بدهيات سوق الإعلان الصحفي, مكررا عليه المعلومات التي يعرفها أصغر واحد من تلامذتي في الإعلام, وعلي رأسها أن مخططي الحملات الإعلانية لا يبحثون فقط عن أرقام التوزيع, ولكنهم في الحقيقة يدرسون نوعية الجمهور القاريء لجريدة دون غيرها, وما إذا كان هو المستهدف بالإعلان أم لا. كما أن اسم الصحيفة وتاريخها يخلق ما يمكن تسميته( العلامة التجارية) أو الصورة النمطية في ذهن كل من المعلن والمستهلك, ويدفعها للإعلان في ذات الجريدة, لأنهما تعودا علي أن تكون ساحة لرسائلهما ومبادلاتهما في هذا المجال الصعب والحساس. ثم إن طرح الموضوع بأكمله علي النحو الذي أوضحه لي بارون الإعلام يعني أن الموضوع ليس منافسة, ولكنه رغبة في الإزاحة, وطرح جريدته باستمرار كبديل لصحيفة قومية معينة هي التي يرأسها شريك ذلك الغداء. ثم تأكدت تلك النوايا بالهجوم المباشر الذي شنته الصحيفة الخاصة علي كل الإعلام الرسمي, وكل الصحافة القومية, مؤكدة أن الناس يذهبون إلي عكس ما يريده ذلك الأعلام وتلك الصحافة. ...................................... نحن لا نرغب في إدانة أحد, ولكننا نشعر بحسرة كبيرة حين يتم هدر إمكانيات الصحافة الخاصة الناشئة, في تلك الحرب الأهلية الصحفية التي أشعلوها, والتي يستخدمون فيها كل الأسلحة وصولا إلي تخويف الدولة من استخدام أدواتها ضد خصوم أقوياء لهم إعلامهم القوي أيضا. أو يحققون مصالح الإخوان بطرق غير مباشرة, بعدما طال نفيهم المتزرزر عن علاقتهم بتلك الجماعة. نحن لم نهاجم الإخوان أبدا في هذه المقالة, ولكننا نريد قدرا من الشفافية, فمن تربطه وشائج قوية بالإخوان عليه أن يعلن ذلك من دون أن يتنكر, ويلبس طاقية, أو يقوم بتركيب شنب. أما مساندة الإخوان عبر ضرب الإعلام الرسمي, والجرائد القومية, والترديد الحرفي لما يرد علي مواقع الجماعة الإعلامية الإليكترونية فذلك أمر يقتضي بعض الانتباه. إثارة الحرب الأهلية الصحفية داخل النظام المصري الإعلامي, هو أحد عناصر هجمة قوي الشوارعيزم( الطابور الخامس في الإدارة+ المتمولون من رجال الأعمال+ إرهابيو الصوت والقلم) لإطاحة الدولة في مصر وتأسيس النظام البديل.