يعرف تجريف الأرض الزراعية بأنه إزالة الطبقة السطحية من تراب الأرض، لاستخدامه في غرض آخر غير الزراعة، وقد انتشرت هذه الظاهرة الكارثية في مصر منذ ستينيات القرن الماضي، حين أقدم أصحاب الأرض الجدد الذين مُنحوها من الإصلاح الزراعي؛ على تجريفها للاستفادة من بيع ترابها لقمائن ومصانع الطوب الأحمر التي انتشرت مداخنها الطويلة على أرض مصر بأعداد كبيرة، مستغلة حاجة الفلاحين إلى المال، وتفريطهم فيما لم يبذلوا للحصول عليه أي مجهود. وظاهرة تجريف الأرض الزراعية ظاهرة مستحدثة في مصر، إذ لم تكن موجودة قبل انقلاب 1952، فلم يكن أي من أصحاب الأراضي الأصليين يُقدِم على تجريف أرضه؛ أغلى ما يملك، وهي ظاهرة كارثية لأن الأرض المجرفة تتدهور خصوبتها وتتحول إلى أرض بور، وتفقد إنتاجيتها إلى الأبد لتصبح أرضا للمباني تباع بأسعار خيالية، وتتقلص مساحات أرض الزراعة لتنضم إلى (كردونات) المدن والمباني.. وتستطيع أن ترى عزيزي الأراضي المجرفة دائما ما تكون منخفضة عن مستوى أي طريق زراعي على جانبيه؛ الطريق مرتفع عن الأرض بثلاثة أو أربعة أمتار، في الوجهين البحري والقبلي، ولم يصدر قانون يجرّم التجريف إلا في عام 1983، بعد أن خربت مالطا !
هذه المقدمة عن تجريف الأرض الزراعية قصدت به التمهيد لذكر تجريف من نوع آخر، لا يقل خطورة عن تجريف الأرض؛ ذلك هو التجريف السياسي، الذي تمارسه الأنظمة الديكتاتورية حين تصل إلى سدة الحكم في بلد ما، والهدف من هذا التجريف هو ألا يكون أمام الشعب المغلوب على أمره بديل ليحل محل الرئيس الملهَم، فيضمن بذلك بقاءه على مقعد الحكم حتى يموت، وهو ما حدث مع كل الديكتاتوريات العسكرية في العالم، فجمال عبد الناصر أجرى عملية تجريف سياسي في مصر؛ قضى بها على كل خصومه السياسيين، وكل من يمكن أن ينافسه على الحكم، بدأها بالقضاء على أعداء الثورة من أقطاب الوفد والإقطاعيين وأصحاب المصانع ورؤوس الأموال، ثم أتبع ذلك بالتخلص من الإخوان المسلمين؛ أصدقاء الأمس الذين أصبحوا العدو الألد للثورة، وسبحان مقلب القلوب !
ومعمر القذافي في ليبيا، وحافظ الأسد وابنه في سوريا، وهواري بومدين وبوتفليقة في الجزائر، وجعفر نميري وبشير في السودان، والسادات في مصر، وعلي ناصر وعلي سالم وعلي صالح في اليمن، وبورقيبة وزين العابدين في تونس، والبَكر وصدام حسين في العراق، كل هؤلاء الديكتاتوريين العسكريين قاموا بعمليات التجريف السياسي لمجتمعاتهم عبر عشرات السنين التي حكموا فيها بلادهم، واتفقوا في عدة نقاط؛ أنهم جميعهم وصلوا إلى مقاعد الحكم بانقلابات عسكرية أطاحت بالأنظمة السابقة عليهم، وجميعهم اعتمدوا على أجهزة الأمن القمعية في حكم شعوبهم بالنار والحديد، وجميعهم سوّدوا بحكوماتهم حياة مواطنيهم ومحكوميهم، وجميعهم بقوا في مناصبهم حتى ماتوا أو انقلب عليهم غيرهم فأطاح بهم.. وكل منهم أيضا عيّن له نائبا، وجوده لازم لاستكمال صورة البروتوكول السياسي، وهذا النائب ولاؤه كله لولي نعمته الرئيس الملهم، يعني وجوده زي عدمه ! لعلك لاحظت عزيزي أنني لم أدرج اسم الرئيس السابق حسني مبارك في القائمة السابقة، برغم أنه تبع خطى سابقيه في كل شئ، في التجريف السياسي والقمع والديكتاتورية والظلم والفساد، إلا أنه خالفهم في شئ واحد؛ رفضه تعيين نائبٍ له، ثلاثين عاما قضاها في الحكم ولم يختر له نائبا، مرة مش وقته، ومرة أصل مش لاقي حدّ ينفع، ومرة عشان الواد لما يكبر الناس تبقى تنتخبه.. والشعب يتساءل: لماذا لا يعين الرئيس نائبا ؟ ويضرب أخماسه في أسداسه ليرسو على إجابة لتساؤله، وكان من التخمينات أن الرئيس خاف أن يحدث له في وجود نائبه؛ كما حدث لسلفه، بدليل أنه أوقف حكاية العرض العسكري السنوي في ذكرى انتصار أكتوبر لإيمانه بشؤم ذلك اليوم، وفي بعض الأقوال الأخرى أنه لم يعين نائبا له تحسبا ليوم الثورة عليه، ليقول كلمته؛ وكلمة كل الدكتاتوريين أمثاله: أنا أو الفوضى، فالبلاد بعد الثورة أصبحت بلا مؤسسات، وبالتالي بلا أشخاص لهم مقومات الرئاسة، وكل هذا نتيجة التجريف السياسي الذي مارسه مبارك عبر سني حكمه الثلاثين، ومارسه من سبقاه على بلدوزرات التجريف.
والمتأمل لساحة مصر السياسية هذه الأيام؛ يصاب بالدهشة، فكثيرون هم من يظنون في أنفسهم القدرة على اعتلاء مقعد الرئاسة، ولكن أيهم يصلح ؟ وأيهم ننتخب ؟ وكيف نتأكد من حسن اختيارنا، ونحن لا نعرف إلا القليل عن أي منهم قبل الثورة ؟ لا في حزب فالأحزاب كلها ورقية، ولا في نشاط سياسي؛ فالتجريف السياسي منع سطوع نجم أي منهم، وحُرمت الغالبية العظمى من المصريين من أقل حقوقهم السياسية؛ معرفة المرشحين للرئاسة عبر متابعة ترقيهم في المناصب السياسية؛ من أدناها إلى أعلاها، كأن يعرفوه رئيس حي من الأحياء، ثم نائب محافظ فمحافظ فوزير، ويختبروا أداءه وكفاءته السياسية ويقتنعوا بها؛ فيمنحوه ثقتهم على هذا الأساس العملي القائم على التجربة، ولكننا في بلادنا؛ نتيجة للتجريف السياسي، والكبت السياسي، والفشل السياسي، والخضوع السياسي، والكذب السياسي، وستة عقود من السواد السياسي؛ والقهر السياسي، والغباء السياسي؛ وسوء الفهم السياسي، والتدليس السياسي، والجهل السياسي، أصبحت شعبية المرشح تعتمد في إرسائها على مدى انتشار صوره الملصقة على الحوائط، وعلى أعمدة الكباري وأسوار المدارس والبيوت والمنشآت العامة وأعمدة الإنارة، لتعطي بلادنا مظهرا قذرا قلّما يوجد في بلد يحترم أهله أنفسهم ! فهل هذا هو الانتشار والشعبية ؟ هل ألصق القائمون على حملة أوباما أو ساركوزي أو براون أو ميركيل صورة واحدة على حائط أو عمود نور ؟ ما هذه الطريقة المتخلفة في الدعاية ؟ لماذا تستخفون بعقلية الشعب المصري هذا الاستخفاف المهين ؟ من سيزيل هذه الملصقات الآن ؟ ومن المرشحين من حُرم من الترشح بأمر اللجنة العليا للانتخابات؛ فمن سيزيل صوره وملصقات حملته التي أساءت إلى صورة مصر ؟
أدعوكم ونفسي أعزائي؛ لن ننتخب رئيسا وسّخ حوائط بلدنا بملصقاته إلا أن يزيلها، وينظف مكانها ليستخدم وسائل أخرى نظيفة في الدعاية الانتخابية.. وللمرشحين أقول: إرحمونا بقى لأن البلد مش ناقصة زبالة ! واسلمي يا مصر..