في اكتوبر عام 1985 اعترضت طائرتان أمريكيتان من طراز إف 14 تومكاتس طائرة مدنية مصرية فوق الأجواء المصرية وأجبرتها على الهبوط في جزيرة صقلية الايطالية...السبب كان اعتقال الفلسطينين خاطفي السفينة الايطالية آكيلي لاورو بعد أن قتلوا مواطنا أمريكيا... لازلت أتذكر الرئيس المخلوع مبارك على شاشة التلفزيون المصري يقول عندما ُسأل عن مشاعره تجاه هذه القرصنة الجوية: لم أتوقع هذا من أصدقائنا!
في القصة تفاصيل كثيرة أهمها تنصت الأمريكيين على كل اتصالات ومكالمات مبارك ورجاله وعرفوا أنه ينوي تهريب الخاطفين الى خارج مصر وبينما أنكر مبارك للأمريكيين معرفة مكان الخاطفين لم يكن يعرف أنهم يتنصتون عليه ويعرفون بكذبه "على حد تعبيرهم"!
كان التحليل الأمريكي لسلوك مبارك آنذاك أنه لا يريد تسليم الخاطفين حتى لا يغضب الرأي العام المصري والعربي كما أنه لا يريد اغضاب الأمريكيين اذا رفض تسليمهم الخاطفين فأخبرهم بأنه لا يعرف...فالتظاهر بالغباء ومحاولة نسيان الأمر كان في عقيدة المخلوع خير وسيلة لتجنب التعامل مع الأزمات تماما كما حدث في مواقف كثيرة منذ توليه الحكم.
الأهم والأخطر في موضوع اعتراض الطائرة المصرية هو أن جهاز الاستخبارات العسكرية الاسرائيلية هو الذي حصل على المعلومات الخاصة بالطائرة من موعد اقلاعها الى رقم ذيل الطائرة بناء على طلب من الأمريكيين بموافقة ريغان شخصيا وتم الحصول على المعلومات في خلال ساعة واحدة حسبما جاء في كتاب الصحفي الأمريكي شين هاريس المتخصص في شؤؤن التجسس والمراقبة: "المراقبون...صعود دولة المراقبة الأمريكية"!
في المقابل وفي عام 1996اعتقلت أجهزة الأمن المصرية الدرزي الاسرائيلي عزام عزام بتهمة التجسس لصالح اسرائيل مع آخرين وحكم عليه بالسجن خمسة عشر عاما...
طلبت تل أبيب وواشنطن من صديقهما الافراج عن عزام مرات ومرات ...كان مبارك يتمنى أن يمر الأمر دون أي "شوشرة" فنصحه المقربون بالرفض خوفا من اغضاب الرأي العام المصري والعربي بينما بدأوا في التخطيط من أجل الافراج عن عزام مستغلين أمية ورومانسية طبقة كبيرة من الشعب المصري... رغم أن مواصفات شخصية عزام لا تؤهله أصلا ليكون جاسوسا على حد قول مسؤول سابق في جهاز الاستخبارات المصرية!
لكن كبف يتم الافراج عن عزام دون المساس بهيبة الزعيم مبارك؟ فجأة سمع المصريون عن خبر اعتقال اسرائيل ستة طلاب مصريين تسللوا الى اسرائيل للقيام بعمليات ضدها. الخطة كما نفهمها هي تسهيل دخول الطلاب الستة لتعتقلهم السلطات الاسرائيلية ثم تتم صفقة بين القاهرة وتل أبيب لتبادل الطلاب الستة بالجاسوس الاسرائيلي؟ وبالفعل تم ذلك في عام 2004 وظهر الموضوع كله على أن الرئيس المخلوع بذل قصارى جهده من أجل سلامة المواطنيين المصريين وانتهت أزمة مبارك مع أصدقائه الأمريكيين والاسرائيلين بسلام...وصدقه المصريون!!!
المنطقي أن حرب الجواسيس تتم في سرية تامة كما أن الكشف عن عملاء وجواسيس هو عمل يتم في صمت بعيدا عن الأضواء وهو على ما أعتقد عمل معقد ويستغرق وقتا طويلا والاعلان عنه غالبا ما يكون له أهداف... كما أن أجهزة الأمن المصرية لا تتحدث كثيرا وهي بارعة في عملها ولها سجل حافل بالانجازات لكن مبارك وأعوانه كانوا يستخدمونها سياسيا بشكل سطحي ساذج ومخجل لصورة مصر خارجيا وداخليا!
كنا نتوقع أن يتغير الأمر بعد الثورة ويثأر المصريون لكرامتهم بشكل أكثر حرفية وذكاء من النظام السابق!
في يونيو عام ألفين وأحد عشر أعلن عن اعتقال الجاسوس الاسرائيلي ايلان تشايم (أمريكي الهوية حسب ما فهمنا!) في ميدان التحرير بتهم كثيرة بينها التحريض للوقيعة بين الشعب والجيش!!! وهي قصة غريبة الى حد كبير.
أخيرا في مسلسل الجاسوسية والعمالة أخذت قضية التمويل غير المشروع لمنظمات المجتمع المدنى والعمل داخل الأراضى المصرية بدون تراخيص أخذت مسارا غريبا بعد أن سبق المحاكمة اتهامات كثيرة لهؤلاء بالتجسس والعمالة وكان الرأي العام المصري مشحونا ضد أمريكا وهلل الكثيرون بعودة الكبرياء والكرامة لمصر وأن هؤلاء عملاء وخونة ولابد من محاكمتهم وغيره من الحديث وصدقهم المصريون "الغلابة"!
لم يسأل أحد سؤالا بديهيا: لماذا تركت هذه المنظمات كل هذا الوقت تعمل دون تراخيص واذا كانوا عملاء وجواسيس أين كانت أجهزة الأمن وهي أعلم بالمصادر والأهداف والعاملين في تلك المنظمات جيدا؟
لماذا يواصل البعض سياسة السابقين في اقحام شعب "غلبان" في لعبة سخيفة لتسوية حسابات مع الأمريكيين أو غيرهم...! كان السيناريو مخجلا تماما ذكرني بالصفقات المباركية! فجأة قرر النائب العام الغاء الحظر على سفر العاملين بتلك المنظمات وتنحت هيئة المحكمة وسافر الأمريكيون والأجانب بينما يواصل مجلس الشعب "أحلى كلام"! من الذي أخطأ في تقدير الموقف ليشوه صورة مصر مرة أخرى!
على أية حال تحديت كثيرين من الأصدقاء (صحفيين وغيرهم) بأن هذا الموضوع "مسيس" وسينتهي بشكل مهين وكنت أتمنى أن أخسر هذا التحدي!
إن مصر ما بعد الثورة يجب أن تثأر لكرامتها وتحاسب كل من يعبث بأمنها وهيبتها حتى لو كانت أمريكا لكن يجب أن يتم هذا بأسلوب راقي ونظرة ثاقبة وفكر متحضر وقوة المستقل وشفافية كاملة للشعب...لا يجب استغلال مشاعر المصريين لعقد صفقات بهذه الطريقة (حتى لو كانت بلايين الدولارات!) فمصر يجب أن تكون أكبر وأعظم من هذا بكثير... لكن في مصر الآن لو أردت الحديث بالمنطق لا يسمعك أحد فالغوغاء أكثر وصولا لقلب المجتمع المريض وعقله المشوش.
لابد أن تنأى أجهزة الأمن المصرية والقضائية بنفسها عن أساليب عهد مبارك فهي أجهزة بارعة ذات كفاءة عالية وليس هذا مبالغة فالمصريون لديهم من الذكاء والكفاءة والمرونه والمهارات الكثير لكي يكونوا في مقدمة شعوب العالم جميعا...فقط لو تخلص البعض من "فهلوة النظام السابق" لأصبحت مصر منارة العالم من جديد وعادت لتصنع التاريخ بالفعل وليس بالقول...!