أظنك سمعت أو قرأت هذا الحديث النبوى الشريف، أو بالأدق هذه الواقعة التاريخية المهمة التى كان نورها وضياؤها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لنسمِّه أولا حديثا، لأنه مذكور فى كل كتب الصحاح المعتمدة لأحاديث الرسول، صلى الله عليه وسلم.. عن ابن عباس قال: لما اشتد بالنبى (صلى الله عليه وآله وسلم) وَجَعه قال: ائتونى بكتاب أكتب لكم كِتابا لا تضلوا بعده أبدا. قال عمر: إن النبى غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا، فاختلفوا وكثر اللغط. قال النبى: قوموا عنى لا ينبغى عندى التنازع! فخرج ابن عباس يقول: إن الرَّزية كل الرزية ما حال بين رسول الله وبين كتابه! نفهم من الحديث ومن روايات التاريخ المكملة وقصص السيرة النبوية المتممة أن النبى كان فى حجرة عائشة مهيأ لاستقبال رسول ربه، ملك الموت، ويشتد عليه الوجع ساعة دون أخرى، فيحدث الناس ويصلى بهم ثم يمكث مريضا لا يقوى على الحراك محموما، وكان يزوره عدد من الصحابة، وفى أثناء جلسة جمعت آل البيت (على بن أبى طالب تجاوز يومها الثلاثين من عمره، وابن عباس فى نحو الرابعة عشرة) مع الصحابة طلب النبى أن يأتوه بكتاب، والمقصود هنا طبعا أن يمسك أحدهم كِتابا (جِلْدا أو عَظْما أو جريد نَخْل) ويُملى النبى عليه أقواله الشريفة التى لا نعلم الآن ولن نعلم أبدا ماذا كانت بالضبط، ثم جرى ساعتها أن عمر بن الخطاب بجسارة وبسرعة رفض أمر النبى.. وتعالَ نسمع الحديث برواية أخرى فى «البخارى» و«مسلم» و«أبى داود» و«أحمد»: «عن ابن عباس أنه قال: يوم الخميس وما يوم الخميس، ثم بكى حتى خضَّب دمعه الحصباء. فقال: اشتدّ برسول الله وجعه يوم الخميس (توفى النبى ظهيرة الإثنين التالى ودُفن عصر الأربعاء) فقال: ائتونى بكتاب أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا، فتنازعوا ولا ينبغى عند نبى تنازع. فقالوا: هجر رسول الله؟ قال: دعونى فالذى أنا فيه خير مما تدعوننى إليه.. وأوصى عند موته بثلاث: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم، ونسيت الثالثة». ولا أكاد أتصور أن أحدا فى صحبة رسول الله وفى هذه اللحظة يمكن أن ينسى وصية النبى كما جاء فى حديث ابن عباس.. لكن تعالوا مرة ثالثة نقرأ الحديث فى رواية سعيد بن جبير: «عن ابن عباس أنه قال: يوم الخميس وما يوم الخميس، ثم جعل تسيل دموعه حتى رأيت على خديه كأنها نظام اللؤلؤ. قال: قال رسول الله: ائتونى بالكتف والدواة أو اللوح أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا. فقالوا: إن رسول الله يهجر». ورواية طاووس عن ابن عباس فى مسند أحمد أنه قال: «لما حُضِر (بضم الحاء أى حضره الموت) رسول الله قال: ائتونى بكتف أكتب لكم كتابا لا يختلف منكم رجلان بعدى. قال: فأقبل القوم فى لغطهم فقالت المرأة (غالبا يقصد عائشة وربما أم سلمة): ويحكم عهد رسول الله! الحديث مهم للغاية وفيه كثير مما يستحق التأمل، لكن ما يستوقفك هنا أن صحابة رسول الله رفضوا للنبى طلبا واضحا، ويكادون يكونون قد عصوا أمرا له (لاحظ أن الحديث فى البخارى ومسلم وأى سلفى يرفض مناقشة الطعن فى صحة أى حديث مذكور فى هذين الصحيحين)، فى لحظة دقيقة جدا وفى مشهد جماعى، ومع ذلك: 1- رفض عمر بن الخطاب وآخرون طلب النبى (وأمره). 2- فسروا هذا الطلب الذى رفضوه بأن النبى يهجر (يهذى من أثر المرض)، هكذا بمنتهى الجرأة والوضوح. 3-اختلفوا معًا فى هذا الأمر وفى الرد السلبى على طلب النبى، فحدث جدال وصل إلى حد الصخب والغضب والتنازع الشبيه بحوارات البرلمان فى الدول الديمقراطية، وتم ذلك فى حجرة النبى. 4- لم يصر النبى على ما طلب، ولكنه تألم وأمرهم بالخروج فخرجوا. 5- مرت ثلاثة أيام بعد هذه الواقعة وحتى وفاة النبى ولم يفكر أحد فى مراجعة النبى مرة أخرى فى وصيته ولا سؤاله عما كان يريد أن يمليه على الناس فى كتاب. هذه هى وقائع الحديث، وما نفهمه إذن: أ- أن للناس أن تختلف حول أمر من قائدها، بل ونبيُّها بدليل أن ذلك حدث مع نبى يوحى إليه، ومن ثم نستغرب من هؤلاء المسلمين الآن الذين يُبدون التسليم المطلق والطاعة المنبهرة والتصديق مسلوب الإرادة لهؤلاء الشيوخ والدعاة الذين يتحدثون باسم الدين. ب- أن الناس يمكن أن تناقش وتختلف وتتحزب ضد قرار أو أمر من قائدها، خصوصا فى لحظة مرض ألمّ به أو شك فى قدراته أو قراراته، بل يبدو هذا من واجبها أيضا. ج- أنه لا عيب ولا حرام.