الثورة تعني التغيير الشامل لأسس وبينة النظام الذي انتفض المصريون ضده ببسالة في إطار تجربة حضارية للتغير السلمي هي الأولى من نوعها على مدار التاريخ المصري. إن المجتمع هو قائد التغيير الأن، ولهذا من حقنا أن نتطلع إلى أن كل ما تنتجه هذه الثورة من دستور وقوانين وسياسات أن تكون الأرقى في ممارسة الديمقراطية وحقوق الإنسان. فمن حق الشهداء الذين ضحوا بحياتهم من أجل هذه اللحظة ألا نرضى بأي بديل تحوم فيه شبهة تكرار الماضي البغيض. ولكي تطوي مصر الجديدة صفحة الماضي لابد وأن يكون هناك مشروع وطني للإنصاف والمصالحة يعيد للمصري كرامته، ويظهر الحقيقة الكاملة للنظام البائد واستراتيجياته في قمع حقوق الإنسان وحرياته الأساسية. كما ترشدنا تجارب مجتمعات أخرى تحولت الى الديمقراطية مثل تشيلي والأرجنتين وبيرو وجنوب أفريقيا أو حتى في إطار الإصلاحات التي تمت مؤخرا في المغرب فإن هذا البناء الديمقراطي لكي يكون مستقراً ومستديماً لا بد وأن يشيد على أسس تخلص المصريين من ضغائن الماضي، وتعيد الحقوق لإصحابها. إن الفرصة سانحة في مصر الثورة لمحاسبة منتهكي حقوق الإنسان وكشف الحقيقة كاملة، وخاصة وأن الجيش المصري الذي يمسك بذمام الأمور الأن لم تتلوث يده في انتهكات جسيمة لحقوق الإنسان، مثلما كان الحال في بلدان أخرى في أمريكا اللاتينية، كانت القوات المسلحة هي أداة القمع والترهيب ضد المدنيين. لقد كان أحد مسببات انفجار المجتمع المصري في 25 يناير هو فساد جهاز الأمن، وقد كشفت هذه الثورة عن انعدام كامل للثقة بين المصريين وبين أجهزتهم الأمنية. وهو الأمر الذي تراكم عبر عقوداً طويلة مارس فيها رجال الأمن سلطاتهم بلا رقابة أو محاسبة حيث شعر المصريون أن رجال الشرطة وأمن الدولة فوق القانون، وأن اهدار كرامة وحياة المواطن المصري أمر لا يعني حكومته، وترك الأمن في مواجهة يومية مع المواطنين خارج اطار الدستور والقانون الأمر الذي راكم من شعور الكراهية وعدم الثقة في واحد من أهم الأجهزة التي من المفترض أن يحمي حقوق وحريات المواطن في الدولة الديمقراطية الحديثة. التفكير في دستور جديد للبلاد، واصلاحات تشريعية لتأسيس دولة تقوم على المواطنة وحقوق الإنسان يستدعي أيضاً البدء في مشروع وطني للعدالة والإنصاف عبر تأسيس لجنة مستقلة من شخصيات محايدة ذات خبرات قضائية وقانونية وحقوقية ولها قبول مجتمعي عريض تعمل ضمن فترة زمنية محددة لتحقيق عدالة انتقالية ومصالحة وطنية غرضها توثيق انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبت على مدار العقود السابقة، والبحث في مسبباتها وتحديد الفئات المتضررة لكي يتم تعويضها بالشكل المناسب وفقا لقواعد القانون الدولي لحقوق الإنسان. الغرض ليس فقط تحقيق العدالة لمن ضاعت حقوقهم بشكل تعسفي خلال حكم الطوارئ ومباحث أمن الدولة، ولكن أيض للتعلم من أخطاء الماضي ووضع استراتيجية لضمان عدم تكرار هذه الأخطاء في المستقبل. هذه اللجنة لن تكون بديلاً عن أية اجراءات قانونية تقوم بها النيابة العامة أو القضاء المصري، ولكهنا ستضيف ما لا يستطيع القانون العادي أو المؤسسات القضائية تحقيقه وهو التئام المجتمع، وتضميد جراحه، وتحقيق مصالحة شاملة تدفعنا الى الأمام في إطار ما يعرف بالعدالة الانتقالية. ربما تكون الدعوى لتأسيس مثل هذه اللجنة مبكراً، ولكن بما أن المجتمع الأن في لحظة استثنائة لمناقشة ملامح المستقبل، فإن ضمان إدماج حقوق الإنسان في مشروع الانتقال السياسي لن يتحقق فقط بضمان انتخابات حره ونزيهه، أو بحل مجلسي الشعب والشورى، أو حتى وضع دستور جديد، فهناك عدد كبير من الملفات المتلعقة بحقوق الإنسان التي لابد من التفكير فيها من اليوم في إطار مشروع وطني شامل. الأمر الأخر الذي تتطلبه المرحلة القادمة هو إصلاح الأجهزة الأمنية وإعادة تشكيها وفق أسس تتناسب مع طبيعة المرحلة الديمقراطية المقبله عليها مصر. وفي تقديري فإن هذا الإصلاح لا بد وأن يبدأ من كلية الشرطة ذاتها، عبر إعادة صياغة أسس الالتحاق بها لتكون على معااير تتسم بالعدالة وتكافؤ الفرص، من ناحية أخرى هناك اصلاحات مطلوبة في تحديد اختصاصات جهاز مباحث أمن الدولة، والذي من المفترض ان يكون عمله منصباً فقط على حماية أمن المجتمع في الداخل، وليس الأمن السياسي للنخبة الحاكمة. ولضمان المحاسبة والمساءله لأفراد هذا الأمن لابد من ادخال تعديلات على قانوني العقوبات، والإجراءات الجنائية لإنهاء حالة الحصانة والإفلات من العقاب التي تمتع بها رجال الأمن طوال العقود السابقة، بما يتفق مع تجريم شامل لجريمة التعذيب وفقا لما هو متعارف عليه في اطار الاتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب، وأيضاً لضمان حق المواطن في مقاضاة أي عضو في الجهاز الأمني ينتهك القانون.