أثناء سيري ذهاباً وإياباً في وادي الراحة المقدس في سانت كاترين كنت أشعر أن هناك «شيئاً مش مضبوط». بعد يومين من التوحد مع جبال الوادي اكتشفت أني لو كنت أمتلك اختيار الشكل الذي أعيش به علي كوكب الأرض لاخترت أن أكون جبلا، الجبل هو أكثر كيان ساخر علي وجه الأرض؛ لأنه يطل علي المشهد من أعلي دائما، السحب أيضا تطل من أعلي لكنها دائمة الحركة بنزق طفولي، الأمر الذي يجعل سخريتها محملة بقدر من الخفة، الجبل ثابت في مكانه إلي الأبد الأمر الذي يجعل سخريته مغلفة بحزنٍ ما. الجبل هو الكيان الوحيد الذي تجلي الله عليه فخر ساجداً، رأيت بعيني «جبل الدكة» الذي حصل علي هذا الشرف بإطلالته الغامضة علي الدير، جبل رمادي اللون بعكس كل الجبال المحيطة به.. تبدو حجارته ككتل من الرماد المتكلس، وفوقه بني أحد الرهبان منذ زمن بعيد قلاية ليتعبد بها يقال أن لا أحد تحمل أن يمكث بها وقتاً طويلا، إذا كان الجبل نفسه لم يتحمل إطلالة من نور الله، خر الجبل ساجداً في كوكب به كثيرون قلوبهم أكثر قسوة من الحجارة. الجبال أذكي مخلوقات الله.. يفخر الإنسان بعقله فماذا فعل له عقله؟.. حجبه عن معرفة الله معرفة حقة، جعله يطمع في الحياة وفي أن يحمل أمانتها في حين اعتذرت الجبال بكل أدب وذكاء عن قبول المهمة فهي تعرف حقيقة قدراتها جيدا، بينما قبلها الإنسان؛ لأنه كان بشهادة الله ظلوماً جهولاً. الجبال هنا علي الأرض في أصعب مهمة ربانية علي الإطلاق، موجودة لتحفظ لنا توازننا، موجودة رواسي وأساسات تحمينا من أن تميد الأرض بنا. كُلِّف الإنسان بتعمير الأرض، يعمر الإنسان مهما يعمر لكن لا أمان للعمار الذي ابتدعه إلا بثبات الجبال، مهمة الجبال هي الأرقي والأصعب.. تمطر السحب ويفيض البحر بخيراته وتطرح الأرض ثمارها ، لكن ما لم تحفظ الجبال للأرض توازنها فلن يكون هناك معني لأي شيء علي الكوكب، هل أبالغ إذا قلت إن ثمة شبهاً بين الجبال والأنبياء؟، هل ستعتبره تلخيصا مخلا لمهمة الأنبياء إذا قلت إنهم مبعوثون أيضا ليحفظوا للأرض توازنها؟ تزهو الجبال بتجاعيد ملايين السنين المنحوتة علي وجهها، وتتراص إلي جوار بعضها؛ كأنها تلتقط صورة تذكارية حميمة وتلقائية مثل التي كنا نلتقطها صغاراً مع شلة المدرسة، القصير في المقدمة والطويل في الخلف، هذا يفرد ذراعه بالعرض محتضناً اثنين من أصدقائه الأقل حجما، وهذا يقف في أقصي ركن من الصورة شاخصا غير مهتم بما يجري، وفي الخلفية دائما واحد يطل علينا عبر الصورة وإلي الأبد بوجهه فقط. في وادي الراحة اكتشفت أن الحزن علي الراحلين يكبر في القلب كالجبل، ربما هذا ما يمنحنا رغم الوجع بعض الثبات. عندما زار الشيخ الشعراوي وادي الراحة أصر علي أن يخلع نعليه، فقد كان أمراً إلهيا لسيدنا موسي بأن يخلع نعليه؛ لأنه في الوادي المقدس طوي.. قال لي أحد رهبان الدير هذه المعلومة في آخر يوم في الزيارة وهنا فقط عرفت.. لماذا كنت أشعر بعدم الراحة أثناء سيري علي الرغم من حذائي الرياضي المريح.