وماذا كنا قد فعلنا معهم؟ هجرة وراء هجرة، غرقي وراء غرقي، موتي وراء موتي، ولا أحد يتحرك، ولا أحد يتعظ، منذ متي ونحن نشاهد الموتي والمقبوض عليهم من أجل الهجرة غير الشرعية. سنوات طويلة، والشباب يقع في نفس الفخ، وبنفس الطريقة وفي نفس القري تقريباً. في كفر الشيخ كانت المأساة هذه المرة، إلي هناك ذهبت ورأيت ما رأيته من قبل وكنت أخشي أن أقابل نفس الشباب الهاربين، وقد حدث!! أمام سرايا النيابة العتيقة كم كبير من البشر البائس اليائس الفقير، رجال ونساء وشيوخ وأطفال تلهو وأطفال رضع، وعساكر وضباط ووكلاء نيابة وناس غامضين، بكاء وعويل وترقب لكل شخص يخرج من حجرة التحقيقات عله يأتي بخبر جديد، بنبأ عظيم ولا جديد سوي تصريحات بأن المفقودين مازال البحث جاريًا عنهم، وقد امتدت مساحة البحث إلي ميلين في البحر لمحاولة العثور علي جثث جديدة، أو العثور علي مفقودين أحياء ويزداد العويل المكتوم والبكاء بصوت عال أحياناً، وقد صرح المستشار أحمد طلبة المحامي العام لنيابات كفر الشيخ بأنه أمر بسرعة ضبط عشرة متهمين من محافظات البحيرة والشرقية والدقهلية حيث كونوا تشكيلاً عصابيًا لتهريب شباب بطرق غير شرعية إلي إيطاليا والتي راح ضحيتها ثلاثة أشخاص وتم القبض علي 24، قام المحامي العام بإخلاء سبيلهم من سرايا النيابة، وكان عدد من الشباب قد وصل عددهم إلي أربعين شاباً قد غرق بهم مركب في البحر وهي في طريقها إلي إيطاليا، وغرقت المركب وقفز الناس في عرض البحر غرق ثلاثة، ونجا الباقي عن طريق مراكب الصيد القريبة من مركبهم المتهالك، ذلك هو ملخص القصة المأساة، رحت أتجول بين الناس، أستمع إلي شكواهم وإلي همومهم حتي عثرت علي أحمد زكي دبلوم صنايع ويبلغ من العمر 26 سنة واشتبهت فيه أني قد رأيته من قبل، وواجهته بذلك، وقلت أنت مش كنت هتهرب قبل كده والمركب غرقت بيك قال وهو يطأطئ رأسه نعم، أعمل إيه، وكانوا مطلعين علي إشاعة وقتها أنني بعت كليتي من أجل أن أحصل علي ثمن الكلية علي الفلوس لكي يسفروني إلي إيطاليا عبر ليبيا، والله مابعت كليتي، أنا بعت كل حاجة في البيت عشان أخرج بره معهم إلي إيطاليا كل صحابي هناك، وكلهم اشتغلوا ووصلوا بسلامة الله ومحدش حصل له حاجة، أنا بس اللي حظي زي الزفت مش عارف ليه، ربنا مش رايد وباين عليها مش مكتوبة لي، وسألت أحمد عما حدث هذه المرة قال المرة دي سألت وعرفت أنه فيه واحد اسمه فيصل يسفر الشباب بعشرة آلاف جنيه فوري وأمضي علي نفسي وصولات أمانة بخمسين ألف جنيه عند وصولي إلي إيطاليا بضمان أسرتي ومشيت مع فيصل لآخر الطريق، أنا عارف الألاعيب وهو كمان عارف أني طلعت الطلعة دي قبل كده وبقيت عارف كل اللي يشتغلوا معاه واحد اسمه أبوأحمد والثاني اسمه محمد علي والثالث يوسف، ونزلوا ثلاث محافظات البحيرة، والشرقية، والدقهلية، وكانت الاتصالات مع الشباب عن طريق التليفون المحمول وعندما تتصل به يعطيك مغلق طوال الوقت، وبعد ما قاموا بجمع الأموال والشباب كان التجمع في ثلاث مناطق هي طنطا والحامول وكوم حمادة وبعد التجمع تم نقلنا إلي مكان آخر بسيارة نقل مغطاة إلي أحد المنازل في أرض زراعية من الأراضي المستصلحة ثم قاموا بتعصيب أعيننا بعصابة سوداء كي لا نعرف أين نحن ولا أين نحن ذاهبون وأخذوا كل المتعلقات الشخصية التي نملكها وجلسنا في البيت ثلاثة أيام ننام ونحن جالسون في أماكننا وإذا أراد أي شخص أن يذهب لدورة المياه يأخذه فرد من ناحيتهم إلي الحمام ونعود إلي أماكننا والعصابة علي أعيننا، وعند ميعاد الرحلة في منتصف الليل أخذونا مرة أخري في سيارة نقل مغطاة إلي نهر النيل وركبنا قاربين، كل قارب فيه 35 شخصًا والقارب يسبح في نهر النيل ويعبر بوغاز رشيد للاتجاه نحو البحر المتوسط حيث تنتظرنا مراكب أخري كبيرة تأخذنا إلي الشواطئ الإيطالية، والقارب الذي كنت أركبه تعطل المحرك الخاص به بعد دخوله إلي البحر بأربعة كيلو تقريباً والمياه دخلت القارب وبدأ القارب يغرق لأنه صغير والحمل عليه ثقيل وبدأنا نصرخ لينقذنا أحد، وقمت برمي نفسي في البحر ومعي كل من في القارب وحاولت العوم حتي ذهبت إلي أحد مراكب الصيد وأنقذوني وبعدها عرفت أن هناك شبابًا ماتوا والباقي هرب في الزراعات المائية، قلت لأحمد ألم تتعلم وأنت قد رأيت الموت من قبل، فقال ما أنا ميت، ميت هنا ميت وهناك ميت أنا مش لاقي شغل هنا وحاولت كثيراً ومعظم شباب أسرتي سافروا لإيطاليا ونجحوا هناك ورجعوا ومعاهم فلوس، أعمل إيه هات لي حل وأنا راض بيه، فقلت له وهتحاول تاني، قال لأ والله مش ناوي خلاص، المرة دي ربنا نجاني، مش عارف المرة الجاية ممكن يحصل فيها إيه، وقد ذكرت تحقيقات النيابة التي قام بها حازم العشري رئيس النيابة الكلية ومعه عمرو سليمان وأحمد غازي ومحمد المقرحي وشريف بلال وكلاء النيابة أنه قام عشرة أشخاص يحملون أسماء وهمية بتنظيم رحلات عبر البحر المتوسط للهجرة غير الشرعية إلي إيطاليا.. وكان الاتفاق أن يدفع الشاب مبلغ عشرة آلاف جنيه و15 ألف جنيه وتوقيع أهالي الشباب إيصالات أمانة ببقية المبلغ الذي بلغ خمسين ألف جنيه لحين سداده وقت أن يصل الشاب إلي إيطاليا، وقد قاموا العشرة جناة بصنع قوارب صغيرة مجهولة المصدر عبر ورش صناعة مراكب الصيد كي لا يكشف مصدر صناعتها وكانت طريقة خط السير عبر التجمع في ثلاث قري ثم الانشغال عبر عربة نقل كبيرة إلي منزل صغير في أحد المنازل ووضع عصابة سوداء علي الشباب لعدم معرفة خط السير ثم ركوب الشباب إلي القوارب الصغيرة إلي عرض البحر علي بعد أربعة كيلو ثم الانتقال إلي مركب صيد كبيرة تنقلهم إلي السواحل الإيطالية وتنتهي مهمتهم عند ذلك، وقد استخدم الجناه تليفونات محمولة مجهولة المصدر وهي ذات خاصية الغلق ويقومون هم فقط بالاتصال بالشباب لتحديد المواعيد، وقد أدلي المجني عليهم بأوصاف المتهمين العشرة وأسمائهم الحركية وقد قامت النيابة بإبلاغ جميع مديريات الأمن علي مستوي الجمهورية بأوصاف الجناة لحين القبض عليهم جميعا، وقد أمر المحامي العام بالإفراج عن الضحايا بعد التحقيق معهم، كان علي أبواب النيابة جمع كبير من البشر، أكثر من الموجودين داخل طرقات النيابة، كان رجل يبكي بحرقة، وقد ظهر عليه الهدوء والذبول، يبكي بحرقة كأنه نادم علي شيء كبير، الرجل اسمه عبدالعليم أحمد مصطفي وقال الرجل ابني ياناس مات، ابني لسه في تالتة إعدادي، فعرفت أن ابنه هو محمد عبدالعليم أصغر شاب كان في المركب، وأكمل الرجل: راح ازاي معاهم أنا مش مصدق، الواد كان بيكلمني صحيح في الهجرة والسفر بره كنت بأقول له اتعلم الأول وبعدين سافر زي ما أنت عاوز، كان بيقول لي أنه عايز يسافر زي بقية شباب الحتة، الواد لسه عنده 13 سنة فجأة اختفي من البيت يوم الجمعة اللي فات دورت عليه في كل حتة وعند كل قرايبنا الواد فص ملح وداب، كنت فاكر أنه زعلان من حاجة كان نفسه في موبايل وأنا راجل علي قد حالي ومقدرتش أشتري له موبايل جديد ووعدته لما ينجح في الابتدائية اشتري له واحد بالتقسيط أنا قلت يمكن زعل وعامل حركات وقاعد عند واحد صحبه وهيرجع، عرفت أنه كان ماشي مع واحد من السماسرة اسمه فيصل وكان بيجيب له زباين وعشان كده سافر من غير فلوس، وركب معاهم المركب وغرق، أحمد مابيعرفش يعوم وعمره مانزل الميه، عمل كده إزاي وجاب الجرأة دي منين، أهو راح ومحدش رحمه، أكيد شهيد مش الغرقان شهيد برضه، قلت أكيد شهيد، وتركني الرجل وجلس علي ركبتيه يخفي رأسه بين ذراعيه وراح يبكي بحرقة فرحت أطبطب عليه كي يهدأ ويصبر، فهو كما قال شهيد وأنا أراه ضحية!! ذهبت إلي شاب آخر كان يحتضن أمه وزوجته التي تحمل طفلاً صغيرًا، الرجل اسمه محمد بيومي لطفي ويعمل إداري بآخر مدارس قرية فاقوس بالشرقية وعنده 33 سنة، قال الرجل دي رحلة كانت مشئومة بس أعمل إيه الظروف هي اللي خلتني أعمل كده أنا باشتغل بعقد في المدرسة ومرتبي 100 جنيه بس، قول لي أقدر أعيش إزاي بالمرتب ده وكل ما اسأل عن فرص التعيين بالتربية والتعليم يقولوا مافيش كادر تعيين للإداريين يعني حفضل طول عمري كده مش لاقي أربي العيال وعرفت من أصدقاء لي أنه فيه سمسار اسمه محمد علي بيسفر الناس لإيطاليا وهناك ممكن أي حد يشتغل أي حاجة ويكون متريش أنا حاولت كثيراً أسافر لأي دولة عربية معرفتش تخصصي مش مطلوب في أي حاجة وأنا عندي خمسة عيال وقابلت السمسار وقال لي عشرة آلاف جنيه دفعة أولي وهتمضي إيصالات أمانة ولو مش عاجبك فيه ناس كتيرة مستعدة تدفع، رهنت البيت وبعت سيغة مراتي وكل الدهب واستلفت ألفين جنيه ورحت للسمسار في ميعاده كان بيعطي لنا مواعيد مش مضبوطة وبعدين يجي فجأة لأنه خايف من الأمن ويتأكد أنه مافيش حد متراقب، ودفعت الفلوس، الحقيقة أنا اطمنت لأنه فيه ناس كتير دفعت غيري في نفس الوقت وحدد الأسبوع الأخير من شهر مارس للسفر وكتبت إيصالات أمانة بثلاثين ألف جنيه قلت له هأدفعهم فور ما أوصل إيطاليا، كانوا مفهمينا أن الشغل مستنينا هناك والفلوس كتير، فيه ناس كتير سافرت كده ونجحوا واشتغلوا وربنا فتح عليهم ويوم الرحلة أخذونا في عربية مكروباص ونزلنا وغموا عنينا بعصابة سوداء رحنا مكان بعيد في الصحراء قالوا أنها أرض مستصلحة وقعدنا في البيت يومين وبعدها أخذونا في عربية نقل مغطاة بالمشمع لنهر النيل وهناك ركبنا قارب صغير أنا الأول خفت لأن العدد كان كبير لكن محمد علي السمسار قال ماتخافش ده لسه راجع وناقل عدد زيكم وركبنا القارب ودخلنا البحر كنا في عز الليل وفجأة القارب خبط في صخرة أو أي حاجة كبيرة ماشفتش غير ناس بتصرخ وبتنط من القارب وبتنادي الحقونا ارحمنا يارب وأنا بأعرف أعوم شوية فضلت عايم لغاية لما مركب صيد جت وأخدوني معاهم، أنا سامع ناس بتصرخ وبتعيط وأنا ماكنتش عارف أنا فين ولا الساعة كام كأن زي ما يكون يوم القيامة الموج عالي ومش عارف البحر من السما كله سواد وناس بتشد في بعض وبيغرقوا بعض وشفت واد صغير كان قاعد ورايا في القارب بيصرخ وهو بيغرق ويقول الحقني ياعم والنبي أنا مابأعرفش أعوم وغرق بعد ثانية واحدة في البحر، وقابلت صالح بيومي ابن أخ الضحية السابق محمد بيومي لطفي، صالح يبلغ من العمر 18 عاما وهو خريج دبلوم صنايع ومن فاقوس، صالح قال أنا ماكنتش عايز أسافر السفرية دي، أنا قرأت كتير عن الهجرة غير الشرعية وشفت ناس من بلدنا غرقت وكنت عارف حكاية أحمد بصل، صاحبي كان مرة سافر سفرية زي دي وكان من الناجين وكل اللي معاه ماتوا لأنهم كانوا محبوسين داخل غرفة أسفل المركب ومغلق عليهم بالقفل والمركب غرقت وهم كانوا بيكسروا في الباب وغرقوا كلهم وهو الوحيد اللي نجا من الموت، لكن أبويا كان مصمم أسافر لأني مش لاقي شغل في أي حاجة الدبلوم دلوقتي مابيشغلش وأنا وأخواتي سبعة، أبويا شجعني ودفع لي الفلوس للسمسار وهو اللي عمل كل حاجة وشجعني وقال لي عمك مسافر معاك ماتخافش وأنا مابأعرفش أعوم وركبت القارب مع اللي ركبوا لغاية لما القارب غرق أنا كنت قاعد في الآخر وكنت شايف الميَّه وهي بتدخل القارب لأنه كان مدروج للخلف من كتر التقل من الناس اللي راكبة وأول ما شفت الميه نطيت في البحر وأنا بأصرخ وأخذوني حرس السواحل وفيه ناس كتير هربت في الأراضي الزراعية أول ما وصلوا الشط أنا كان قلبي حاسس رغم أن أبويا قال لي السماسرة دول محترمين وسفروا ناس كتير قبل كده لكن أنا كنت خايف رغم أن القارب جديد من شكله لكن كان صغير ومين عالم لو كنا وصلنا المركب كان يمكن نكون دلوقتي في إيطاليا، قلت بتحلم بإيطاليا ياصالح، فقال صالح بأحلم بأكل العيش كلها بلاد ربنا!! ولاد حلال ومن فاقوس.. سمير عشماوي دبلوم تجارة كان يجلس وسط أسرته كلهم كانوا في حالة ذهول ومعظم أياديهم تطبطب علي سمير، وهو حالة نادرة تثبت لك أن للموت ميعادًا محددًا، فيقول أنا مابأعرفش أعوم، وكنت وأنا في القارب قاعد أقرأ القرآن المعوذتين وقل هو الله أحد، أخذوا المصحف مني وكل متعلقاتي الشخصية والحق السماسرة كانوا ولاد حلال معايا، أنا كنت عايز أسافر لأني مش لاقي شغل في مصر، وعارف ناس كتير سافرت إيطاليا واشتغلت.. أنا ممكن أشتغل أي حاجة بس المهم يكون فيه شغل ورحت للسمسار أبوالفضل، رجل طيب وربنا يسامحه قلت له مامعييش فلوس وعايز أسافر، أنا خلاص هأنتحر، قال لي سيبني أفكر يومين ثلاثة وبعدها اتصل بي وقال هتسافر من غير مقدم، بس هتمضي إيصال أمانة بالمبلغ كله خمسين ألف جنيه هتدفعهم لما ترجع، قلت ماشي أمضي، وأنا كنت ناوي أدفع أول ما أرجع في أول زيارة لازم أكون عند كلمتي، ورحت معاهم وركبت القارب الصغير والناس كانت كتير وانقسمنا علي قاربين كل قارب 70 فرد وكانوا بيعدوا وإحنا بنركب، قارب نجا وسافر أفراده، وقاربنا غرق في البحر، وأنا كنت بأصوت لأني مابأعرفش أعوم ورميت نفسي في الميه وأنا بأصرخ حد يلحقني ولقيت برميل عايم علي الميه مسكت فيه وأنا بأنادي علي أي حد ينقذني وماكنتش شايف أي حاجة كل اللي حاسه أني سامع ناس بتصرخ وناس بتنادي علي أهلها وهي بتغرق لغاية لما وصلت مركب صيد ربنا يحميهم أنقذوني من الغرق فرددت أمه نفس عبارته، ربنا يحميهم من كل شر قادر ياكريم، وأكمل سمير ده درس عمري ماهأنساه من ربنا، الموت ده قريب قوي من الإنسان. عائلة مهاجرة أما عائلة سعد عبدالمالك من كوم حمادة، فهي عائلة تخصص هجرة غير شرعية، فقد كانت الأم تجلس علي الأرض تبكي وتلطم خديها، فهي تبكي علي ابنها محمد فابنها الأكبر سعد هاجر إلي رومانيا منذ عامين بنفس الطريقة، لكن كتبت له النجاة ووصل سالماً والوالد كان في طريقه إلي ليبيا مع ابنه الأصغر أحمد وسعد الأب يقف حزينا مترقباً، فابنه أحمد لم يكن من الغارقين كما أن ابنه محمد لم يكن من المقبوض عليهم من الناجين، أي أنه مفقود ومن الهاربين إلي الآن فلم يظهر ولم تظهر جثته، يقول الأب أنا حداد ورزقي علي قد الحال وعندي خمسة عيال وكلهم عايزين يتجوزوا يعيشوا زي مخاليق ربنا وأنا راجل علي قد حالي والبلد مافيهاش شغل ابني الكبير أخدها من قاصرها وطلب يسافر قلت مامعييش فلوس، معرفتش أعمل إيه، لقيته بيتصل بي من رومانيا وكلمنا في التليفون وقال إنه شغال هناك ميكانيكي في مصنع سيارات وربنا وفقه ومحمد خريج دبلوم تجارة وكان بيشتغل معايا حداد وأنت عارف شغلنا مواسم ورزقه علي القد والواد شايف أنه مالوش مستقبل غير في السفر، قال لي أنه عاوز عشرة آلاف جنيه طلب من أخوه الفلوس من رومانيا وأنا كمان لقيت شغلة في ليبيا حداد برضه وقلت محمد يسافر إيطاليا وأروح أنا ليبيا ومعايا أحمد الصغير وربنا بيرزق ودفعت له المقدم ووقعت علي إيصال الأمانة عشان أضمنه وليلة السفر ودعت محمد وقلت له لو حصل أي حاجة في البحر مايخافش هو بيعرف يعوم كويس وأنا شفت الخوف في عينيه وطمنته ورحت معاه لغاية ما ركب مع زمايله العربية النقل، ما كل الشباب عندنا بيعمل زيه ويسافر وربنا بيكرمه هناك اشمعني يعني محمد، وماأعرفش راح فين أنا خايف ليكون غرق وجثته ماظهرتش، قلت له عندك أمل أنه ركب القارب اللي نجا من الغرق، قال يارب، أسبوع وهنعرف لو مااتصلش يبقي غرق، وهنا علا صوت الأم عالياً بالدعاء وهي تقول ربنا ينجيك يامحمد ويرجعك بالسلامة ومازال عند الأسرة المهاجرة أمل أن يكون محمد ضمن الناجين وضمن المسافرين ويتصل بهم من إيطاليا يبلغهم أنه وصل. طوال رحلتي داخل وخارج نيابة كفر الشيخ كنت أشعر أنه يوجد من يراقبني في كل حركة، بل كان يتدخل في الحوار مع الناس وعندما كنت أسأله من أنت كان يقول باتفرج، وقبل أن أغادر النيابة سألت أمين شرطة، تعرفه ده، ضحك أمين الشرطة وقال. ده ناضورجي من السماسرة كل السماسرة بيبعتوا ناضورجية وكانوا مانسيين مع عربية الترحيلات يطمنوا الناس أنهم هيخرجوا لأن ماعليهمش أي قضايا ويطمنوا الناس أنهم معاهم دايماً، قلت كده عيني عينك، قال أثبت حضرتك كده، دول بالهبل في كل سفرية وماتعرفش تمسك عليهم حاجة، وقد سألني أمين الشرطة عن معرفة تنقله إلي وزارة الكهرباء لأن بها فلوس كتيرة قلت ماأعرفش وخرجت من أمام النيابة وأنا أسمع صوت البكاء وصوت فرحة النجاة وفرحة التلاقي ورحت أتخيل مشهد غرق القارب والشباب يصرخ وهو الذاهب بإرادته إلي الموت، بل ودفع الكثير ليسافر، ولو أنه فكر وحاول أن يعمل بمقدم السفر لتبدل حاله، لكن يبدو أن اليأس قد أمسك قلوبهم جميعاً، وعدوي السفر وعدوي المال كانت أقوي عندهم من أي شيء آخر وكانت تعميهم عن الموت القريب جداً منهم، وكلما تذكرت مشهد غرق القارب، كنت أغمض عيني غير مصدق، ومفزوع.. مهذلة!!