مراكب الهجرة غير الشرعية طريق الموت للشباب حوادث غرق لكثير من شبابنا في عرض البحر خلال العامين الماضيين.. »رحلات موت« غامروا من خلالها بحياتهم.. ركبوا الخطر متمثلا في قوارب متهالكة أبت ان تصل بهم الي بر الامان.. أغرقتهم وقدمتهم طعاما لسمك القرش.. وفي كل مرة تنشر الصحف النصح والارشاد للشباب.. والمواساة لأهالي الضحايا، لكن دون جدوي.. فمسلسل رحلات الموت مازال مستمرا.. وهي رحلات لم تعد مقصورة علي الفقراء والمعدمين.. انما تشمل متوسطي الحال من الحالمين بالثراء السريع أيضا. تري لماذا لم تتوقف هذه الرحلات رغم القبض علي سماسرة الموت ومحاكمتهم؟.. ولماذا يقدم الشباب علي المخاطرة رغم علمهم ان السفر قد يكون بلا عودة؟! وهل يكون حادث مطوبس آخر حوادث الخطر؟! مع كل حادث غرق للمهاجرين عبر المجهول.. أو حادث نصب علي راغبي السفر بأي ثمن.. أو حادث مقتل شاب في عمر الزهور هاجر طفلا.. وذاق مرارة الغربة والذل في بلاد اعتقد انها الجنة فوجدها جحيما أحرقه فعاد الي أهله داخل نعش بارد لتبكيه امه التي باعت مصاغها القليل لتجمع آلاف الجنيهات ليأخذها سمسار أو »نخاس« يشحنهم في مراكب متهالكة.. وسواء ماتوا غرقا أو قتلا في الغربة أو عادوا سالمين غانمين.. تظل ظاهرة الهجرة غير الشرعية غريبة علي المصريين الذين يعشقون الاستقرار وتبقي الأسباب معروفة والعلاج ممكنا.. ولكن متي تبدأ الخطوة الأولي؟! طالما وجدت اسباب الطرد من بطالة وفقر وجهل وتقليد للمهاجرين العائدين بالخير الوفير فسوف يظل المغامرون يجمعون مدخرات اهلهم ويستدينون ليسافروا الي بلاد الاحلام ثم يكتشفون الكابوس المرعب الذي سعوا إليه بأنفسهم! هنك قري معروفة بالدلتا وبالصعيد يخرج ابناؤها للهجرة غير الشرعية.. ورغم احتياج هذه القري بالذات لتكثيف التوعية باللقاءات المباشرة بالشباب وبالاهل.. الا ان الجمعيات الاهلية واعضاء مجلس الشعب والعمد ورجال الدين الاسلامي والمسيحي لم يؤدوا دورهم علي الوجه الاكمل لاقناع الشباب بأن فرصهم في بلادهم افضل من السفر للمجهول. احدي هذه القري المعروفة بهروب شبابها للخارج قرية »تطون« بالفيوم التي زرتها منذ عامين تقريبا لعمل تحقيق ميداني عن الهجرة غير الشرعية. يوم في ميلانو في يوم لن انساه قضيته مع أهل البلد التي يسمونها »ميلانو« لان شبابها هاجروا وكونواجالية هناك والعائدون منهم بنوا فيلات حديثة علي الطراز الايطالي فوق الارض الزراعية التي تآكلت وزحف عليها المسلح.. واتذكر كيف يفخر العائدون من ايطاليا بنجاحهم وبأنهم تزوجوا بمهر بآلاف الجنيهات وان شبكة فتيات القرية لا تقل عن 002 جرام ذهبا! وكيف يتكاتف اهل القرية ليجمعوا للشباب الذي لم يسافر بعد والذي ينتظر دوره علي المقاهي، لكي يدفع للسمسار ليسافر عبر البحر، حتي الاسر التي فقدت احد ابنائها غرقا خلال رحلة المجهول تدفع بالابن الاصغر في نفس الطريق.. كان منطق هؤلاء المهاجرين عجيبا ايديهم خشنة من العمل في المعمار وحمل الاثقال والمهن التي لا تحتاج مهارة لكنهم يستضيفون المهاجرين من بلدتهم ويعينونهم حتي يعتمدوا علي انفسهم، ولا انسي قول احد المهاجرين الذي كان في اجازة قبل عودته لميلانو ان بلدهم ليس فيها فقير لان افقر سكان البلد »يأكلون الشيكولاته«! لم يشعر احدهم بالذنب لاغتيال الارض الزراعية وانما افتخروا بالعمارات التي شوهت شكل القرية وتسابق الجميع سواء المتعلمون والاميون لتسفير اكبر عدد من الشباب وعندما سألتهم عن نسبة المسافرين قالوا: 59٪ من شبابنا في ميلانو وال 5٪ الباقين يستعدون للسفر! هجرة اضطرارية بداية يعترض د. محمد النجار استاذ الاقتصاد بجامعة بنها علي تعبير الهجرة غير الشرعية الذي شاع استخدامه في السنوات الاخرية ويميل الي تسمية هذه الظاهرة بالهجرة الاضطرارية لانها مشكلة شباب ضاقت بهم سبل العيش الكريم داخل بلادهم لسبب أو لآخر.. فلم يجدوا غير المخاطرة بحياتهم والسعي لمستقبل مجهول.. لكن هذه الهجرة سلوك فردي يحمل مخاطرة محسوبة أو غير محسوبة! والفكر الرأسمالي يشجع هذا الاتجاه ويري ان استعداد الانسان لتحقيق اي خطوة للامام يعتمد علي استعداده للمخاطرة أو المغامرة.. بل ان كل الذين صنعوا الانجازات عبر التاريخ لم يكونوا إلا مغامرين ولم يكونوا نمطيين!! وليس عيبا ان يفكر كل انسان بطريقته الخاصة لحل مشكلاته الخاصة ولكن المشكلة تكمن في المخاطرة غير المحسوبة التي قد تصل للتضحية بالحياة في حد ذاتها. وهذه المخاطرة ترجع لاحد أمرين أولا: لتعليم الشاب ووعيه ورؤيته للاطار الكلي لحركته وحركة مجتمعه. وثانيا: المجتمع الذي يدعو شبابا غير كسالي ويرغبون في الكسب الشريف بعيدا عن اي ممارسات اجرامية او غير قانونية. اذن فالقضية هي البحث عن منابع الظاهرة وليس عن اعراضها. نرفض سد الخانة والحل؟ يري د. محمد النجار ضرورة رفع درجة الوعي للشباب عبر وسائل الاعلام والكنيسة والمسجد والاسرة والاندية والمقاهي وكل وسائل التأثير المتاحة داخليا وخارجيا حتي نعرفهم بمخاطر السفر ومحاذيره وكيف يضمن حقوقه حتي لا يتعرض للنصب وتضيع مدخراته وقد يخسر حياته، اما المجتمع فيجب ان يكون جاذبا لابنائه وان يوفر لهم فرص عمل مجدية بأجر معقول يمكنهم من الحياة الكريمة لا وظائف صغيرة تعتبر »سد خانة« لمنع التبطل او ان تكون الوظيفة مناسبة لمؤهلات الشاب وامتدادا لكفاءته وتتيح له تطوير ملكاته حسب ما تؤهله له مواهبه وهذا ما يحدث في المجتمعات التي تسعي للتطور بعكس المجتمعات الراكدة التي تضع الفرد داخل قالب من الصعب الخروج عنه، بالاضافة الي الاهتمام برعاية المصريين بالخارج ووجود تواصل حقيقي بين السلك الدبلوماسي والقنصلي من جهة وبين المواطنين المصريين المقيمين بالخارج من جهة اخري لحل مشكلاتهم وللاسف فإن معظم قنصلياتنا وسفاراتنا في الخارج لا تقوم بهذا الدور كما ينبغي.. اذن فالشاب الذي يهاجر للخارج اما لا يقدر حجم المخاطر التي تنتظره أو ان ظروفه الداخلية طاردة أو لان الظروف الخارجية جاذبة.. فعلينا ان نخفف من مخاطرها »علي الاقل« حتي لا يدفع شباب في عمر الزهور حياتهم ثمن المخاطرة غير المحسوبة. طريق شاق أما د. شريف قاسم استاذ الاقتصاد بأكاديمية السادات للعلوم الادارية وامين عام نقابة التجاريين فيري ان الهجرة ظاهرة تحدث في العالم كله.. لكن الشباب الاكثر ثقافة لا يفكرون في الهجرة إلا بالطرق الشرعية اما ذوو الثقافات المحدودة أو المتوسطة فتدفعهم الحاجة الاقتصادية للبحث عن وسيلة لاكتساب الرزق بصرف النظر عن الملاحقة الامنية التي سيتعرضون لها خلال سفرهم غير الشرعي عبر البحار في قوارب الموت أو تلاحقهم السلطات في البلاد التي يهاجرون اليها دون الحصول علي تأشيرات دخول أو تصاريح عمل وهذا الفريق اكثر تحملا للظروف غير الانسانية التي يتعرضون لها اما الطبقات المثقفة فتحرص علي عدم التعرض للمضايقات وتخضع للقوانين والانظمة في اي مجتمع تتواجد فيه. ويضيف: ان السعي للرزق امر مشروع انسانيا واقتصاديا، ومن الطبيعي ان يتجه الشباب للهجرة تحت ضغط البطالة والطموح للحياة اكثر هناء ورحابة، ويتصور كثيرون ان السفر للخارج يختصر الوقت والجهد ليحقق مستوي معيشيا مرتفعا في حين انه طريق شاق وحافل بالكفاح فلو نجح المهاجر في الوصول سالما الي الدولة التي يهاجر اليها دون ان يغرق في البحر.. فلن يستطيع الحصول علي عمل بسهولة إلا في الاعمال البسيطة التي لا تحتاج لمهارة لينال اجرا محدودا يكفيه بالكاد ليعيش مع عدد كبير من زملائه في غرفة صغيرة ولن يستطيع الادخار ليرسل المال لاهله وربما يستدين من المصريين المهاجرين حتي يرسل المال لاسرته ويكذب عليهم ليطمئنهم بأن احواله جيدة في حين انه يشعر بالحرج من العودة لوطنه حتي لا يشعر الاخرون بفشله فتزداد مشكلته تعقيدا ويزداد عدد المتعطلين من المهاجرين بالخارج!! الجنة الموعودة ويركز د. شريف قاسم علي فكرة التقليد والمحاكاة التي تحكم ظاهرة الهجرة في القري عندما يشاع ان الشباب المهاجرين يعودون بمال وفير ويشترون بيوتا ويتزوجون وينفقون ببذخ.. فيتصور الشباب العاطل ان تلك الدول هي الجنة الموعودة. وتنتشر التجربة من قرية لاخري لعدم صدق الصورة الحقيقية لمعاناة هؤلاء المغتربين لان اغلبهم يستنكفون الاعتراف بالحقيقة ولا يحكون عن الحياة غير الانسانية التي يعيشونها ويفكرون انهم سوف يخسرون الرهان الذي قطعوه عند السفر ويخجلون من ضياع مدخرات اهلهم الذين باعوا اراضيهم ومصاغ أمهاتهم حتي يجمعوا آلاف الجنيهات ليأخذها سماسرة النصب علي الشباب فيدفعونهم للموت غرقا أو للمعاناة في الغربة ويتصور بعض الاهل ان السمسار الذي يأخذ مبلغا اكبر سوف يوفر وسيلة سفر اكثر امانا للابن المهاجر الذي سيجد نفسه في الجنة بمجرد ان تطأ قدمه علي الشط في حين انه يبدأ رحلة عذابه تستمر لسنوات يضيع فيها شبابه وربما تضيع حياته نفسها مثلما حدث للشاب القتيل في ميلانو وغيره كثيرون! ظروف طاردة! وتؤكد د. عزة كريم استاذ الاجتماع بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية ان ظاهرة الهجرة غير الشرعية لن تنتهي طالما ان ظروف الشباب سيئة وطاردة وتشجع علي الهجرة فيجب ان نعرف ان الشباب لا يسعون للهجرة لمجرد حبهم للسفر أو طمعا في المال أو الغني السريع، لكن حل هذه المشكلة يحتم علينا ان نكون واقعيين ونعرف ان ظروف الشباب جعلت مستقبلهم مغلقا امامهم.. فهناك نسبة كبيرة من العاطلين خاصة من حملة المؤهلات العليا والمتوسطة حتي من يعثر علي عمل فلا ينال عنه إلا اجرا محدودا يحرمه من حقه في السكن والزواج والتخطيط للمستقبل لهذا يسعون وراء المجهول فيلقون الهلاك.. لان وجودهم في بلدهم اكثر سوءا من مغامرة السفر حتي لو عاقبهم القانون بمصر أو بالدول التي يسافرون اليها فسوف يخرقون القانون ولن يحترموه طالما يرغبون في تحقيق احلامهم في الاستقرار المادي لهذا يجب علي الدولة ان تحمي شبابها وتستثمر قدراتهم ومجهودهم وامكانياتهم لتنمية مجتمعنا ولابد من اعادة النظر في التشريعات الخاصة بالشباب واهمها قانون الاسكان الذي يمنع معظم الشباب من الاستقرار والزواج فالايجارات الجديدة مرتفعة والسكن مؤقت غير دائم والتمليك اسعاره خيالية حتي مشروعات اسكان الشباب اسعارها مرتفعة عن امكانيات معظم الشباب، فتحول الزواج الي معجزة أو حلم مستحيل مع انه حق لكل شاب إن لم يحققه في الوقت المناسب فربما يتحول الي الانحراف ويرتكب الجرائم وربما يدمن المخدرات. تعديل قانون العمل وتضيف د. عزة كريم: لابد من إعادة النظر في قانون العمل الذي حول الوظائف الي تعاقدات مؤقتة غير مأمونة فيعمل الشاب بأجر بسيط ويتعرض لاهواء صاحب العمل وربما يستغني عنه في اي وقت فيجد نفسه في الشارع دون حقوق لان القانون اعطي سلطة مطلقة لصاحب العمل الذي لا يهتم إلا بمصلحته ويسعي لتحقيق اكبر قدر من الارباح علي حساب مصلحة عماله، لهذا يضار العمال والموظفون من الشباب من عدم الاستقرار في العمل والسكن وتذبذب الدخل مع ارتفاع الاسعار بشكل دائم بما يشكل تحديا متجددا كل يوم يهدم آمالهم. ورغم ان الدول الرأسمالية فيها حراك في العمل ولكن لديها ايضا تأمين بطالة ونظام دقيق لمحاسبة صاحب العمل اذا تجني علي العامل، ومكاتب عمل توفر فرصا للعاطلين في أماكن اخري. وتؤكد د. عزة ان الشباب طاقة لا حد لها، ومعظم سكان مصر من الشباب وهم قوة لا يستهان بها اذا احسنا توجيهها.. لكن الشباب يتخرج ولا يستطيع ان يجد فرصا للعمل أو للزواج ولا يستطيع ان يستقل بحياته ولو في مستوي معيشي منخفض، لهذا اتوقع مزيدا من اقبال الشباب علي الهجرة لان هناك ضغوطا من البطالة والغلاء وعدم العدالة في المجتمع، واصبح الحصول علي الوظيفة بالواسطة ولا يحصل عليها إلا معارف وابناء اصحاب المال والنفوذ مما يؤدي لعدم انتماء الشباب للمجتمع ولجوئهم للهجرة سواء كانت شرعية أم غير شرعية، والاخطر من هذا زواج الشباب المصري من اسرائيليات وانجاب اطفال لا ينتمون لمصر! وبهذا ندفع شبابنا نحو الهلاك ونخسر رأس مال هائلا وطاقة عمل غير محدودة، لان المجتمع بدون شباب أو بشباب متهالك هو مجتمع في حالة شيخوخة اجتماعية، ولن نستطيع ايقاف الهجرة غير الشرعية أو الحد منها بالتوعية ولا بالقانون الذي يجرم الهجرة وانما نحلها بحل مشكلات الشباب وربطهم بالمجتمع ليقوي انتماؤهم وفتح فرص العمل والسكن والزواج ليصبحوا مواطنين صالحين.