في نهار رمضاني حار مثقل بالرطوبة، يتفادي سائق التاكسي زحام السيارات عند نفق الأزهر ويقرر السير في منطقة الحسين، ومع حركة السيارات البطيئة كنت أتأمل الناس، وكلما وقع نظري علي أحد المارة أجده يحمل حملا: امرأة بالعباءة أو الجلابية السوداء تحمل فوق رأسها حملا ثقيلا عريضا جوالا مملوءا ملفوفا بقماش أبيض تضعه فوق رأسها وتسير به، بائع للخبر فوق دراجة وفوق رأسه قفص من الجريد لأرغفة العيش، أم تحمل طفلها فوق رأسها وتمسك بيدها الآخر، شيخ يحمل توب أقمشة فوق رأسه...شعرت أن تلك المشاهد ليست مجرد صور أراقبها وهي تمر أمامي ولكنها «حالة».. إنها حالة تلك المرأة بل حالة كل المصريين. كلما تلفت في شوارع القاهرة أجد رجلا أو امرأة يحمل حملا ثقيلا ويسير به، أكياسا أو أجولة أو صناديق من الكرتون أو حتي أطفالا فوق الرؤوس... لماذا فوق الرأس؟.. والذين يحملون الأحمال هم من يسيرون علي الأقدام، إنها حالة يعيشونها..يحملون فوق رؤوسهم أحمالهم وما تحمله صدورهم من الهموم أثقل..و يتحملون . احتفظت ذاكرتنا بصور مغايرة تماما لما نراه الآن ولما هو حقيقي ساهمت فيها السينما المصرية ... صور الفلاحات المصريات في أفلام محمد عبد الوهاب القديمة ..كان يتم تصوير الفلاح كما يقول محمد عبد الوهاب «متهني القلب ومرتاح»، حيث تظهر الفلاحات في أفلامه في صف طويل تحمل كل منهن جرة فخارية«بلاص» مائلة علي رأسها دون أن تسندها بذراعيها.. تسير الفلاحات ضاحكات متوجهات إلي النيل أو الترعة لملء الجرار بالمياه. كانت خطوة الفلاحة وهي تسير رافعة رأسها محررة ذراعيها مثبتة الجرة بتوازن فوق رأسها، نموذجًا يدرس في الرشاقة واللياقة الطبيعية... لكن ذاكرة طفولتي انطبعت بها صور واقعية لبائعات قرويات يأتين للمدينة، يحملن قفصا من الجريد بداخله طيور، أو إناء كبير من الألومونيوم «طشت»، مغطي بقماش أبيض بداخله جبن قريش أو زبد بلدي، و كان عندما تريد إحداهن وضع حملها علي الأرض للتفاوض في البيع تطلب المساعدة و تقول :«حططني» فيهم أحد الرجال بمساعدتها في رفع الحمل عنها ووضعه علي الأرض، وكانت عندما تهم برفع حملها مرة أخري تقول : «شيلني» فيساعدها آخرون علي وضع الحمل فوق رأسها..كانت الأحمال وقتها خفيفة ومجزية .. كما أن مسلسل الحارة الذي عرض في رمضان صدقنا القول فصدقناه، عندما نجح مخرج العمل في التقاط صور حقيقية لأهل الحارة المصرية من شيوخ ونساء وأطفال في حي الأباجية الشعبي في القاهرة واستخدمها في مقدمة ونهاية الحلقات...عيونهم تحمل حمولا وهموما، اليد علي الخد، والمشية شاردة، والوجوه متجهمة، و الشيوخ بلا حيلة، والأطفال بلا ابتسامات، والشباب بلا أمل ... الوجوه والعيون والخطي والشرود جميعها «حالة» يعيشها من يسكن الحارة والشارع والقرية والمدينة، حالة من يثقل عليه حمله. وفي مشهد مختلف تأملت جموع الناس بالآلاف المتوجهة أو الخارجة من المساجد بعد أداء صلاة التراويح أو التهجد في ليل القاهرة، ملأت الجموع الشوارع وأوقفت سير السيارات بل وأوقفت عمل شبكات المحمول للضغط الذي واجهته تلك الشبكات لمجرد محاولة اتصال كل مصلٍ بالاخر، واضطر الأمن إلي نشر أعداد كبيرة من ضباط وأمناء الشرطة في جهد كبير لاستعادة الانسياب إلي حركة الشوارع... هؤلاء الفرادي الذين لا يعرفون بعضهم بعضا لكن جمعهم هدف واحد وموعد واحد ووجهة واحدة، و الذين تخلوا عن أحمالهم للحظات قصيرة نادرة، مثلوا دون أن يدركوا قوة حقيقية، رجال ونساء وشباب وشابات وحتي أطفال سائرون علي الأقدام يوقفون حركة سير السيارات ويفرضون حالة من الطوارئ في الشارع لمجرد وجودهم معا جنبا إلي جنب .... وتذكرت المرأة التي شاهدتها في حي الحسين والتي كانت تسير وحدها هي وغيرها وتذكرت مدي ثقل حملها الذي ترفعه فوق رأسها ورددت في نفسي «ورفعنا عنك وزرك» وتساءلت: ألم يأن الأوان أن تجد أحدا يساعدها علي أن تضع حملها الذي أثقل ظهرها أو أن «يحططها؟».