داخل مبني أمن الدولة الضابط يداعب أحد طلاب الإخوان المسلمين المعتقلين في أحداث جامعة الأزهر أثناء تصوير وجهه قائلا: «اضحك الصورة تطلع حلوة..شفت الفيلم ده؟».. هذا نموذج لشخصية الضابط التي تظهر في مسلسلاتنا الرمضانية هذا العام، وهذه المداعبة الرقيقة للغاية التي تبدو شبيهة بحوار ضاحك بين اثنين أصدقاء، جاءت في أحد مشاهد مسلسل «الجماعة» الذي كتبه السيناريست الكبير وحيد حامد متناولا من خلاله تاريخ جماعة الإخوان المسلمين من خلال سيرة مؤسسها الشيخ حسن البنا.. صورة الضابط في باقي المسلسلات لا تختلف كثيرا، لكنها تتنافس فيما بينها علي من يفوز بلقب «الأكثر مثالية»، ففي مشهد آخر من مسلسل «الجماعة» نري ضابط أمن الدولة الذي يقدم دوره ياسر علي ماهر يصر أثناء التحقيق مع عبد العزيز مخيون أن يطلب له فنجان قهوة، ثم يبدأ في مناقشته في تفاصيل تمويل الجماعة، ويعرض عليه بكل هدوء اتهامات غسيل الأموال، بل ويسمع رأيه وردوده ويتيح له الفرصة للاعتراض والتوضيح، وكأنهما في صالون ثقافي وليسا في لاظوغلي. ياسر ماهر يقدم الشخصية بكل هدوء وطيبة وشياكة، فهو طوال الوقت، يتحدث بصوت خافت، حتي عندما ينفعل، هناك وفي المسلسل ذاته نجد ضابطا آخر يسأل أحد الطلاب المعتقلين إذا كان يريد شرب كوب من الشاي، فيرد الطالب: «ياريت.. ده في وقته». أما أمين الشرطة صلاح في مسلسل «الحارة» الذي يجسد دوره باسم سمرة، فهو يبكي ويتأثر ويمتنع عن الطعام لعدة أيام عندما يتسبب في قتل تاجر مخدرات عن طريق الخطأ، حتي أنه يحوّل حياة أسرته إلي جحيم، ويظل يردد: «والله ما كنت عارف إنه مسدس صوت».. في إشارة إلي أنه اضطر لإطلاق النار علي المجرم عندما بادر هو أولا برفع مسدسه، لكن صلاح يلوم نفسه ليل نهار بعدما اكتشف أن المسدس الذي كان يحمله كان الغرض منه التشويش فقط. أما الرائد شريف ضابط مسلسل «العار» فهو شريف جدا، متجهم علي طول الوقت، وكلامه مثل حد السيف، ولا يفرق في معاملته للمجرمين بين مجرم ذي نفوذ، وذي سلطة، وآخر لا يمتلك قوت يومه، ويرفض دوما، وبشموخ معاملة بعض المسجونين «المتوصي عليهم» معاملة خاصة مهما كان الثمن، والمفاجأة أنه دائم الترقي في وظيفته، ودوما يحظي بتقدير رؤسائه لأخلاقه الطيبة، ومراعاته لقواعد مهنته، أحد في أحد مشاهد مسلسل «كابتن عفت» يدخل ضابط المرور في حوار يستمر لأكثر من ربع الساعة مع عفت أو ليلي علوي حول مشاكلها العائلية، واضطرارها لاستخدام سيارتها لنقل أبناء أصدقائها للمدارس، وبعد أن يتأثر بحكايتها يتركها تكمل سيرها دون أن يوقع عليها غرامة، وفي مسلسل «قصة حب» مشاهد عديدة لخالد سرحان الذي يؤدي دور ضابط الشرطة - عرفان- أيضا يتحدث فيها عن مشاكل الضباط المادية وتضحيتهم من أجل وطنهم. أما الضابط ممدوح «أحمد السعدني» في مسلسل «قضية صفية»، فهو ملاك بجناحين.. شعر أن «صفية» المتهمة في قضية قتل شقيقها مظلومة، فهربها من مستشفي السجن، وخلالها تعيش وسط أهله في بيته تفطر معاهم وتنام مع أخته علي سرير واحد.. كل هذا لأن لديه شعورا بأنها مظلومة وبريئة، كذلك لم تختلف صورة العقيد حسن الذي يقوم بدوره خالد الصاوي في مسلسل «أهل كايرو« كثيرا، فهو ضابط هادئ الطباع، ولطيف جدا، ودائم السعي وراء الحق، وما بيعملش حساب لحد في الشغل، وإن كان المسلسل يقدم هذه الشخصية مدعمة بتفاصيل أكثر.. تزيد من عمقها، وتلقي الضوء علي خلفيتها، وبالتالي فهي لا تعرض من خلال بعد واحد كما هو في باقي المسلسلات، لذا فإنها الأقرب منطقية، لكنها تشترك مع مثيلاتها في أن بها مساً من المثالية نادرا ما نجده، لذا فإن الموضوع يبدو غير مفهوم بالمرة، أن تجتمع كل تلك الحالات النادرة في موسم رمضاني واحد، فكما نري ظهرت صورة الضابط في أغلب مسلسلات رمضان بطريقة تقترب من المثالية، وفي أوقات أخري تتجاوز المثالية لتصل لحد الملائكية، نظرا لحساسية الضباط المفرطة.. بالطبع هناك ضباط كثيرون يؤدون عملهم كما يجب، وهم بالطبع مثال جيد جدا لزملائهم، لكن هل هي مصادفة بريئة فعلا أن تظهر شخصية الضابط في جميع الأعمال المعروضة في رمضان هذا العام بشكل واحد ونمط لا يتغير إلا في تفاصيل طفيفة.. هل الدراما المصرية مجتمعة اتفقت أن ضباط مصر كلهم نسخة واحدة صالحة، لتصبح تلك الصورة الوردية لرجال الداخلية ركنا أساسيا في معظم الأعمال الدرامية هذا العام، وهل اتفق كتاب السيناريو علي أن يفسحوا تلك المساحة لأبطال مسلسلاتهم ليلقوا خطابات إنشائية عن أدب وأخلاق رجال الشرطة وتعبهم من أجل أمننا وعدم تقدير الشعب لهذه القائمة الطويلة من التضحيات، وتتحول الصورة إلي شاشة تستعرض وقار رجال أمن الدولة، واستئذانهم قبل الدخول إلي منزل أحد المطلوبين.. نعرف أن رجال الأمن وأفراد الداخلية ليسوا جميعا أبطال كليبات التعذيب أو تلفيق القضايا أو مستخدمي العنف مع المواطنين، لكنهم ليسوا أيضا بتلك الصورة الملائكية التي يصدرها لنا كتاب الدراما ويرغموننا علي ابتلاعها، وكأن ضباط الأمن الذين نراهم في الشارع من كوكب آخر لا ينتمي له ضباط الشاشة.