في الطائرة التي عادت بي أمس إلي أرض الوطن، ما إن استويت علي مقعدي حتي وجدت الراكب الجار الجالس بجواري يطوي ويزيح كومة ضخمة من الصحف المصرية كان يسبح في عناوينها، ثم حملق في وجهي ملياً لمدة هنيهة واحدة قبل أن يسألني: هل أنت فلان الفلاني؟ .. انفشخ ضبي رغماً عني وجاوبته بخليط من السرور والحبور والتواضع الكاذب «نعم هو أنا»، فقال: أنا أقرأ لك .. وبنوع من الخفة الممجوجة سألته بدوري : أهو أنت الذي تقرأ ما أكتب؟! اكتفي الرجل بابتسامة شاحبة وغامضة لم أتمكن من قراءة معناها لأنه سحبها بسرعة البرق وانطلق فوراً يحدثني في شئون السياسة وأوضاع البلد التي اعتبرها منيلة بستين نيلة ولا تسر عدواً ولا حبيباً، لكنني اختلفت معه وصارحته باعتقادي أن أوضاعنا ربما تسر العدو وتطمئنه تماماً وتشرح صدر أهله، غير أنه عاند وأصر علي أن العدو نفسه يرثي لحالنا الهباب، فآثرت الصمت وعدم المقاوحة كثيراً في هذا الأمر لئلا أضايق الرجل مني وأفقد قارئاً عزيزاً ونادراً في هذه الأيام السوداء. المهم .. ظل الراكب القارئ طوال الرحلة ينتقل من موضوع لآخر ويقفز بخفة واقتدار من عنوان مصيبة إلي مصيبة أخري دون أن يفوته تكرار دعوتي للمقارنة بين أوضاعنا وأوضاع بلدان ودول أخري في الدنيا كانت أقل حظاً وشأناً منا بيد أنها أخذت بأسباب التقدم والنهوض فيما نحن أخذنا وتمسكنا جداً بأسباب التأخر والقعود، ورغم أنني لاحظت في نبرته المنفعلة وكأنه يظن أن العبد لله هو المسئول عن كل ما جري في البلد، غير أني لم أجرؤ للسبب السابق ذكره علي قطع استرساله بأي توضيح لموقفي من المصائب التي يستعرضها ويعددها، وبقيت فقط أهز رأسي وأزوم بما معناه التسليم الكامل والمطلق بكل ثرثراته وتحليلاته العميقة للوضع القائم في البلاد حتي هبطنا بسلامة الله إلي أرض مطار القاهرة، وفي هذه اللحظة وقبل أن يسمح لنا قائد الطائرة بفك الأحزمة وفتح «الموبايلات» تذكر رفيق الرحلة أن وقتها شارف علي النفاد دون أن يسمعني تعليقه علي خبر الحكم بحبس الشاب «أحمد دومة»- عضو حركة «6 أبريل»- لمدة ستة أشهر بتهمة الاعتداء علي نحو فصيلة كاملة من جيوش المباحث والأمن المركزي في ميدان التحرير، وكذلك خبر القبض علي 8 مواطنين في دمنهور حققت معهم النيابة وحبستهم بعدما وجهت لهم تهمة الانضمام إلي «جماعة محظورة» جديدة تدعو للتغيير الديمقراطي السلمي، فقال الراكب كلاماً كثيراً ينطوي علي تشكيك واضح في استقلال مرفق العدالة، وختم بسؤال استنكاري عن حاجة الحكومة والنظام لقانون الطوارئ ماداموا يستطيعون بالقوانين والإجراءات القضائية العادية التنكيل بمن يريدون وفي أي وقت يشاءون.. سمعته وهززت رأسي كدأبي طوال الرحلة لكنه أعاد السؤال : والنبي عايزين قانون الطوارئ ليه بقي إن شاء الله؟!.. تقدر تقولي حضرتك إيه اللي ناقصهم .. ولا هيه غباوة وخلاص؟! أغراني صمته غير المسبوق ونظرته المشعلقة بخلقتي فقلت له : لأ مش غباوة طبعاً، استمرار الطوارئ مفيد لصحتهم الإنجابية.. مفيد في إيه؟، إذا كان بيعملوا اللي هما عايزينه بالقانون العادي والمحاكم والنيابات العادية .. ناقصهم إيه ؟! هما قالوا إن الإرهاب والمخدرات ناقصين .. وهي الأحكام وقرارات النيابة دي مش إرهاب للمعارضين ؟! أيوه .. بس لازم تعترف إن الحشيش شاحح وناقص فعلاً في السوق ولا حل لهذه المشكلة إلا بتطبيق قانون الطوارئ.. علي فكرة، مين حضرتك ؟ ومن أين أتيت بالجرايد المصرية دي كلها ؟! هكذا تذكرت وسألت جاري الراكب فإذا به يبتسم ابتسامة صافية وواسعة ورد عليَّ بلهجة بدت لي تقطر وداً وطيبة قائلاً : لو قلت لك جبت الجرايد منين ح تفهمني غلط أكيد.. ياللا بينا ننزل أحسن الطيارة ترجعك مطرح ماجيت..