فى الإذاعة تسجيل نادر تلمح فيه أصوات ليلى مراد وعبد الحليم حافظ ومنير مراد وآخرين من الأصدقاء لم أستطع أن أتيقن منهم، يُمسك منير بالعود ويبدأ حليم فى تحفيزها للغناء ويدندن فى البداية «سنتين وأنا أحايل فيك» وتغنى بعده ليلى، ثم يطلب منها عبد الحليم أن تغنى «ليه خلّتنى أحبك» كعادتها تتردد، فيبدأ هو «ليه خلتنى أحبك لا تلومنى ولا أعاتبك فين أهرب من حبك روح منك لله.. بدموعى الحيرانة وعيونى السهرانة بادعيلك آه يانا روح منك لله»!
على الفور تلتقط ليلى الميكروفون وتغنى مع تغيير طفيف وتحيل «فين أهرب من حبك» إلى «فين أهرب من ذنبك» و«بادعيلك آه يانا» تصبح «بادعيلك بأمانة».. وبذكاء يعيد عبد الحليم الكوبليه بالضبط كما أرادته ورددته ليلى مراد!
لا أحد بالطبع سيدرك ماذا حدث، الكلمتان تشكلان أهمية قصوى ونقطة محورية فى حياة ليلى مراد الفنية، هذا التغيير كان يعنى الكثير بالنسبة إليها، إنه بداية إحساس ليلى مراد بأنها لم تعد سندريللا الغناء التى لا يراجعها أحد ولا يجرؤ أيضًا أحد، ولكن مع الأسف كان الزمن وقتها قد تغير، ليلى مراد سجلت هذه الأغنية فى آخر أفلامها «الحبيب المجهول» عام 1955، كان عمرها 37 عامًا، أى أنها فى عز زمنها الإبداعى ولكن الإذاعة المصرية وكانت هى أهم الوسائط الإعلامية -قبل ظهور التليفزيون- بنحو خمس سنوات، اعترضت على كلمتين فى الأغنية وهما «ذنبك» اعتبروها كلمة «أبيحة» تحمل دلالات جنسية، فالهروب بالذنب يعنى أنها تحمل سفاحًا، هكذا قرأتْ لجنة النصوص بالإذاعة الموقرة «ذنبك».. الكلمة الثانية «بادعيلك بأمانة» قالوا كيف تدعى بأمانة ثم تقول بعد ذلك «روح منك لله». لم يدركوا المعنى الشاعرى الكامن وراء هذا التناقض بين الكلمتين كأن الدعوة بأمانة مقصورة فقط على الدعوات الحميدة!
علمتْ ليلى مراد بأن الإذاعة المصرية تُصر على التغيير وأبلغها بذلك ملحن الأغنية الموسيقار كمال الطويل مؤكدًا لها أن الشاعر مأمون الشناوى التزم بقرار لجنة النصوص، حتى يتم تداول الأغنية عبر المحطات الإذاعية، رفضت ليلى وقالت للطويل «عندما تغنى ليلى مراد لا يراجعها أحد».
باءت كل محاولات الطويل بالفشل لإقناع ليلى بإعادة التسجيل فأسند الأغنية المعدَّلة إلى نجاة فأصبحت واحدة من أشهر أغانيها، وحفظها الجمهور فى نسختها الجديدة، بالإضافة إلى أن الفيلم لم يحقق النجاح الجماهيرى الضخم فلم يعد أحد يتذكر الأغنية إلا بصوت نجاة.
نعم تبدو تفصيلة صغيرة لكنها كانت بالفعل تحمل الكثير، فلقد كان هذا اللقاء مع عبد الحليم محاولة منه لكى يزيح عنها الطعنة الغادرة الثانية التى تلقّتها وكانت هذه المرة من حليم، كانت ليلى تعتقد أنها حتى تلك السنوات لا تزال هى الحُلم الذى يرنو إليه كل الملحنين والشعراء لكى يصلوا من خلال صوتها إلى قلوب المستمعين، ليلى صوت ملهِم للملحن يدفعه لكى يُبحر فى مناطق بعيدة، وهكذا استلهم بليغ حمدى وهو فى بداية مشواره 1957 ملامح صوتها وقدم لها أغنية «تخونوه».. وأجرت عشرات من البروفات فى معهد الموسيقى العربية وقبل تسجيلها بأربع وعشرين ساعة فقط اكتشفت أن بليغ حمدى باع هذه الأغنية لرمسيس نجيب منتج فيلم «الوسادة الخالية» لتصبح هى أول ألحانه لعبد الحليم، حاول بليغ الاعتذار وعزَّ عليها وقتها أن يعلو صوتها بالاتهام بالخيانة، والغريب أن كلمات الأغنية التى كتبها إسماعيل الحبروك تعزف على نفس الجُرح «تخونوه وعمره ما خانكم»!
كانت ليلى مراد -ولا تزال لو حسبت فارق القوة الشرائية- هى أغلى فنانة عرفتها الشاشة، كانت تحصل على 15 ألف جنيه فى الفيلم، وحتى يصبح للرقم دلالة يمكن الاستناد إليها أقول لكم إن فاتن حمامة النجمة الأولى والأغلى سعرًا على الشاشة كانت تحصل فى تلك السنوات (مطلع الخمسينيات) على 5 آلاف جنيه.
اليوم الذكرى الثامنة عشرة لليلى مراد التى أعاد لها الزمن أغنيتها من خلال أصوات فضل شاكر وكاظم الساهر ونانسى عجرم وشيرين وإيلين خلف وآمال ماهر ووليد توفيق، صاروا يرددون «ليه خلِّتنى أحبك» كما أرادتها ورددتها ليلى مراد «فين أهرب من ذنبك بادعيلك بأمانة روح منك لله»!