التقيت الموسيقار الكبير منير مراد مرة واحدة فى منزله بوسط المدينة، وأظنه كان بيتًا ومكتبًا، بعدها بأسابيع قليلة رحل عن عالمنا وتصادف أنه كان يفصله 12 يومًا فقط عن الرئيس أنور السادات، وهكذا لم يمنحه الإعلام الاهتمام اللائق.. كانت مصر تتحسس اسم الرئيس القادم بعد اغتيال السادات فى 6 أكتوبر 1981، وهكذا مر الرحيل مثل الحياة، إبداع متميز، ولكن لا وجود للصحافة، فلم نكن قد وصلنا بعد إلى عصر الفضائيات.. ما تبقى فى ذاكرتى بعد هذا اللقاء أنه باح لى بسر اتفاقه مع أم كلثوم على تلحين أربع أغنيات قصيرة ورحلت أم كلثوم، ولم تر الأغنيات النور. ما تبقى منه خارج نطاق الأغانى التى لحنها والأفلام التى لعب بطولتها هو تسجيل إذاعى جمعه بعبد الحليم وشقيقته ليلى مراد، وكان منير يُمسك بالعود، وليلى تغنى مع حليم «ليه خلتنى أحبك» و«سنتين وأنا أحايل فيك»، ربما لولا وجود عبد الحليم فى اللقاء كنا قد حرمنا من هذا التسجيل الذى جمع بين العمالقة الثلاثة، وأظنها كانت جلسة أقرب إلى الصلح بين عبد الحليم وليلى بعد أن أخذ منها عبد الحليم أغنية «تخونوه» التى لحنها بليغ حمدى قبل أن تسجلها على أسطوانة، ولكن هذه قصة أخرى.
منير مراد هو الشقيق الأصغر لليلى مراد. إنه حالة إبداعية متكاملة يرقص ويغنى ويمثل، ولكن الجزء العميق فى تلك الموهبة، أقصد نقطة الارتكاز والمصدر الأساسى لتوهج هذا الفنان الكبير أنه أحد صنّاع البهجة فى حياتنا.
أمسك منير مراد بالعود وتخيل كيف يلحن كبار الملحنين قصيدة «لا تكذبى» التى لحنها محمد عبد الوهاب.. تناول منير أسلوب كل منهم، لو أنه تناول نفس كلمات الشاعر الكبير كامل الشناوى، وهكذا استمعنا إلى «لا تكذبى» بمذاق فريد الأطرش وكمال الطويل ورياض السنباطى ومحمد الموجى، وأخيرًا منير مراد وفى كل مرة تشعر باللمحات الخاصة لكل ملحن من هؤلاء الكبار.
منير صاحب أكثر النغمات مشاغبة وشبابية فى تاريخنا الغنائى «وحياة قلبى وأفراحه»، و«ضحك ولعب وجد وحب».. هل تتذكر كيف وظّف منير غنائيًا ودراميًا كل الأصوات التى فى المشهد الذى تم تصويره بالملاهى فى فيلم «يوم من عمرى» عبد السلام النابلسى وسهير البابلى التى كان قد تزوجها فى تلك السنوات والثلاثى المرح، حتى الحصان رأيناه يشارك فى أغنية عبد الحليم بالرقص على الإيقاع.
منير مراد بدأ مشواره الغنائى مع شادية، وإذا كان محمد فوزى هو الذى أطلقها ومحمود الشريف هو الأب الذى نمت شادية فى دفئه الموسيقى لها، فإن منير هو التوأم الروحى لشادية منذ أن قدم لها «واحد اتنين.. واحد اتنين أنا وياك يا حبيب العين».. واستمرت ومضات صوت شادية تتفتح على الجُمل الموسيقية الطازجة المشاغبة لمنير مراد.. إنها لا تغنى فقط، بل ترقص وتمرح وتضحك «يا دنيا زوقوكى بالعز والهنا.. يا فرحة قسموكى واتوصوا بيه أنا».
انظر كيف كان يرى شريفة فاضل بنت البلد الجدعة الفهلوية التى لا يمكن أن يضحك عليها أحد.. استمع إلى شريفة «على مين على مين.. ماتروحش تبيع الميه فى حارة السقايين.. وأنا عايزة حب حنين مش حب يودى لومان».
دائمًا يستطيع منير مراد أن يكتشف لمحة جديدة فى الصوت «كعب الغزال» لمحمد رشدى، مذاق شعبى مودرن لمطرب «وهيبة» و«عدوية»، أو «شُفت الحب» لمحرم فؤاد، مساحة من الشفافية فى الصوت لم نكتشفها من قبل ولم يكررها أيضًا محرم بعدها.. ثم عادل مأمون يمنحه منير لحنًا خاصًا يبعده تمامًا عن الوهابية التى قيدته فكان «ابعد عن الحب» التى قفز من خلالها عادل بعيدًا عن أسوار عبد الوهاب.. و«علمنى الحب» لصباح، كل الأنوثة المتفجرة والصوت الآثر تمتزج فى هذا اللحن.
أين الإعلام والدراسات المتخصصة من هذا الملحن العبقرى موريس زكى مراد الذى مرت هذه الأيام 31 عامًا على رحيله.. أسلم موريس وصار يحمل اسم منير فى نهاية الأربعينيات فى أعقاب إعلان شقيقته ليلى إسلامها.. ورغم ذلك ظل البعض يلاحقه باعتباره يهوديًا وتناسوا أنه مصرى قبل وبعد أن أشهر إسلامه.. إنه صانع البهجة الأول فى الموسيقى الشرقية.