(أعطني إعلاما بلا ضمير؛ أعطك شعبا بلا وعي)، كانت هذه كلمات جوزيف جوبلز وزير الدعاية السياسية في العهد النازي في ألمانيا، وقد أقر بها الطريقة الجهنمية التي استطاع بها استهواء واستقطاب وتأييد ملايين الألمان لسياسات هتلر. خطرت على بالي هذه المقولة التاريخية حين شاهدت المذيعة المصرية على إحدى قنوات الفضاء تقاطع ضيفها لتذيع نبأ عاجلا؛ لا تستطيع – كما قالت – ألا تذكره لأهميته: الشعب الأمريكي يتمرد على أوباما، ويطالب بإجراء انتخابات رئاسية مبكرة ! وقبلها بعدة أيام أهدت إحدى المحاميات المعروفات بتوجهاتها (المباركية – السيسية) الشعب الأمريكي معلومة قيّمة، أتت بها من قاع قاع ملفات المخابرات الحربية، هي أن لأوباما أخٌ غير شقيق، هو الذي يدير استثمارات الإخوان المسلمين في أفريقيا، وأكملت الجرائد المعلومات المخابراتية السرية في اليوم التالي؛ أن أوباما نفسه عضو في الإخوان المسلمين.. وفي هذه الأخبار مصيبتان كبيرتان، أولاهما أن وفي الأسابيع التي سبقت أثبتت الأحداث بما لا يدع مجالا للشك عدة حقائق: أولا: أن المصريين جميعا؛ بلا استثناء، يكوّنون آراءهم تبعا لمعطيات ومعلومات الإعلام، وعلى أساس هذه المعلومات التي يستقونها من قنواتهم المفضلة؛ يدلون بأدلائهم ويتخذون قراراتهم، فمثلا شاع في القنوات المصرية منذ 30 يونيو أن 33 مليون مصري نزلوا إلى الشارع معارضين للرئيس مرسي، فيما اعتبره المراقبون أكبر تجمع بشري في تاريخ الإنسانية، وطبعا لتأييد الخبر يجب أن يكون المصدر أمريكيا أو غربيا، فمجرد ذكر الخبر مقرونا بإسم سي إن إن أو بي بي سي يكسبه المصداقية المطلوبة، ولقد بحثت في جميع نشرات الأخبار في القناتين أيام 30 يونيو و1 و2 و3 يوليو؛ فوجدتها جميعا تتحدث عن متظاهرين بمئات الآلاف، ولم تأت أي منها على حدود المليون، ولكن استطاع إعلام جوبلز أن يفقد الشعب وعيا، ويكسبه وعيا آخر غير حقيقي، وسرى في العالم رقم ال33 مليون وتحدث به المنظرون للانقلاب، فصدقه من أراد أن يصدقه، وسخر منه من لم يُرِد.
ثانيا: بعد ما يقرب من 70 عاما على انتحار هتلر وجوبلز، لا يزال الشعب الألماني مؤمنا بتميزه وتفوقه على سائر شعوب العالم، برغم تحكمات السياسة في توجهات الحكم، مما يؤكد الأثر الرهيب لإعلام جوبلز على مجريات الحياة الألمانية كما يؤكد ذات الأثر على الشعوب الأخرى، و بخاصة في الدول الأقل تقدما والأكثر تخلفا، والتي تتمتع شعوبها بالقابلية للاستعمار، كما قال الراحل مالك بن نبي، ويمكن وصف هذه الشعوب الجاهلة حين يسيطر عليها الإعلام هذه السيطرة المخيفة بأنها شعوب قابلة (للاستحمار).
ثالثا: نفس هؤلاء الإعلاميين والمتحدثين يؤدون ذات الدور الذي يطلبه منهم أو يأمرهم به من يدفع لهم ملايينهم، ويضمن لهم تحقيق مصالحهم، وهنا تختلف صورة الإعلام المصري عن إعلام جوبلز، فجوبلز انتحر هو وزوجته بعد أن قتل أبناءه الستة بعدما علم بانتحار زعيمه هتلر، أما معظم إعلاميي العرب فليست لديهم هذه القابلية للانتحار، ولماذا ينتحرون، ولديهم هذه الشعوب الجاهلة القابلة للاستحمار؟ يعني لماذا الانتحار وعندنا الاستحمار؟
في ستينيات القرن الماضي، وتحديدا في يونيو 67 قضى الشعب المصري ومعه الشعبان السوري والأردني خمسة أيام يقيمون أفراح النصر، ويغنون أناشيد الانتصار على العدو الذي تمّ إلقاؤه في البحر، وفي اليوم الخامس 9 يونيو أفاقوا من أوهام النصر على حقيقة الهزيمة المُرة، ولم يعيشوا تلك الفترة من الوهم إلا لأن إعلام جوبلز كان الصوت الوحيد في تلك الأيام، إعلام بلا ضمير لا يردد إلا الأكاذيب ولا يشيع إلا الأوهام.
أما إعلام هذه الأيام فلأنه لا يعتمد على صوت وحيد وكاميرا وحيدة، في مبنى التلفزيون الحكومي؛ فقد اختلفت الصورة؛ مثلا أصبح في مقدور المواطن العادي تسجيل الأحداث من حوله بكاميرا هاتفه المحمول، وأصبح في استطاعته أن يرسل المادة المصورة إلى إحدى القنوات التلفزيونية التي تذيع ما صوره، وقد يناقض تماما ما تذيع نشرات أخبار جوبلز، قد يكون ما صوره المواطن مظاهرة ليلية بها آلاف المتظاهرين، وفي ذات اللحظة يذيع التلفزيون الرسمي مشاهد لشوارع خالية ليس بها إلا بعض القطط والكلاب، هنا يقع المُتلقي لهاتين الرسالتين في حيرة شديدة؛ أي الصورتين يصدق؟
ويبدو أننا في العالم العربي قد تعودنا عبر سنوات الشتاء العربي على هذا الوضع وعلى هذه المفارقة، فكون كل منا رأيه بناء على اعتقاده بصدق ما يرى على ناحية، وكذب ما يرى على الناحية الأخرى، ولسان حاله يقول: أسمع كلامك أصدقك أشوف (أمورك) استعجب، وهو في هذه الحالة يرى (الأمور) في مشاهد الإعلام أفلاما عبثت بها أصابع المخرجين، ورتبت أحداثها أيدي المونتيرات من محترفي استخدام البرامج الإليكترونية، وتلوكها ألسنة المتحدثين في برامج التوك شو، حتى يطلع علينا من يقول أن أوباما من الإخوان المسلمين، وأن ميشيل زوجته من الأخوات المؤمنات، وأن ساشا وماليا هما من براعم وجوالة شعبة الإخوان في واشنطن !
إن الفترة السابقة أتت إلى الدنيا بما نستطيع أن نسميه الإعلام الشعبي، وهو أصدق تعبيرا عما يحدث في الشارع من إعلام جوبلز أو إعلام يونيو 67 أو إعلام الأكاذيب في 2013. والله من وراء القصد..