هناك تساؤلات مطروحة منذ القرن التاسع عشر إلى الآن حول تراثنا بكل أبعاده ... فباتت مشروعية هذا التراث على المحك أمام طوفان الحداثة القادم من الغرب، فحمل البعض رؤية القطعية مع الماضي والبناء على ما وصل إليه الغرب وآخرون يرون التراث هو روح الأمة التي لا حياة لها بدونه، ووقف فريق يوفق بين التراث الموروث وبين هذا القادم من الآخر، لكن أيضًا كانت روح التجديد تسري لدى علماء رؤوا أن الطريق إلى المستقبل هو هذا الطريق. لذا فإنني أنطلق من بين هذا وذاك إلى تساؤل ملح هل نحن في حاجة إلى هذا التراث إلى نقطتان رئيسيتان هي:-
أي نص تراثي نريد:
النصوص التراثية على كثرتها تثير ربكة بل تثير رغبة في البحث، لكن أي نص تراثي نبحث عنه في زمن الحواسب الآلية و الإنترنت؟
إن هناك نصوص تمثل ثوابت الأمة كالقرآن الكريم و الثابت الصحيح من حديث الرسول، لكن ما عدا ذلك هو اجتهاد من العلماء في علوم الدين، وهو اجتهاد في مجمله مقبول، لكن في العديد من تفاصيله الدقيقة تجسيد لاحتياجات المجتمع، و الأدلة على ذلك كثيرة بل متعددة، فعلى سبيل المثال واجه المسلمون في حياتهم اليومية احتكاكات في العديد من المجالات ، ومنها المجالات العمرانية، التي نتج عنها لجوؤهم إلى القضاة و و معظمهم من الفقهاء فأقروا أعراف البناء السائدة في المجتمع كأساس يبني عليه الاحتكام في الخلاف، و تبلورت هذه الأعراف لتستفيد من مناهج علم أصول الفقه لتشكل في نهاية الأمر، ما يمكن أن نسميه فقه العمارة الإسلامية.
الناظر و المدقق لهذا الفقه سيجده أحكام مترتبة على وقائع الحياة اليومية، حكمتها كليات شرعية مثل الحديث النبوي الشريف (لا ضرر ولا ضرار) لكن التفاصيل خضعت في كل حالة إلى العرف المتبع في البلد، إزاء ذلك ومع بلوغ علم أصول الفقه ذروته في القرن الرابع الهجري، وعكوف كبار تلامذة مشايخ المذاهب الأربعة على نشر هذه المذاهب، وشرح متونها، أصاب الجمود الحركة الفكرية التي أججها هذا العلم. ترك الفقه الإسلامي ثروة ضخمة في مجالات القضايا الفردية و الجماعية، حتى حقوق المرأة التي يرى البعض أنها من مستجدات العصر، كانوا أكثر تقدما فيها من الوضع الذي نحن عليه اليوم، فالخلع الذي كان أمر مستجدا في مجتمعاتنا كان قديما أمرا شائعا سهلا، إلا أن تقوقع المرأة واستسلامها و انغلاق المجتمع على ذاته حصر حقوق المرأة بل لم يطور المجتمع الإسلامي بعد توقف حركة الفتوحات في عهد الدولة العباسية نظرته إلى العلاقات الدولية بصورة تلاءم المستجدات الدولية، هكذا كان النتاج الفقهي الإسلامي في مجال العبادات و المعاملات أكثر توسعا و شمولية منه في مجال الفقه السياسي الذي وقف عند شروح ابن الأزرق على ابن خلدون، ومعطيات الماوردي وابن أبي الربيع، لاحظ ذلك الدكتور عبد الرازق السنهوري في كتابه " فقه الخلافة" إذ أشار إلى أن القانون الدستوري و المالي والدولي في الفقه الإسلامي أقل تطورا من فقه المعاملات والعبادات. هذا يعكس واقع تقاسم المصالح بين العلماء والسلطة الحاكمة في الدولة الإسلامية بعد القرن الرابع الهجري، فشيد السلاطين والأمراء والمدارس والمساجد ليعمل بها رجال الدين، ويتلقوا رواتب من أوقافها ، فانصرف جلهم إلى فقه العبادات والمعاملات، وما ارتبط بها من علوم تطبيقية كالفلك الذي يفيد في علم المواقيت لتحديد أوقات الصلاة ومطالع الأهلة، والرياضيات لفائدتها في حساب المواريث الشرعية.
و انحصر الاهتمام بالعلوم التطبيقية وعلماؤها إلا ما ندر، وعلى هذه الندرة كان لعلماء الميكانيكا و الفيزياء و البصريات والطب و غيرها من المسلمين انجازات كثيرة، ولو لقوا بعض الرعاية والاهتمام على غرار علماء العلوم الشرعية ، لأصبحت الريادة والسبق للمسلمين في مجالات عدة. ولا نستطيع أن نحمل السلاطين والأمراء المسئولية بمفردهم عن ذلك، فقد كرس علماء العلوم الشرعية دورهم من خلال إشاعة مفهوم أفضلية هذه العلوم عن غيرها، غاضين الطرف عن أنم تقديمها على غيرها هو تقديم تشريف ليس إلا لارتباطها مباشرة بدراسة القرآن الكريم والحديث النبوي.
غاضين الطرف أيضا عن أن وظيفة الإنسان في الأرض ليس فقط عبادة الله، بل اعمار الأرض والسعي فيها، و الأخذ بأسباب الرقي والتقدم. هذا المرض وهو الغرق في العلوم الشرعية خاصة فقه المعاملات والعبادات أصبحا داءا إلى اليوم سقطت فيه التيارات الإسلامية، فكم من شاب نابه ترك مهنة الطب أو الهندسة أو الكيمياء أو غيرها، ليدرس العلوم الشرعية على يد غير أهلها، لأن الدعوة في مفهومه هي جوهر الإسلام فأعطوا للآخر حق استبعادنا بالتقنيات المتقدمة في كافة المجالات، فبدلا من أن يبذلوا الجهود للحاق تقنيا بالآخر، فرغوا أنفسهم لعلوم قتلت بحثا و اجتهادا ولها أهلها الذين يقومون بها.
أما مجال الدراسات السياسية و الاقتصادية وغيرها، فإن على إهمال المسلمين لها قرونا، وعدم وعيهم بما يدور دوليا، فإن الوعي بها بدأ ينمو بل أصبح لدينا مدارس تنمو في مجالات الفقه السياسي و الاقتصادي، بدءا من قسم العلوم السياسية في جامعة القاهرة على يد حامد ربيع ثم تلامذته من بعده سيف عبد الفتاح ونصر عارف وهبه رءوف إلى ما أجرته مجلة الاجتهاد عبر أعدادها المتخصصة من إثارة قضايا حساسة وغير مسبوقة إلى نشر تراث الفقه السياسي على يد علي سامي النشار ثم رضوان السيد، هؤلاء وغيرهم كثر يثيرون جدالات و نقاشات هامة.
لكن يبقى التساؤل المطروح أي نص تراثي نريد؟
في عصرنا نريد نصوصا تراثية تدفع بفقه الواقع إلى الأمام ليواكب العصر، من هنا فإن ما نريده هو نصوص تراثية تعين الأمة على النهوض من كبوتها، فلنترك نصوص المعاملات والعبادات لرجال الدين ولنقل أن هذه النصوص نحن في حاجة إليها:
- النصوص التي ترصد تطور الفقه السياسي الإسلامي الذي يتعامل مع الواقع، ويرصد أهمية مشاركة الأمة في السلطة واختيار الحاكم، وتفرق بين الواقع المعاصر بتطوراته وبين الماضي، الدولة في صورتها البسيطة و الدولة في صورتها المركبة.
- النصوص التي تعكس دور المجتمع المدني في حفظ الحضارة الإسلامية وتطور العمارة و العمران، هذا المجتمع الذي مول مؤسسة الضمان الاجتماعي من خلال الأوقاف والتي ضمنت استمرارية هذه الحضارة بعيدا عن الصراع على السلطة وقيام الدولة وسقوطها.
- النصوص التي تؤكد على أن اعمار الأرض وظيفة أساسية للإنسان،و إن هذا الاعمار عبادة، وإن إيقاف الأموال على المنشآت العلمية و التعليمية يوازي إيقافها على دور العبادة التي تحول إنشاؤها من قبل المحسنين إلأى مرض حتى صار بين كل مسجد ومسجد مسجدا أو زاوية. بينما لا تجد الجمعيات العلمية من يمولها ولا يجد العلماء من يرعاهم.
- النصوص التي تطلق الاقتصاد وتدفع عجلة النمو الاقتصادي، وتحفظ للعمل قيمته التي جعلت قديما الإتقان سمة المنتج في المدن الإسلامية، حتى استمد الغرب منا ذلك فجاء مصطلح تكنولوجيا مشتقا من تقنية أي الإتقان مضاف إلأيها اللاحقة اليونانية لوجي التي تشير إلى العلم.
المشاركة السياسية في صنع القرار:
عرفت مصر الحياة النيابية على غرار الحياة السياسية منذ جولة جديدة لإنتخاب برلمان يمثل الشعب المصرى , و هذا البرلمان فى صورته الحالية صورة مشوهة للبرلمانات فى أوربا , و يعود هذا التشويه إلى عدة أسباب لا مجال لذكرها فى هذا المكان , و لكن أحد أبرز هذه الأسباب هو أن الحياة النيابية فى صورتها الحالية هى نتاج الخبرة السياسية الأوربية , و ليست نتاجاً للخبرة المحلية التى تطور المشاركة فى صنع القرار السياسى وفقاً للموروث الحضارى. إن صلب الإختلاف بين التجربة المصرية التاريخية حدثت بين المصريين و بينها إنقطاع , و بين التجربة الأوربية هو الإختلاف فى المفاهيم و الرؤى.
فالصراع هو المحرك للعملية السياسية الأوربية , و لذا صار مفهوم الصراع هو محور علم السياسة الأوربى ، و من ثم قامت الأحزاب السياسية بدور هام فى بلورة هذا الصراع داخل المجتمعات الأوربية , و تحويل هذا الإنقسام إلى إنقسام و صراع منظم سواء من خلال الأحزاب أو جماعات الضغط. و يعبر هذا التنظيم عن تحقيق النموذج الحديث فى الحكم , و الذى يجب أن تحتذى به المجتمعات الأخرى من وجهة النظر الغربية. و هذه العملية تغذى مفهوم الصراعات فى المجتمعات. و إذا نظرنا إلى مدى تعبير النظم الحزبية و جماعات الضغط فى الواقع عن المجتمع سنكتشف طبقاً لتحليل أجراه دكتور نصر عارف أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة , أن هذه المؤسسات تعمل لخدمة مصلحة أصحاب رؤوس الأموال. الذين يمولون برامج الأحزاب و الحملات الإنتخابية , بينما تقوم جماعات الضغط و المصالح بممارسةالرشوة و الإفساد السياسى بصورة علنية و صريحة.
أما التفاهم و المشاركة فى إتخاذ القرار فهو المفهوم السائد داخل المجتمع المصرى , قبل دخول نابليون بونابرت مصر محدثاً بحملته قطيعة مع التجربة التى كانت تنمو فى مصر العثمانية بمرور الوقت.
تمثل مفهوم التفاهم و المشاركة فى صنع القرار السياسى فى مصر العثمانية من خلال مؤسستين الأولى حملت طابعاً رسمياً , و الثانية حملت طابعاً أهلياً كان له سلطة إتخاذ القرار لصالح المجتمع.
أما المؤسسة الأولى فهى الديوان العالى ، أنشىء هذا الديوان فى مصر بناءاً على قانون نامة مصر الذى أصدره السلطان سليمان القانونى العام 1525م , لينظم شئون حكم مصر , و كان يعقد جلساته أربع مرات أسبوعياً فى ديوان الغورى بقلعة صلاح الدين مقر حكم مصر آنذاك , أما أعضاء هذا الديوان فهم الوالى العثمانى و نائبه و قاضى العسكر و قاضى القضاة و رئيس الإدارة المالية و الأمراء و رؤساء الطوائف العسكرية. و ينضم إليهم أحياناً المشايخ و العلماء و رؤساء الطوائف و من له شأن فى القضايا المطروحة على الديوان. و فى الديوان العالى كانت تدرس و تناقش تعليمات السلطنة العثمانية لإدارة مصر. كما كان يقرأ مرسوم تولية الولاة أو عزلهم. و تتم مناقشة الشئون المالية , و توزيع الجمارك و إلتزامات الأراضى و المناصب الهامة.كما كان الديوان يقوم بمحاكمة كبار رجال الدولة فى حالة نشوب نزاع لهم مع الأهالى , و ذلك كمحكمة إستئنافية فى حالة عدم إنصاف المحاكم الصغرى لهؤلاء المظلومين.
و لكننا هنا سنتوقف أمام واحد من أهم مسئوليات الديوان , وهو محاسبة الوالى المعزول عن مصروفاته أثناء الولاية , و عن النفقات العامة , محاسبة عسيرة فى معظم اللأحيان , و هو ما يعنى مسئولية الحاكم عن تصرفاته أمام هذه المؤسسة , و من أمثلة ذلك ما ورد فى سجلات الديوان العالى , و التى ترتب كيفية محاسبة الباشا , و كان يحضر الجلسة الباشا المعزول و يشار إليه فى محضر إجتماع الديوان هذا بكل ألقابه المعتادة و بكل الإحترام اللائق به ، و يحضر الإجتماع كبار رجال الدولة. ثم يقوم الروزمانجى بتحديد موقف الباشا من مالية مصر. هل سدد دين الديوان و وفىبالجراية و العليق و مرتبات الموظفين و مقدار الخزينة الميرية فى عهده و هل وفى بجميع الإلتزامات المالية المطلوبة منه أم لا ؟ و فى حالة وفاء الباشا بكل إلتزاماته كان يعلن فى الإجتماع أن ذمته قد برأت من كامل ما كان مطلوباً منه لجهة الروزنامة العامرة مدة تصصرفه بوصول ذلك بالتمام و الكمال. و إذا لم يسدد الباشا إلتزاماته المالية يقوم بتوقيع إيصالات يتعهد فيها بسداد المطلوب منه. و فى بعض الحالات حينما يثبت تورط الباشا فى فساد مالى كان يتم حبسه و مصادرة أملاكه.
و طور المجتمع المصرى فى العصر العثمانى صورة كانت جديدة على كل المجتمعات الإسلامية , هذه الصورة عرفت بالجمعية , و هى المؤسسة الثانية التى شارك من خلالها المجتمع بكافة طبقاته و طوائفه فى صنع القرار السيسى و توجيهه , و هى تجربة رائدة تعكس توحد المجتمع فى إتجاه البحث عن حل للمشاكل التى يواجهها. و لأن الجمعية نتاج للخبرة التراكمية للمجتمع فقد كانت إجتماعاتها تعقد فى إحدى قصور كبار الأمراء فى القاهرة , و فى حالات قليلة كانت تعقد فى الديوان العالى بالقلعة , و كل ممثلى المجتمع المصرى أعضاء فيها بدءاً من أمراء العسكر العثمانيين فالأمراء المماليك , فمشايخ طوائف الحرف , فالعلماء و الأشراف ، و كبار ملاك الأراضى و مشايخ الحارات. و من الطريف أن هذا التكوين السياسى يضم كل مؤسسات المجتمع المدنى آنذاك , و بالتالى كان القرار الصادر من الجمعية هو قرار كل المصريين. و يتضح بمرور الوقت من خلال الوثائق و السجلات و الحوادث التاريخية إعتراف السلطان العثمانى بالجمعية و إلتزامه بقراراتها. و كذلك الوالى العثمانى على مصر , بل إن كلاهما كان يلجأ إلى عقد الجمعية فى أوقات الشدائد و الأزمات بين السلطة و المجتمع. فعل سبيل المثال فى العام 1114 هجرية/ 1702 ميلادية حدثت أزمة نقدية شديدة فى مصر لعدم توفر الفلوس النحاسية ، فإجتمع و أرباب الصنائع و التجار و ذهبوا إلى الجامع الأزهر و شكوا للعلماء ما هم فيه من قبل إنتشار الفضة المفشوشة و ندرة الفلوس النحاسية. و إتفق الجميع على رفع الأمر للوالى الذى كتب فرماناً بعقد جمعية من كافة طوائف المجتمع لبحثالمشكلة. و عرض على آغا عدداًمن الحلول لها. و إستقر رأى الحاضرين على أن يتولى منصب آغا الإنكشارية و هى أحدى فرق الحامية العثمانية بمصر لتنفيذ خطته. و بالفعل تولى هذا المنصب و قام بمهمته بنجاح.
و بعد عزله من منصبه فى سنة 1116 هجرية/1704 ميلادية إرتفعت الأسعار إرتفاعاً كبيراً فعقدت جمعية جديدة رفض حضورها. و أرغمت الجمعية الوالى على إعادته لمنصبه مرة أخرى مع إعطائه صلاحيات واسعة لضبط حركة السوق الإقتصادية.
و بلغ الأمر بهذه الجمعية الإعتراض على أوامر السلطان العثمانى و رفضها , كما حدث فى العام 1152هجرية/ 1739ميلادية ، حينما أرسل السلطان أمراً بعزل الأمراء المماليك عن إدارة الجمارك فى مصر ، على أن يتولاها أفراد يعينهم هو ، و إجتمعت الجمعية فى منزل عثمان بك ذوالفقار بكامل أعصائها من طوائف المجتمع ، و قرر الحاضرون الإعتراض على أمر السلطان ، و رفع إلتماس له لإلغاء هذا الأمر , و لم يكن أمام السلطان مفر من إلغاء أمره.
و تكرر عقد الجمعية فى مرات عديدة لعزل الوالى العثمانى فى مصر ، و كان هذا العزل لأسباب عديدة ، قد يكون من بينها عدم توافق سياسة الوالى مع الأمراء المماليك ، أو ظلمه أو تعسفه.و كان أخر والى عزلته الجمعية هو خورشيد باشا سنة 1805 ، الذى عزلته الجمعية وولت بدلاً منه محمد على ، الذى حرص بعد توليه على وقف عقد الجمعية و إنفرد بحكم مصر ، على عكس تعهده لأعضاء الجمعية بالرجوع إليهم فى كل شأن يريد إنفاذه. و سعى محمد على و من بعده خلفاؤه ثم الإحتلال الإنجليزى على تفتيت المجتمع المدنى المصرى الذى كان ممثلاً فى الجمعية و خلق حياة نيابية على النمط الغربى لم تلق إلى الآن نجاحاً يذكر. و لو كان لها النجاح و التأثير العميق فى مصر لدافع عنها المصريين بشدة حين صادرتها ثورة تموز يوليو لصالح حكم العسكر.
إن من الملفت للنظر أن هذه الجمعية بنجاحها فى تولية محمد على قد بدأت أولى خطوات الرسوخ فى الحياة السياسية , و هو ما كان سيتيح لها فرصة التبلور ، و هذا هو الفارق بينها و بين طبيعة الحياة النيابية الغربية التى أتيح لها فرصة للتبلور و التشكل وفق المعطيات الخاصة بالمجتمعات التى نمت فيها.
الفعالية هنا تقتضي أن يكون لدينا تراث موروث كتب في قرون سابقة بلغة عصور سابقة مفاهيمها ومدلولاتها مختلفة عن مفاهيم ولغة عصرنا، لذا فإن تقديم هذا التراث أو إعادة تقديمه يجب أن تكون بلغة العصر الذي نعيشه، لذا فإن تقديم هذا التراث سواء بلغة العصور السابقة بمفاهيمها، يخلق قطعية كبيرة مع هذا التراث، وتقديمة دون أعمال الفعل فيه واستنباط منه مفاهيم تخاطب الأجيال الجديدة هذا يعني أن التراكم المعرفي في حضارة المسلمين سيصل لهذه الأجيال بصورة واضحة.
من هنا فإن استعادة المنهج الأصولي في مجال الدراسات الإنسانية أي المستمدة آليات التفكير فيه من علم أصول الفقه، قد يولد مدرسة جديدة في هذا المجال.
على سبيل المثال لا الحصر ينظر فقه العمران إلى أن الشارع ليس مجالًا عامًا تسيطر عليه الدولة بل مجال مشترك يجمع بين سلطة الساكنين في الشارع به تنسحب سلطة الدولة، إلى أن نصل إلى الحارة المسدودة ذات الباب الذي تقف عنده سلطة الدولة، ويصبح مجتمع الحارة هو المهيمن متضامن مع بعضه البعض فقيرة وغنية، حدد علماء السياسة الشرعية وعلماء الفقه حدود سلطة الدولة وسلطة المجتمع الذي أنشأ مؤسسة الوقف لكي تكون مجال عام يرعى من خلال تمويله الذاتي كل ما يحتاجه المجتمع من رعاية المرضى وكبار السن إلى الحيوان.
لذا فإن فاعلية التراث في الحياة المعاصرة تستدعي استدعاء الخبرات التي هي تراكم قرون، وإعادة قراءتها في ضوء حركية المجتمع وليس من خلال النص فقط لأن تنزيل النص على الواقع المعاش الذي يشكل التجربة الحقيقية التي تحمل بين طياتها الخطأ والصواب، والتراكم الذي يقودنا إلى إعادة البناء عليه مرة أخرى عبر مشروعية التراث كوحي ووجود وفاعليته وقدرته في البناء الحضاري.