النصوص التراثية على كثرتها تثير ربكة بل تثير رغبة فى البحث، لكن أى نص تراثى نبحث عنه فى زمن الحواسيب الآلية والإنترنت؟ إن هناك نصوصا تمثل ثوابت الأمة كالقرآن الكريم والثابت الصحيح من حديث الرسول، لكن ما عدا ذلك هو اجتهاد من العلماء فى علوم الدين، وهو اجتهاد فى مجمله مقبول، لكنه فى عديد من تفاصيله الدقيقة تجسيد لاحتياجات المجتمع، والأدلة على ذلك كثيرة بل متعددة، فعلى سبيل المثال واجه المسلمون فى حياتهم اليومية احتكاكات فى عديد من المجالات، ومنها المجالات العمرانية، التى نتج عنها لجوؤهم إلى القضاة ومعظمهم من الفقهاء، فأقروا أعراف البناء السائدة فى المجتمع كأساس يبنى عليه الاحتكام فى الخلاف، وتبلورت هذه الأعراف لتستفيد من مناهج علم أصول الفقه لتشكل فى نهاية الأمر، ما يمكن أن نسميه فقه العمارة الإسلامية. الناظر والمدقق لهذا الفقه سيجده أحكامًا مترتبة على وقائع الحياة اليومية، حكمتها كليات شرعية مثل الحديث النبوى الشريف «لا ضرر ولا ضرار»، لكن التفاصيل خضعت فى كل حالة إلى العرف المتبع فى البلد، إزاء ذلك ومع بلوغ علم أصول الفقه ذروته فى القرن الرابع الهجرى، وعكوف كبار تلامذة مشايخ المذاهب الأربعة على نشر هذه المذاهب، وشرح متونها، أصاب الجمود الحركة الفكرية التى أجّجها هذا العلم. ترك الفقه الإسلامى ثروة ضخمة فى مجالات القضايا الفردية والجماعية، حتى حقوق المرأة التى يرى البعض أنها من مستجدات العصر، كانوا أكثر تقدما فيها من الوضع الذى نحن عليه اليوم، فالخُلع الذى كان أمرًا مستجدا فى مجتمعاتنا كان قديما أمرا شائعا سهلا، إلا أن تقوقع المرأة واستسلامها وانغلاق المجتمع على ذاته حصر حقوق المرأة، بل لم يطور المجتمع الإسلامى بعد توقف حركة الفتوحات فى عهد الدولة العباسية نظرته إلى العلاقات الدولية بصورة تلائم المستجدات الدولية، هكذا كان النتاج الفقهى الإسلامى فى مجال العبادات والمعاملات أكثر توسعا وشمولية منه فى مجال الفقه السياسى الذى وقف عند شروح ابن الأزرق على ابن خلدون، ومعطيات الماوردى وابن أبى الربيع، لاحظ ذلك الدكتور عبد الرازق السنهورى فى كتابه «فقه الخلافة» إذ أشار إلى أن القانون الدستورى والمالى والدولى فى الفقه الإسلامى أقل تطورا من فقه المعاملات والعبادات. هذا يعكس واقع تقاسم المصالح بين العلماء والسلطة الحاكمة فى الدولة الإسلامية بعد القرن الرابع الهجرى، فشيد السلاطين والأمراء المدارس والمساجد ليعمل بها رجال الدين، ويتلقوا رواتب من أوقافها، فانصرف جُلهم إلى فقه العبادات والمعاملات، وما ارتبط به من علوم تطبيقية كالفلك الذى يفيد فى علم المواقيت لتحديد أوقات الصلاة ومطالع الأهلّة، والرياضيات لفائدتها فى حساب المواريث الشرعية. وانحصر الاهتمام بالعلوم التطبيقية وعلمائها إلا ما ندر، وعلى هذه الندرة كان لعلماء الميكانيكا والفيزياء والبصريات والطب وغيرها من المسلمين إنجازات كثيرة، ولو لقوا بعض الرعاية والاهتمام على غرار علماء العلوم الشرعية، لأصبحت الريادة والسبق للمسلمين فى مجالات عدة. أما مجال الدراسات السياسية والاقتصادية وغيره، فإن على إهمال المسلمين لها قرونا، وعدم وعيهم بما يدور دوليا، فإن الوعى بها بدأ ينمو بل أصبح لدينا مدارس تنمو فى مجالات الفقه السياسى والاقتصادى، بدءا من قسم العلوم السياسية فى جامعة القاهرة، على يد حامد ربيع ثم تلامذته من بعده سيف عبد الفتاح ونصر عارف وهبة رؤوف، إلى ما أجرته مجلة الاجتهاد عبر أعدادها المتخصصة من إثارة قضايا حساسة وغير مسبوقة إلى نشر تراث الفقه السياسى على يد على سامى النشار ثم رضوان السيد، هؤلاء وغيرهم كثر يثيرون جدالات ونقاشات مهمة. لكن يبقى التساؤل المطروح: أى نص تراثى نريد؟ فى عصرنا نريد نصوصا تراثية تدفع بفقه الواقع إلى الأمام ليواكب العصر، من هنا فإن ما نريده هو نصوص تراثية تعين الأمة على النهوض من كبوتها، فلنترك نصوص المعاملات والعبادات لرجال الدين ولنقل إن هذه النصوص نحن فى حاجة إليها: - النصوص التى ترصد تطور الفقه السياسى الإسلامى الذى يتعامل مع الواقع، ويرصد أهمية مشاركة الأمة فى السلطة واختيار الحاكم، وتفرق بين الواقع المعاصر بتطوراته والماضى، الدولة فى صورتها البسيطة والدولة فى صورتها المركبة. - النصوص التى تعكس دور المجتمع المدنى فى حفظ الحضارة الإسلامية وتطور العمارة والعمران، هذا المجتمع الذى مول مؤسسة الضمان الاجتماعى من خلال الأوقاف، التى ضمنت استمرارية هذه الحضارة بعيدا عن الصراع على السلطة وقيام الدولة وسقوطها. - النصوص التى تؤكد أن إعمار الأرض وظيفة أساسية للإنسان، وأن هذا الإعمار عبادة، وأن وقف الأموال على المنشآت العلمية والتعليمية يوازى وقفها على دور العبادة التى تحول إنشاؤها من قبل المحسنين إلى مرض حتى صار بين كل مسجد ومسجد مسجد أو زاوية. بينما لا تجد الجمعيات العلمية من يمولها ولا يجد العلماء من يرعاهم. - النصوص التى تطلق الاقتصاد وتدفع عجلة النمو الاقتصادى، وتحفظ للعمل قيمته، التى جعلت قديما الإتقان سمة المنتج فى المدن الإسلامية، حتى استمد الغرب منا ذلك فجاء مصطلح تكنولوجيا مشتقا من تقنية، أى الإتقان، مضافا إليه اللاحقة اليونانية لوجى التى تشير إلى العلم.