لم أكن أعرف عن هذا الرجل سوى اسمه، لكنه كان يسبب لى وجعا وأرقا مستمرين منذ عرفت قصته، التى تسرب إلى شعورا بالذنب لم يفارقنى طول الوقت. ذلك أنه أحد الذين أسهموا فى انقشاع الظلمة التى حلت بمصر، ودفعوا غاليا ثمن إطلاق سراح 85 مليون مواطن عانوا من الذل والهوان طيلة أكثر من ثلاثين عاما. هو أقل من شهيد وأقل من حى.
فالشهيد يموت مرة واحدة وتصعد روحه إلى بارئها. لكنهم قتلوه وتركوه يمشى على قدميه. فقأوا عينيه وتركوا له بقية جسده وروحه.
الدكتور أحمد البلاسي .. الشهير باسم «أحمد حرارة» طبيب أسنان لكنه يعالج العقول .. عرفته جيداً بعد أحداث مجلس الوزراء.
ماذا يقولون للضابط لكى يصوب الخرطوش إلى العين؟ هل أقنعوه أن هذه هى طريقة الانتقام من «عيال التحرير»؟ هل قالوا له إن هذا هو الطريق الوحيد لحمايته وهو يمشى فى الشارع؟ هل يعرف أن أحمد حرارة عنده القدرة على اللمعان فى مجاله، لكنه اختار أن يشترك مع آخرين فى حلم عمومى، بالتغيير؟ هل يعرف أنهم يحلمون بدولة محترمة لا يُهان فيها أحد ولا يُستخدم طموح أحد مثله لكى يستمر فى الحكم؟
هل سمع معى أكثر من ضابط يتحدثون بعد زوال دولة العادلى أنهم كانوا أسرى مغلوبين على أمرهم ينفذون تعليمات القصر والعصابة؟ ماذا يقولون لمن يصوبون مدافع القنابل أو بنادق الخرطوش؟
ما رسالة غسل الدماغ التى تجعل كل هؤلاء العسكر يواصلون قصف متظاهرين بأياديهم العارية فى مواجهة دولة كاملة تنقم من ثوار حطموا «جمهورية الاستبداد»؟ دولة الاستبداد (الأمنية.. التسلطية) تدافع عن نفسها بعد هزيمتها الأولى في 11 فبراير... والتحالفات واضحة وأفرزت ميليشيات أمنية تقمع التظاهر بعد فشل كل أفرع الشرطة فى تحقيق الأمن. التحالف واضح مع ميليشيات إعلام حكومية تبثّ رسائل دعاية سوداء، تزرع الخوف فى المجتمع وتنشر أكاذيب مضللة هدفها الوحيد: ترويض الشعب. الهتاف يزلزل ميادين المدن المصرية. التاريخ يكاد يتكرر وتعاد أيام العام 2011. إلا أن الثورة اتخذت في العام 2013 منعطف العنف.
كلمة السر كانت مجموعات ال«بلاك بلوك». مجموعات من فتيان وفتيات، لأول مرة، ترتدي أقنعة سوداء، وظهرت في أماكن عدة، وأثارت شهية الحرق في رموز السلطة، من القصر الجمهوري إلى محطات المترو، ومن مقارّ حزب «الإخوان» إلى مباني أكثر من محافظة.
المعارك متفجرة وقوات الشرطة تتغذل بقنابل الغاز في وسط القاهرة وجميع مدن الجمهورية، والحرس الجمهوري في ماسبيرو والاتحادية. السويس كما في الثورة الأولى، شهدت أول دم، حيث سقط سبعة شهداء. أما الإسكندرية، حيث استشهد شخص، فقد تحولت إلى ساحة حرب عصابات في كل شارع، وهو ما تكرر في قلب القاهرة الذي أصبح مكاناً شبه مغلق بدوائر النار، ومجموعات قطعت الطرق تحت سحابات الغاز الكثيف والجديد على ثوار ظلوا في الشوارع 24 شهراً كاملاً لإكمال الثورة.. وعاشوا خلالها تجارب مع آخر ما وصل إليه عقل قمع الشعوب. المذبحة الثانية فى بورسعيد هدفها طمس أدلة الأولى والانتقام من مدينة كاملة.. سكانها ليسوا شياطين ولا ملائكة. بورسعيد التى تعيش تراجيديا جديدة فى تاريخها المشحون بالتراجيديات، تدفع ثمن إصرار السلطة على عدم محاسبة نفسها، حماية كل من يحمل شارتها من المشير إلى أصغر ضابط.. لم يُحاكَم أحد من المسؤولين عن المذبحة، سواء بالتقصير فى الحماية (المتعمد والمعتاد) أو بالتدبير (حيث الروايات عن قرار عقاب أولتراس الأهلى ككتلة جماعية تثير قلق السلطة قبل وبعد الثورة).
التحقيق في ما عرفت إعلامياً بقضية الأولترس من البداية بُنى على خطيئة تعتبرها السلطة أمرا طبيعيا، لا محاسبة لمن تحميه السلطة، ولهذا فإنه لا عدالة ولا احترام للقضاء ولا شعور بسيادة القانون، حتى لو فرح أهالى الشهداء ورقص الأولتراس فى استاد مختار التتش بعد تخيلهم حفلة إعدام جماعى لمن قررت المحكمة أنهم القتلة لا غيرهم.
العدالة لم تتحقق هنا، وهذا ما يجعل المذبحة مستمرة بكل غموضها وشراستها. بعد 48 ساعة يكافئ مرسي الشعب على حسن توقعه بأنه سيخرج عليه كي يقول ما قاله المخلوع .. وكالعادة، اهتم مرسي بإعلان التفاصيل بنفسه