"ما تقوله يخالف المنطق". عبارة كثيرا ما نسمعها في كثير من نقاشاتنا ومجادلاتنا، ويعتبر قائلها أنه بهذا قد حسم المناقشة، وانتصر لما يقول.. هذا لأنه يعتبر المنطق هو الأساس، الذي يبني عليه فكره ومعتقداته وآراءه.. وربما قراراته أيضا.. وهنا يكمن ما نطلق عليه في علم "التنمية الذهنية" اسم "إشكالية المنطق".. ولكي نستوعب ما يعنيه مصطلح "إشكالية المنطق"، علينا أولا أن نفهم ما هو المنطق.. الموسوعة العربية تصف المنطق بالكلمات التالية.. المنطق Logic، ويسمى باليونانية Logike، وعلم المنطق يسمى أيضا علم الميزان، إذ به توزن الحجج والبراهين، وكان ابن سينا يسميه "خادم العلوم"، كما كان الفارابي يسميه "رئيس العلوم"، وجاءت تسميته بالمنطق من النطق، ويطلق على اللفظ، وعلى إدراك الكليات، وعلى النفس الناطقة.. أما اصطلاحا، فالمنطق "صناعة تعطي جملة القوانين، التي من شأنها أن تقوم العقل، وتسدد الإنسان نحو طريق الصواب، ونحو الحق، في كل ما يمكن أن يغلط فيه من المعقولات".. وعموما المنطق هو علم القوانين الضرورية الضابطة للتفكير، لتجنبه الوقوع في الخطأ والتناقض، فهو يضع المبادئ العامة للاستدلال، وللتفكير الصحيح، كما يعرف بأنه علم قوانين الفكر الثلاثة.. "قانون الهوية": ويعنى أن لأي شيء ذاتية خاصة، يحتفظ بها من دون تغيير، فالشيء دائما هو هو (أ هو أ)، فالهوية تفترض ثبات الشيء على الرغم من التغيرات التي تطرأ عليه، فأنا هو الشخص ذاته الذي كنته منذ عشرين عاما، على الرغم مما طرأ عليّ من تغيير.. "قانون عدم التناقض": ينكر هذا القانون إمكانية الجمع بين الشيء ونقيضه، فلا يصح أن يصدق النقيضان في الوقت نفسه، وفي ظل الظروف نفسها، إذ لا يصح القول: إن هذا الشيء، وفي هذا الوقت "أزرق" وليس "أزرق"، "أ" لا يمكن أن تتصف بأنها "ب" وبأنها ليست "ب" معا.. "قانون الثالث المرفوع": ويعني أن أحد المتناقضين لا بد أن يكون صادقا، إذ ليس هناك احتمال ثالث بجانب المتناقضين، يمكن أن يكذبهما معا ولا يوجد وسيط بينهما، فإما أن نثبت محمولا معينا لموضوع ما، وإما أن ننفيه عنه.. هنا ينتهي تعريف الموسوعة العربية للمنطق.. أما الموسوعة الرقمية ويكيبيديا فتصفه بأنه: هو فرع الفلسفة، يدرس صور الفكر وطرق الاستدلال السليم، ويعتبر أرسطو هو أول من كتب عن المنطق بوصفه علما قائما بذاته، وسميت مجموعة بحوثه المنطقية "أورجانون"، فكان في نظر أرسطو القياس هو صورة الاستدلال.. ولكن بقيام النهضة الأوروبية ونهضة العلوم الطبيعة، أصبح المنطق علما مختلفا نوعا ما عن منطق أرسطو، فظهر منطق الاستقراء الذي كان رائده "فرانسيس بيكون"، واستكمله بعد ذلك جون ستيورات ميل.. أما في زمننا المعاصر، فالشائع هو منطق براجماتي، الذي يبني صدق الحكم على النتائج العملية، إلى جانب المنطق الرياضي، الذي ابتدأه ليبنتز، وعدله برتراند راسل الذي ربط الرياضة بالمنطق وجعلها امتدادا له.. كانت هذه البداية العلمية المعقدة ضرورة على الرغم من ثقلها، لأننا لا يمكن (منطقيا وعلميا) أن نتحدث عن شيء، دون أن نعلم أولا ماهية هذا الشيء.. وهذا جزء أساسي من علم "التنمية الذهنية".. وعلى الرغم من الفقرات السابقة التي تتحدث عن علم المنطق وأهميته، بالنسبة إلى التفكير السليم، فإن "التنمية الذهنية" تتعامل معه من منطلق مختلف تماما.. وهو ليس منطلقا معاديا ولا متناقضا، ولكن يمكن القول: إنه محاولة لتوضيح فكرة أساسية، تبين لماذا يختلف الناس، على الرغم من أن كل منهم يرى أنه منطقيا على حق! ودعونا نتساءل أيضا: لماذا؟! والواقع أنه لعلم "التنمية الذهنية" إشكالية مع المنطق.. والإشكالية ليست في قواعد المنطق أو أسسه.. ولكن الإشكالية فينا نحن.. وهذه الإشكالية هي السبب، في أن منطق كل منا يختلف عن منطق الآخر، في الأمر ذاته.. ولهذا قد نتفق فيه.. أو نختلف بشأنه.. كل حسب منطقه.. هذا لأن المنطق ليس فقط علما.. إنه أيضا أسلوب تفكير.. واختلاف في نظرتنا إلى الأمور.. وهذا الاختلاف يرجع إلى عدة عوامل، تختلف نسبها من شخص إلى آخر، فنجد مثلا أنه لو أخذنا عينة من الفئة الانحيازية، التي تمثل تسعين في المائة، من مجموع أي مجتمع، في كل دول العالم، فسنجد أن انحيازية الفرد فيها وفقا لدرجتها تحكم ما يراه هو منطقيا.. أما لو طرحنا الأمر على عينة من الفئة التعادلية، أو التي تمثل ثمانية في المائة، من مجموع عينات الفكر مع نفس المعطيات، فسنحصل على منطق مختلف تماما، لأن المنطق في هذه الحالة لن يكون منحازا إلى اتجاه بعينه، ولن يكون متعصبا لفئة دون سواها، وبالتالي سيكون أقرب إلى الصواب.. ولكنه لن يكون المنطق الصائب تماما.. فالمنطق الصائب الذي لا تشوبه أي شوائب، لا يمكنك الحصول عليه إلا عبر عينة من الفئة التجردية، والتي لا تزيد عن اثنين في المائة من مجموع مفكري أي دولة، وتجردهم سيجعلهم يتحرون الدقة قبل طرح منطقهم، وسيدفعهم إلى استبعاد كل الانفعالات والتعصبات من فكرهم، فيأتي منطقهم واقعيا متناغما مع قوانين الفكر الثلاثة.. الانحياز إذن هو أحد أهم أسباب فساد المنطق، وعدم القدرة على الحكم على الأمور من منظور صحيح، بل والتحيز أحيانا إلى ما هو مناقض للمنطق، إذا ما تصور الشخص الانحيازي أن واجبه هو أن يخالف الموقف، باعتبار أنه مخالف لمعتقداته، وما نشأ عليه أو ما زرع في رأسه وفكره منذ حداثته.. وكمثال (مجرد مثال)، تعال نفترض أن شخصا شديد التدين وضِع أمام خيار ما، وأن المنطق السليم يشير إلى أن (أ) هو الخيار المنطقي الصحيح، ولكن أحدهم أشار إليه، ولو من بعيد، بأن (ب) يتوافق مع ديانته التي لا يقبل أن يمسها مخلوق.. في هذه الحالة، وحتى لو كان واثقا من أن (أ) هو المنطق الصحيح، فسيصر على أن (ب) هو الصحيح، لافتراضه بأنه لو وافق على (أ)، يكون قد خالف تعاليم دينه.. الأكثر من هذا أنه قد يؤمن تماما بأن المنطق يقود إلى (ب)، لأن نفسه تميل (انحيازيا) إلى (ب)، وليس إلى (أ).. فإذا ما حدث صراع نفسي داخله بين عقله، الذي يدرك أن (أ) هو المنطق الصحيح، وانحيازه الذي يدفعه دفعا نحو (ب)، فقد يصل به الأمر في هذه الحالة إلى مهاجمة علم المنطق في حد ذاته، باعتباره يسبب له ارتباكا ويفسد في عقله ما نشأ عليه.. السبب الثاني لفساد أو إشكالية المنطق، هو نقص أو غياب المعلومات الأساسية، التي يبني عليها الشخص قناعاته ومنطقه.. تعالوا نتصور أن قد برمجنا جهاز كمبيوتر بمعلومة أساسية، تقول إن: (7 + 5= 3)، وطلبنا منه أن يعتبرها أساس حساباته، ثم طرحنا عليه بعدها سؤالا عن حاصل طرح (3-5).. إجابته في هذه الحالة ستكون (7)، وفقا للمعلومة الأساسية، التي عبرها توصل إلى النتائج، وستكون هذه الإجابة -بالنسبة إليه- منطقية تماما، لأنه بناها على ما لديه من معلومات، قيل له إنها أساسية.. المدخلات المعلوماتية الخاطئة، تؤدي إذن إلى نتائج خاطئة ومنطق فاسد.. والمثل الإنجليزي يقول: "Garbage in garbage out". ومعناها بالعربية: لو أدخلت شيئا فاسدا فلا بد أن تخرج بنتيجة فاسدة. المنطق إذن لا يمكن أن يكون سليما، إلا إذا بُني على معلومات سليمة.. وهنا تكمن إحدى الإشكاليات الكبيرة للمنطق، بالنسبة إلى علم "التنمية الذهنية".. فلكي تثق في سلامة منطقك، لا بد أن تتأكد من صحة وسلامة معلوماتك أولا، وألا تعتمد فيها على شائعة ما، أو معلومة غير مؤيدة بأي أسانيد.. ويجب أيضا أن تتأكد من أن معلوماتك كاملة غير منقوصة، لأن المعلومات الناقصة لها نفس تأثير المعلومات الفاسدة، خصوصا لو كان مصدر المعلومات انتقائيا لا ينقل لك الحقيقة كاملة، وإنما ينتقي منها ما يناسبه ويتفق مع هدفه فحسب، ويحجب منها ما لا يناسبه، أو ما قد يتعارض مع هدفه.. السبب الثالث الذي يؤدي إلى إشكالية المنطق أو فساد المنطق، هو تجاهل البدايات، وبناء المنطق من نقطة تخالف ما ينبغي بدايتها منه.. وهنا دعوني أطرح عليكم أطروحة (فزورة).. ثلاثة رجال يعملون في مكتب واحد، أرادوا شراء جهاز راديو لتسليتهم في المكتب، فأتوا بساعي المكتب، وسألوه عن سعر الراديو، فأخبرهم أنه ثلاثون جنيها، وهنا أعطاه كل منهم عشرة جنيهات لشراء الراديو (10×3= 30).. ولكن ساعي المكتب كشف أن سعر الراديو هو خمسة وعشرين جنيها فقط، فاشترى الراديو، وأخذ لنفسه جنيهين، وأعاد لكل منهم جنيها من الثلاثة جنيهات المتبقية.. وهكذا يكون كل منهم قد دفع عشرة جنيهات وعاد إليه جنيه، إذن فقد دفع كل منهم تسعة جنيهات بالتمام والكمال (9×3=27).. وهنا نجد أنفسنا أمام إشكالية رقمية عجيبة، فالرجال الثلاثة دفع كل منهم تسعة جنيهات، أي (9×3=27)، والعامل أخذ لنفسه جنيهين (27+2= 29).. المجموع إذن تسعة وعشرين جنيها! فأين ذهب الجنيه المتبقي؟! احسبوها.. ولنا بقية..