"إنك لا تستطيع أن تناقش موضوع المحيطات مع ضفدع تعيش في بئر، فهي محصورة بعالمها المحدود! ولا تستطيع التكلم عن الثلج لحشرة صيفية، فهي محكومة بفصلها الوحيد! ولا تستطيع أن تتكلم عن "طريق المعرفة" لباحث متحيز، ففكره مقيد بجزئية الاختصاص والمعرفة!" _ من نصوص الطريقة التاوية. تطرح فكرة "الاختصاص المعرفي" تساؤلات محورية في المدي الذي يمكن لباحث أن يسبر أعماق الحقيقة وأن يخرج بنتائج موضوعية ودقيقة في بحث ما، كما تطرح إشكاليات عندما تتعلق بالأخذ والتلقي من علوم أخري. وبدهيا لا يجادل اثنان علي المنحي "الاختصاصي" الذي سلكه العالم المعاصر بما يقتضيه التبحر في علم معين من سنوات وربما "حياة" أكثرمن باحث لسبر أعماق حقيقة ما وتثبيت أو دحض نظرية ما، ولكن بالمقابل تطرح تساؤلات مشروعة في مدي وأهمية وامكانية "تضافر" علوم متشابكة في البرهان علي مدي صدقية بحث معين وإعطائه عمقا دقيقا في البرهان والقرب من الحقيقة."جزئية المعرفة" هي إشكالية متجذرة في البحث العلمي والأكاديمي وتخيم بظلالها علي مختلف الأصول والفروع للمباحث العلمية والأكاديمية والأدبية والفنية. وهي ظاهرة يمكن وصفها بالحديثة نظرا لتشعب العلوم وتطورها وتفرعها لتخصصات دقيقة بشكل متسارع وغير مسبوق. وهي إشكالية لازمت الباحثين والمستكشفين والمخترعين والعباقرة منذ الأمس القريب. وثمة تساؤل يبرز في هذا الإطار وهو: هل توجد وسيلة علمية أو منطقية للتغلب علي "جزئية المعرفة" أم أنها إحدي آفات العلم الحديث التي لا بد منها؟ الإجابة هي نعم ولا في نفس الوقت. فالتخصص الدقيق في فروع العلوم والمعارف يلغي إمكانية تجاوزها بغير تعلمها واتقانها والتبحر فيها، وفي نفس الوقت فهناك ضرب من "أصول" الفكر والعلم الذي يعتمد العقل الذي هو مناط البحث والتحليل والتفكير وهو ("الفلسفة" المقرونة بالثقافة الواسعة). فالمثقف تعريفا ليس هو من يعرف كل شيء لكنه "الشخص الذي يعرف شيئا من كل شيء"! كما أن هناك وسيلة أخري للتغلب علي جزئية المعرفة في العلم الواحد بإدراك "أصول العلم" بما يمكّن الباحث من "الاستنباط" والقياس والتحليل المنطقي. فالمعماري المهتم والمتخصص تخصصا دقيقا في التصميم الحضري مثلا، لا يمنعه ذلك من الإلمام بتاريخ العمارة ونظرياتها أو تاريخ الفن عموما إلماما يقترب من دوائر التخصص والتبحر لانتماء الفروع لذات الأصل، وهذا كله مقرون بتملك ذهنية برهانية تحليلية تعتمد العقل والمنطق في القراءة والتحليل. وذات الأمر ينطبق علي متخصص في علوم الطب والتشريح وعلوم الأدوية _ فلا يمنع الطبيب "العام" مانع من الإلمام بفروع من الطب تقع خارج دائرة تخصصه العامّ أو الدقيق وهكذا. فالانتقال من دوائر الفروع ضمن ذات العلم أو التخصص العام ممكنة ومتاحة وأقرب للتحقيق منها من الانتقال من دوائر خاصة جدا من علم لآخر. وبالرغم من كلامنا هذا إلا أن المتأمل يلاحظ أن العقل الإنساني غير محدود بقدراته وإدراكاته وما يمكن للإنسان أن يتقنه في حياة واحدة. فالمرء يمكنه اتقان أكثر من لغة، ويتبحر في علوم ونحويات وبلاغة لغته الواحدة الخاصة، ويتقن في ذات الوقت أصول الحساب والجبر والرياضة العقلية، وبالتدريب والمران والممارسة يمكنه إتقان علوم مختلفة _ وأمثلة وشواهد الماضي العربي والمسلم تثبت ما ذهبنا إليه، لنجد علماء مسلمين مثل ابن سينا والرازي وغيرهم وقد برعوا في أكثر من علم. ومن قبلهم برع أرسطو وأفلاطون في علوم متعددة متباينة. لكن الملاحظ لسيرة هؤلاء العلماء جميعا أن "الفلسفة" كذهنية منطقية ومنهجية عقلية تحليلية كانت رابطا وقاسما مشتركا بينهم _ وبين علومهم المختلفة التي أتقنوها. والفلسفة ككلمة يونانية المنشأ والأصل _ تعني "حب الحكمة والمعرفة" _ هي مناط النشاط العقلي والذهني الذي يفتح القنوات للعقل كي يمارس دوره الذي وهبه الله تعالي له. وهي منهجية مارسها العقلاء في التاريخ البشري للتعامل مع الظواهر المحيطة وتفسيرها بالعقل ورد الأسباب إلي مسبباتها. فهي مفتاح كل العلوم والدواء "العقلي" للتعامل مع آفات التناقضات المحسوسة والمشاهدة وسبر أغوار بواطن الظواهر. والتساؤل هنا: هل يمكن للفلسفة وحدها أن تصل لكل الحقائق وأن تفسر كل المشاهدات والمحسوسات اعتمادا علي التحليل العقلي والبرهان المنطقي وحده؟ نحن نزعم أن الفلسفة "العقلية" بدرجاتها العليا يمكن بما زرعه الله تعالي في "طبيعة العقل" أن تتوصل لتفسيرات سليمة ومنطقية _ هذا من ناحية نظرية فقط، لكن درجات نجاحها تتفاوت بتفاوت القدرة العقلية وبما يمكن للعقل المحدود وبنسبة الخطأ البشري أن يضل به. ومن هنا فهذا التعميم أيضا هو محدود "بجزئية" هي جزئية "الإدراك" والقدرة الذهنية التي تقوي وتضعف بالممارسة والمران وتتحدد بتوافر عوامل معينة سنعرض لبعضها تاليا. ولكن وأمام هذه القدرات الذهنية "المتاحة" للعقل البشري الذي يمكنه التوصل إلي بواطن الأمور إن سلك "منهجية الفلسفة" يظل محدودا أمام قدرة صاحبها علي إتقان علوم أساسية لا بد منها لإتمام عمليات الاستنباط والقياس والتحليل. ومن هذه العلوم الأساسية مثلا هي علوم اللغة، والتي تكاد تدخل في كل الأصول والفروع للعلوم البشرية برمتها. فبدون إتقان اللغة إتقانا لدرجات تصل لمراتب عليا في بعض العلوم _ كعلوم الشريعة مثلا _ لن يتحرك المفكر من مكانه خطوة "عقلية" واحدة مطلقا. وفضلا عن إتقان علوم أساسية فتوفر صفات وظروف معينة هي من أبجديات سلوك منهج "التفكير العقلي المنطقي". فلقمان الحكيم عليه السلام قال لابنه موصيا:" يا بني إذا شبعت المعدة نامت الفكرة وخرست الحكمة"، وقال حكيم:"جسوم أهل العلم غير سمان"! فالعلاقة الجدلية بين العقل والمعدة وتوافر الشروط والظروف المناسبة للعقل كي يعمل عمله الطبيعي هي محورية وأساسية. وفي مقابل هذه المجموعات من الأفكار والتقديم في دور الفلسفة مقابل تخصصات العلوم وتفرعاتها، يبرز تساؤلنا الرئيس في هذه المساحة حول المستشرقين وإنتاجاتهم المعرفية لحضارات غير حضارتهم، ودور باحثينا العرب المسلمين "المستغربين" في إنتاج معارفهم في معاهد الغرب وعلي أيدي أساتذتهم "المستشرقين" وجزئية المعرفة "المزدوجة سلبا" في حالة الاثنين _ المستشرقين تارة، و"المستغربين" المتتلمذين علي يدي "مستشرقين" في الغرب تارة أخري.